}
عروض

تحوّلات الجسد بين السياسة والاستهلاك

عمر كوش

27 يونيو 2024


ركّز فلاسفة ومفكرون على البعد السياسي في سوسيولوجيا الجسد الإنساني، وأظهرت أعمالهم أن كل سيادة، أو بالأحرى كل سلطة، تسعى لفرض نفسها بالعنف والإكراه الجسدي، وتجسّد ذلك في أقسى حالاته في الأنظمة السياسية الحديثة، حيث بات من الممكن القول إن كل نظام سياسي يوازيه نظامٌ جسدي، وإن تلك الأنظمة لا تكف عن تطبيق سياسات حيوية، من أجل فرض سيطرتها المعنوية والمادية على أجساد مواطنيها. وفي هذا السياق، اعتبر ميشيل فوكو أن عمليات مراقبة الجسد وضبطه كانت سمة مجتمعات أوروبية حديثة، أدخلت أفرادها في شبكة ضيقة من العلاقات بغية مراقبة تحركات أجسادهم وضبطها، وأصبحت تلك الشبكات نمطًا لممارسة السلطة والسيادة، القائمة على ضبط أجساد الأفراد والرقابة التنظيمية على المجتمع، انطلاقًا من اعتباره السياسة مفهومًا تفاعليًا يقوم على آليات وعلاقات وبنى نظرية، تعمل على تحقيق أهداف السلطة، التي تقوم بفرض سيادتها، بوصفها قوة عنفية، تعمل على تثبيت النظام وتشريع القانونين. وبالاستناد إلى أطروحات فوكو اجترح جورجيو أغامبين مفهومي حالة الاستثناء والحياة العارية، فيما ذهب أشيل مبمبي إلى تطوير مفهوم السياسة الحيوية إلى "السياسات النكرونية" أو سياسات الإماتة والإحياء، التي يتم من خلالها تحديث تقنيات الحكم في السيادة، التي تُمارس فيها السلطة العنف، من خلال إدارة سياسية حيوية للسكان، واستخدام العنف الممنهج من أجل التدمير المادي الممنهج للأجساد البشرية.

بالاستفادة مما سبق، يحاول أحمد عبد الحليم في كتابه "الجسد في مصر: من السياسة إلى الاستهلاك" (دار جسور للترجمة والنشر، بيروت 2024) الإجابة عن سؤال يدور حول كيفية وصول مصر إلى سلطوية ما بعد 3 تموز/ يوليو 2013، من خلال تتبع الجسد وتمثيلاته المتعددة، والاستناد إلى تاريخية حق امتلاك السلطوية في مصر لأجساد المصريين، من أجل ضمان استمرارها وبقاء سطوتها. وسبق له أن أصدر مؤلفات أخرى حول قضايا الجسد في حالاته وعلاقاته المتعددة، مثل كتاب "من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنية"، و"تمثلات المجتمع المصري: في الذات والجسد والهوية"، وغيرهما من الكتابات. وفي كتابه الجديد، يعتمد المؤلف - إضافة إلى ما تقدم - على عدة مقابلات مع شباب من أعمار مختلفة، تعرضوا للاعتقال والسجن والنفي، وخاضوا العمل السياسي والحقوقي بعد ثورة 25 يناير 2011، وبناء عليها يناقش مواضيع في السياسة والسجن وقضايا في المجتمع المصري.

يعتبر المؤلف أن سلطوية ما بعد 3 تموز/ يوليو 2013 ركّزت على امتلاك الجسد، من خلال تقسيمه إلى مُعارض، وتابع، ومؤيد أو مُحايد، وفائض. وكان عقاب الجسد المعارض هو القتل أو الإخفاء أو العزل في غياهب السجون، أما الجسد التابع فقد أُخضع لعمليات من التصنيع والتدريب والتجهيز، كي يستخدم كأداة لتفعيل الاستثناء، فيما لجأت السلطوية إلى تدجين الجسد المُحايد، كي يكون مؤيدًا أو على الأقل يحتفظ بحياديّته، وكان اللوم والتحذير من نصيب الجسد الفائض. وعلى هذا الأساس ينظر المؤلف إلى سياسة السُلطوية الحالية في مصر، التي تحولت إلى سلطوية مشخصنة، وتميزت عن السُلطويات السابقة لها بتركيزها الكبير على الجسد، الأمر الذي حوّل السياسة إلى فضاء محرّم، لا يقترب منه أحد، خوفًا على الجسد، حيث يعني الاقتراب من السياسة هلاك الجسد، سواء بالإماتة أو بالإخفاء القسري أو بالسجن والعزل أو التعذيب والتشويه.

يقوم الجهد المبذول على محاولة تفكيك وإظهار التقاطع بين السياسة والاستهلاك، وانتقال الجسد بينهُما عبر تمثّيلاته وتوظيفاته المُتباينة، انطلاقًا من اعتبار السجن يمثل جسدًا مُقيدًا ومراقبًا، وتجري عمليات هندسته وإعادة إنتاجه من طرف السلطات القمعية، وبما يجسد السياسة في الجسد، فيما السياسة نفسها وبفعل أدوات متعددة، تحولت إلى استهلاكية، حيث تتشكل تمثيلات الاستهلاك عبر الجسد، من خلال تَمظهره وتسلّعه. وهنا يجري العمل على تعرية منهجية السلطوية غير المعلنة حول الحق في امتلاك الجسد، باعتبارها نقطة انطلاقة للوصول إلى فهم أكثر للأنظمة التي حكمت مصر خلال تاريخها الحديث، من خلال تبيان علاقتها بأجساد المصريين في جانبه السياسي المشكل لحالة الاستثناء، حيث عاملته السلطوية الأولى، ضمن أدواتها الحيوية، بوصفه آلة إنتاج، تُساعدها في البقاء والهيمنة، وفق ما عرّفه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بالسلطة الحيوية، التي تجسد حق السلطة في حياة أو موت الجسد، باعتبار الجسد مجرد رقم وسط أجساد أو أرقام أخرى، حيث نهضت سلطوية ما بعد 3 تموز/ يوليو 2013، على سياسة تجمع بين إدارة الأجساد كلها، وتقسيمهم إلى أربعة أنماط جسدية، مع التمييز وتطبيق حالة الاستثناء في القمع، التي فعّلتها حيال فئات مختلفة من المجتمع المصري.

قامت السلطوية بالاستناد إلى تطويع التشريع بقمع الاحتجاج الحركي للقوى الإسلامية وغير الإسلامية، ولم تسلم منها فضاءات صحافية وإعلامية وجامعية ومؤسساتيّة، وحتى روابط الأولتراس الرياضي والسياسي. كما عملت السياسات السلطوية على تفعيل حالة استثناء على الجسد السياسي، عبر قتله وإخفائه وسجنه. إضافة إلى التأثيرات المُباشرة التي أحدثتها السُلطوية، وطاولت مئات الآلاف من المعارضين، خاصة الشباب الذين انتموا إلى حزب الإخوان المسلمين، وذلك على مستوى تغيرات المشاعر والأفكار داخل سنوات السجون وخارجها في مصر والمنفى، حيث ألقت المرحلة بظلالها القاتمة عليهم.

ينتقل المؤلف إلى مناقشة هوية السلطوية التائهة التي لا تمثل هوية مستقلة بذاتها، بل تأخذ ما يناسبها من كل السرديات المصرية السلطوية السابقة، وتتمثل سمتها الأساسية في الاستثناء، كأيديولوجية وعقلية وسردية وممارسة تبرر سيطرتها وبقائها وهيمنتها على الحكم. ويرى أن القمع لا يقوم لوحده بتجفيف منابع السياسة عند الناس، بل عملت الثورة التقنية وعرض الحيوات المرئية، بالتوازي معه، على تغيير اتجاه الناس نحو السياسة، حيث كان العمل السياسي أو الثوري المخرج الوحيد لفئات عمرية متباينة، غير مرئية ومهمشة، التي وجدت في عرض حيواتها بوابة للخروج من حالة التهميش إلى المركز ونيل الاعتراف الاجتماعي، بالنظر إلى أن غالبيتهم لم تنل أي اعتراف اجتماعي من طرف الدولة ومؤسساتها الاجتماعية أو الثقافية، فيما ينسب المؤلف أغلبهم إلى التابع حسبما وصفه أنطونيو غرامشي، أي تلك الفئة من الناس، الذين ليست لهم انتماءات فكرية أو تنظيمية، ويتبعون الدولة ودوائرها السلطوية. وتتعدد طرق الحصول على الاعتراف، وكذلك الخروج من التهميش بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يصبح الظهور على المنصات التلفزيونية واليوتيوب والفيسبوك، بديلًا نضاليًا لتلك الفئات، وتحل الشاشة كفضاء بديل عن الأحزاب والعمل السياسي. إضافة إلى أن الالتفاف حول الذات والجسد، وحصر وجودها وبقائها بالإنجاز، عمل على تفكيك العمل المنظم الجماعي، الذي يعني العمل من أجل الآخرين، لا العمل من أجل الذات فقط، وبما يجعل تمثيل الذات منحصرًا عبر تمثيل الجسد ذاته، ويخلق تضادًا للوجود السياسي، حيث تقضي السياسة في ظل الاستثناء على الجسد، عبر قتله أو سجنه أو ابتلاعه.

أظهرت إحصاءات، أجريت بين صفوف الشباب في عدد من البلدان العربية، مدى إجهاض أحلامهم في التغيير والإصلاح والمشاركة السياسية، واضمحلال اهتمامهم بالسياسة وبالشأن العام. ويجد ذلك تجسيده في أن الجسد أخذ تمثيله في الاستهلاك بدلًا من السياسة، حيث انتقلت العلاقات التي كانت تتأسس وفقًا لروابط أخلاقية وفكرية وممارسات ثقافية وسياسية، إلى تلك المبنية على سلوكيات استهلاكية، وجرى استبدال العلاقات الإنسانية بمتعة الاستهلاك، التي باتت تحتل مكانة نفسية واجتماعية ورمزية بديلة عنها. ويجد كل ذلك تفسيره في حالة الإحباط التي سادت بعد إفشال الثورات والانتفاضات العربية في بلدان الربيع العربي، وأفضت إلى حالات من الياس، إضافة إلى أنها تركت آثارها النفسية على الشباب في تلك البلدان، ومعهم سائر من تطلّع نحو غد أفضل، وباتت فضاءات الاستهلاك تستقطبهم على مختلف المستويات. وانتقلت معها السياسة، بكل تجسيداتها وأجسادها ومفرداتها، إلى ساحات الاستهلاك، تاركة خلفها العمل السياسي والفضاء العام، لتركن إلى فضاء الترفيه والسهرات الليلية.

يعتبر المؤلف أن القمع السُلطوي، مع العجز في مُقاومته، جعل فئات صاعدة ومتنوعة، تخاف من السياسة، ولا تهتم بها ولا تكترث بمجرياتها، حتى أصبح مفهوم الخوف ذاته سياسة، وباتت تلك الفئات تحصر كل اهتماماتها في العيش تحت منظومة الاستهلاك والتسليع، حيث تحاط بكمّ كبير من السلع التي يحتاجها أو لا يحتاجها الناس. يضاف إلى ذلك التسليع الذي يُروَّجه النظام النيوليبرالي، الذي لا ينظر إلى الإنسان إلا بوصفه جسدًا مُستهلكًا، وسلعة يسعى للاستفادة منها، ويُهمّشها في نفس الوقت، من خلال عمله على تسخير قيمة الإنسان وفقًا لمحددات مادّية، غايتها الأساسية هي الربح، حيث تنهار القيم الإنسانية، وينتقل الجسد السياسي إلى الجسد الاستهلاكي، كي ينال اعترافًا من طرف السلطوية، بعد أن تعددت تمظهرات الاستهلاك وصعوده، مقابل موت السياسة وفكرها وتنظيمها وممارساتها، بل وتحوّلها إلى سياسة استهلاكية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.