}
عروض

"خالتي العنقاء": شعرٌ مختلف من أقاصي الفجيعة وبلاغتها

راسم المدهون

8 يونيو 2024

مجموعة الشاعر الفلسطيني خالد جمعة الجديدة "خالتي العنقاء" (منشورات المتوسط ــ ميلانو) تقترب من لهيب محرقة غزة وفلسطين الراهنة إلى حدود التماهي، وتبادل الحرائق، وما فيها من فقد وفجائع تفوق خيال البشر. ويشتعل بها الشعر في حمَى الرغبة في إطلاقها وصياغتها على نحو يليق بالتجربة في وجهيها ومعنييها الواقعي والمتخيل.
ولو اجتهدنا لتحديد نقطة مركزية تكون بؤرة انطلاق النقد وتشخيصه سنعثر على تلك النقطة في مركزية الموت ذاته كعلامة مميزة تشير إلى الحياة، لا لأنهما نقيضان يشير كل منهما إلى حضور الآخر، أو غيابه وحسب، ولكن أيضًا لأن قصيدة خالد جمعة (وفي هذه المجموعة بالذات) ذهبت لملاقاة تراجيديا الحياة والبشر العاديين في لحظة تاريخية فادحة بروح من يسعى كي تكون الرؤية الشعرية الحاضرة في القصائد "فادحة" بدورها، وأعني هنا بالذات أن "تحتدم" في سعيها الجمالي، الفني والفكري لتحقيق صورة "فنية" للموت، تتجاوز وقع الفاجعة ومفهومها، بل وحتى مفرداتها والوصول إلى تخوم أخرى مختلفة تحقق المشهد الشعري بوصفه بانوراما تتكرر وتعيد عرض نفسها مرّة تلو مرّة، ولكن على نحو مختلف كل مرّة. هي بهذا المعنى تقترح لياقة فنية مختلفة لقصيدة نثر تعيد ترتيب أولوياتها من خلال عناصر تغوص عميقًا في "العادي" والمتكرر لتجعلهما ينتسبان كل مرّة إلى المبتكر والمختلف من دون أن تغيب عن ذلك وخلاله البساطة الشعرية، البساطة التي تستدرج الموت كي يكون حاضرًا على نحو يليق بالضحايا، الذين "يعيشون" في الحاضر ويظلون عصيين على الغياب والنسيان، بل هم يبدون من خلال قصائد "العنقاء خالتي" بؤرة أيامنا الراهنة وسطور حياتنا القادمة.
هو شعر حياة تنبض وتشي وتبوح رغم صور من ماتوا وغابوا بأجسادهم، فما تزخر به قصائد المجموعة هو "حضور الغياب" الذي يمحو غياب الحضور ويعيد الإعتبار إلى كتابة شعرية تجوس في العذابات الكبرى فتمنحها صور التعبير بطلاقة وسلاسة تأتيان من علاقة وشيجة بين الذاكرة والحاضر، في المعنى لا تكتمل الجملة إلا لتفتح دربًا صاعدًا نحو بلاغة الصورة ووهجها حيث اللغة مفردات وصورة ولا تكتمل إلا بالعنصرين الحيويين والمشرعين على غاية كبرى هي استحضار الحياة وتمجيدها. وفي هذا تفارق قصائد خالد جمعة موروث الشعر الفلسطيني المقاوم، إذ هي تأخذ منه الوجهة والانتماء كما تجليا في صورة ساطعة في قصائد الراحل معين بسيسو، وخصوصًا في ديوانه الأول "المعركة" (القاهرة ــ 1952) من خلال التخفف من أحمال اللغة المباشرة والخطابية الحماسية والانحياز إلى لغة أخرى شفيفة وذات وشائج عميقة بالروح.
في "العنقاء خالتي" عوالم شعرية مكتنزة بأحلام الرؤية التي تستعيد البشر وتحدّق في الموت، قارئ هذه القصائد سيرى الموت بـ"أم مخيلته" قابضًا على سطور الكلام ومثقلًا بوقعه الباهظ على القارىء والشعر معًا، فالتأمل العميق يأتي عند خالد جمعة ــ غالبًا ــ لمناخ جامح في ولعه بالحديث المتكرر غير المعاد عن الموت بوصفه أحد أبرز عناصر المشهد "هناك"، إذ هو وعي لحظات الافتراق مثلما هو استعادتها في لوحات من شغف ووجد، لوحات تضع قصيدة النثر في حالة اشتباك حيوي مع تراجيديا الواقع التي تبدو غالبًا بوجوه سريالية عصية على التصديق بالرغم من واقعيتها الشديدة:
"يا خالتي العنقاء
منذ قرن من الزمان
أجلس منتظرًا
أحدق في الرماد".
هي لغة تنسج الفجيعة في تجلياتها الكبرى، إذ استولت على الحياة وامتلكت صورها التي لا تحصى. لغة تتكئ على المشهد، ولكنها تدرب نفسها على حيوية الصورة الشعرية التي تجتهد لتحقيق جدلية مع رؤى الشاعر المسكون بفكرة الزمن لا باعتباره "وقتًا" ما بين تاريخين يحددان الأيام، ولكن كسفر هائل من عبث الحروب بفقدها وتغييبها حتى للبيوت والشوارع وقبل ذلك وبعده تغييبها للبشر ساكني تلك البيوت والذين تجعلهم القصائد قريبين لا يغيبون، بل هم "يؤلفون" حضورهم الشرس في الشعر، ويعيدون تركيب الحياة القديمة وكأنها من مفردات الحاضر والقادم معًا. ذلك يأخذنا إلى مقاومة الفكر وما يستدرجه من نسب لهذه القصائد مع فكرة المقاومة وعالمها بقوة، وإن كان علينا هنا أن نسارع لتوضيح أن انتساب قصائد هذه المجموعة للمقاومة وفكرها وعوالمها يأتي مغايرًا تمامًا، بل أكاد أقول إنه يحمل نسجًا مغايرًا غادر صاحبه منذ زمن البدايات لغة السرد المباشر من خلال الخطاب المباشر، وذهب لخطاب "حلمي" يناوش معنى الحرب والموت وفقدان الأحبة بأدوات ومخيلة تسافر في الروح لتستدرج من كهوفها ومغاورها، بل وأزمانها ومواعيدها الباهظة، حيوية الحياة ذاتها على نحو يمزج الواقعي المباشر والملموس، بالمتخيل البسيط والمركب، وحتى بالفانتازي والسريالي.




وفي أحيان كثيرة، نراها ونستعيد مع صاحب هذه القصائد تركيبها في مخيلتنا بصورها وكلماتها، وحتى بظلال تلك الكلمات والصور، خصوصًا أنها تحثنا على رسمها في مخيلتنا بقوة حضورها:
"أخبرني قصة أخرى
لا تكون أنت بطلها
لم تنقذ فيها عشرات النساء من الأعداء
لم تدافع فيها عن شرف الأمة
أخبرني قصة أخرى
وقل لي فيها على الأقل
أنك جعت ذات يوم
وخفت حين بدأ الجنود بإطلاق النار
كي أصدقك".
هي رحلة في قدرة التكثيف البليغ والحاد على رؤية المقاومة بحضورها العميق في مشاهد قد تبدو للنظر العابر هامشية وقليلة النسب لعوالم المقاومة وتفاصيلها العميقة، فهي لا تقارب عدّة المقاومة التقليدية وأدواتها المكررة، وتتجنبها منحازة لأدوات خلقها ولعوالمها بكاملها، ويمكن أن نقف أمام شيء كثير من هذا في هذه القصيدة ــ اللوحة:
"أرادوا أن يغيظوه
رقصوا على حقوله المحروقة
علقوا شعارات كثيرة على بابه
صورًا في طريقه إلى الصلاة
أخرجوا ألسنتهم في وجهه
أدهشتهم ردود فعله الباردة
ولأنهم غرباء، غرباء جدًا
لم يعرفوا أنه كان يقطع الطرقات بإحساسه
وهو أعمى".
هنا تبدو القصائد مسكونة بفكرة التعبير بسردية بسيطة تحمل نوعًا من استدراج الذاكرة المحمّلة بوقائع ثقيلة لرجال ونساء ذهبوا في الحرب وأهوالها خارج الحياة، وهؤلاء تنجح القصائد في جعلهم أبطالها وشخصياتها ورموزها الحاضرة، وهم في حضورهم البليغ في القصائد ولوحاتها المكثفة يعيدوننا إلى ولع القراءة الشعرية الواعية التي تتآلف مع النص، فتمنحه نبض العبارة والصورة، ويمنحها إطارها وما يليق بها من حضور.
تكتمل قراءة "خالتي العنقاء" بملاحظة وعي القصائد بشغف الشاعر بعوالمه ومناخاتها، فنحن أمام شاعر ينحاز لتلك القصائد ومناخاتها و"أبطالها" من الراحلين والأحياء، بل نلحظ من دون عناء، أو بحث، أن شغفه هذا يمتد للأماكن التي نراها في كثير من الأحيان تلعب دور البطولة  فتحضر ببهاء صورها وصخب ناسها، من دون أن ننسى صور الأعداء وظلال بنادقهم التي استباحت البشر والأشجار والحجارة، فنحن أمام هذا الخليط المتناقض في صراع عناصره وتفاعلهم نستعيد حيوية تكتمل بتلك الروح المثقلة بحزن شفيف، حزن يلوح في القصائد وملامح أبطالها، كما في سطور الشعر ذاته.
هي مرثية كبرى، مرثية يصعد فيها الحزن الشرس الذي لا يليق به البكاء، ولكن يليق به حضوره وسطوره وكلماته، بل وصوره وما فيها من تخوم نتبعها في انثيالها على نحو حميم:
"الأمل ما زال قائمًا
أن تعود إلى سيرتك الأولى
شجاعًا كقطة تدافع عن صغارها
رقيقًا مثل ياسمينة دمشقية
ملجأ لمن شردتهم الحروب
مائدة للجوعى الذين يستحون من الشكوى
الأمل ما زال قائمًا
لو أنك تخرج لعشر دقائق
من قبرك القديم"؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.