}
عروض

"قد شغفها حبًّا": حكاية زوجة "الرجل الأول في غزّة"!

يوسف الشايب

12 يوليه 2024


"كانت تعنيني مقاومته ورجولته... وما بين الرجولة والذكورة رائحة تعرفها امرأة طاعنة في حب الوطن... وما بين السبع والنذل خطوة بلا أقدام، كما يوسف الذي فقد ساقيه في إحدى غارات الاحتلال... لم أكن أتصوّر، مهما شطح بي الخيال ووصل، أن أكون ملكة متوّجة على عرش الرجل الأول في غزّة، الرجل الذي يدير عمليّات القتال، وهو جالسٌ في حفرته... الشيخ الأكثر مراوغة، وحيطة، وحذرًا، ومهارة، وخطرًا".
بهذه العبارة التي تأتي على لسان "وداد"، زوجة "يوسف"، الرجل الأول في غزة، تستهل الروائية الأردنية نردين أبو نبعة روايتها "قد شغفها حبًّا"، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.
"وداد"، التي عقَّبت على والدتها قبيل زواجها من "يوسف" المطلوب الأول للاحتلال في غزة، بأن "غبّة من السبع ولا النذل كلّه"، تتقاسم السرد في الرواية مع "هيام" زوجة المطلوب للاحتلال أيضًا "يحيى"، على شكل مذكرات استهلتها بكونها ستكتب "اسمها الحقيقي واسم هيام فقط، أما أسماء أزواجنا فلا، سأغيّر أسماءهم لدواعٍ كثيرة، أولها الداعي الأمني، وثانيها لأني أعرف أن كل من سيقرأ سطوري سيكتشف الأسماء الحقيقية"، وكلما انتهت "وداد" من كتابة فصل ألحقته بفصل ممّا كتبت "هيام".
وبالفعل، ومن التوصيف، ومن دون حتى التصريح لاحقًا من الروائية ذاتها، يتضح أن "يوسف" هو محمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس، و"يحيى" هو يحيى عيّاش، من أبرز قادة ذات الجناح العسكري، وعملا سويًا على تطوير الأحزمة الناسفة وعمليات أسر وقتل جنود الاحتلال، فالثاني استشهد في العام 1996 ببيت لاهيا في قطاع غزة.
وتكشف الرواية على لسان كلّ من "وداد" و"هيام" كيف أن الأولى أخفت وأسرتها أمر زواجها من المطلوب الأول لإسرائيل، وكيف تم تهريب زوجة "يحيى" وطفله وأمه من نابلس، حيث كانوا يعيشون، إلى غزة، عبر "مِرسال" زودهما بهويّات مزورة، وكيف رافقوه من دون معرفة وجهته، حيث قطعوا حاجز قلنديا وصولًا إلى حاجز بيت حانون (إيرز).
"وصلنا إلى حاجز إيرز، وكانت الشمس توشك على الغروب، وهو وقت رجوع عمّال غزة الذين يعملون في إسرائيل... استغل الشاب الذي معنا فرصة تدفق العمّال كالسيل، وحملي طفلي وحقيبتي، وقال لي ولخالتي: امشوا بسرعة... مشينا مسافة طويلة نوعًا ما إلى أن وجدنا كارّة، ركبنا عليها، ولأول مرّة أدخل البريج... وكانت هذه الرحلة الأولى لي إلى غزة في أواخر شهر 11/ 1994".
ومع تنقل السرد بين "وداد" و"هيام"، تكشف زوجة "الرجل الأول في غزّة"، وتطلق عليه لقب "يوسفي"، باعتبار أن اسمه السردي هنا "يوسف"، أنه لم تمضِ على زواجها منه أيامًا قليلة حتى نشبت الحرب، متحدثة بإسهاب عن الخوف، الذي يتملك الآن كل سكّان القطاع ممّن هم فوق الأرض، ولا يزالون على قيد النَفَس، فأن "تخاف، يعني أن يصعد قلبك بسرعة مجنونة إلى أعلى ثم يرتطم، في اللحظة نفسها، إلى أسفل... الخوف هو بعثرة الخطى، وانطفاء الروح في لحظة وإضاءتها في لحظة أخرى... استدارة الروح في الروح في الرمق الأخير إلى الجسد".




ووصفت "وداد" مشاهدات الحرب، التي تبدو وكأنها حرب الإبادة المتواصلة منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، رغم أن الفارق بين الحربين خمسة عشر عامًا ويزيد، وارتفاع غير مسبوق في عدد الشهداء، وفي عدد المجازر، وبشاعتها بحق سكّان القطاع، وإن كان الوصف ينطبق، ولو مع شيء من التقزيم على ما يحدث الآن، حيث القصف، والدم، والأشلاء، والنزوح، والهروب بين الدخان والشظايا.
فيما تسرد "هيام" حكايات تنقلها من مكان لآخر، فبعد مخيم البريج انتقلت لتعيش لدى عائلة "أم هاني" في مخيم جباليا، الذي اقتُحِم بحثًا عن "يوسف" و"يحيى"، فتركته إلى آخر، وهكذا، فأن "تتزوجي مُقاومًا يعني أن يكون الوطن على مقاس يده، وبلوْن دمه، وبحجم قلبه، أن يأخذ بيدِكِ إلى الله، فتعرفين أن للسماء أبوابًا لا تُغلق، وأن للمقاومة لحنًا لا بد من أن يُسمع... أن تتزوجي مُقاومًا يعني أن تضيئي كل أنوارك، ويصبح هو أرضكِ وسماءكِ".
وللزواج من مُقاوم ضرائب كثيرة، وهو ما تؤكده "وداد"، لافتة إلى أنها لن تكن تملك هاتفًا نقّالًا، ولم يكن يُسمح لها باستخدام أي وسيلة اتصال حديثة، أو غير حديثة... "كنتُ أعرف أنني أدفع ثمن ارتباطي به في صمت وكتمان، قد تُشفق عليّ أمي التي وهبتني له، وقد يُشفق عليّ أبي الذي وقّع عقد شهادتي عندما وقّع عقد زواجي، وهذا احتمله أيضًا، ولكن ما لا أحتمله أن يمضي قبلي، فأنا لستُ أطيق رحيلًا ثانيًا، إما أن أرحل قبله أو نرحل سويًّا"، في إشارة إلى أن الرحيل الأول كانت استشهاد "بلال" زوجها الذي سبق "يوسف" إليها، وكانت أنجبت منه ولدًا ذكرًا وابنتين، في حين أنجبت ليوسف، أربعة.
تتحدث "هيام" في الرواية التوثيقية، عن "يحيى" ابن قرية "رافات"، وتصفه بـ"فارس الكتمان والحذر"، حيث "ظل صامتًا حتى انفجرت القنبلة التي عرّفت الناس به، وكان ذلك في العام 1993، ومنذ ذلك الوقت أصبح مطاردًا"، في إشارة إلى ضلوعه، وهو خريج الهندسة الكهربائية من جامعة بير زيت في عملية "رامات أفعال" بتل أبيب، وقُتل فيها العشرات بسيّارة مفخخة، وتتذكر "صباح تلك الليلة التي عاهدتُ يحيى فيها أن أقف خلفه، أتى الجيش... أخرجونا خارج المنزل، وتحت المطر، أبقونا في العراء لساعات، أنا وطفلي الرضيع وخالتي أم يحيى"... قال لها الضابط، وقتذاك، "بتعرفي شو راح أعمل بيحيى بس أمسكه؟ راح أربطه بسيارتي، وأدور فيه كل شوارع تل أبيب، ثم أقطعه لقطع قطع، وأعطي كل يهودي قطعة".
وفي الرواية، ثمة مقاربة بين ما كان يحدث في قطاع غزة، خلال عدوان العامين 2008 و2009 والنكبة الفلسطينية عام 1948، وقد تكون مقاربة دقيقة، لأن ما يحدث في حرب الإبادة المتواصلة على القطاع منذ ما يقارب التسعة أشهر، يفوق توصيف "النكبة" بكثير.
استشهد "يحيى" في غزة، وترك زوجة وطفلين، واستشهدت "وداد" زوجة "يوسف"، واثنان من أطفالها، في قصف استهدف منزلًا يقيمون فيه، وهنا فقط عَرفت غزّة زوجة من تكون.
"الفراق لا يؤلم إلا من عشق بجسده، أما من عشق بروحه فلن يؤذيه الفراق، لذلك لم أكن أرتعب من فكرة الموت، بقدر ما يرعبني ألا أتذوق طعم الحياة... لكن، وبعد سنواتي السبع صحبة يوسف كانت حصيلة حياتي أربعة أطفال، وحياة كما أشتهي وأتمنى، وموتًا يليق بي!... أنظر الآن من أعلى إلى تلك الفتاة التي لم تتجاوز الـ27 عامًا، والتي كانت تحلم أن تحزم حقائبها في يوم ما، وتسافر وترى الدنيا... أن تقتني سيارة حمراء اللون تتجوّل بها في شوارع غزّة، ترفّه عن نفسها وأطفالها، تأخذهم وتلف بهم على شاطئ بحر غزة... أحدّق مليًا في ذلك الجسد الذي لم يُعرف له عنوان، فالعناوين في غزة تتغيّر بين ليلة وضحايا، كما كل شيء... كنتُ كتابًا مُغلقًا، لم يستطع أحدٌ فكّ رموزه، حتى أقرب المقرّبين إليّ، وفي اللحظة التي أعلنوا فيها خبر استشهادي، أعلنوا فيها خبر زواجي من القائد الذي دوّخ إسرائيل، وسقاها السمّ مرارًا، لكن ما هدّأ روعي، في هذه اللحظة، أنني تركت حكايتي مكتوبة... حكايتي مع غزة، ومع يوسف".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.