}
عروض

"غزة حجر الزاوية": في توثيق "طوفان الأقصى"

جورج كعدي

17 يوليه 2024


يمكن أن نقاسم البروفيسور إيلان بابيه وجهة نظره العلمية في مسألة جواز التأريخ "على الحامي" أي من قلب الحدث قبل انصرامه، أو عدم جوازه والانتظار المفضّل لأن يكون تأريخًا "على البارد"، أي على مسافة زمنية من الحدث نفسه. جدليّة بابيه، الأكاديميّ والباحث المناهض للصهيونية، نقع عليها في تقديمه لكتاب الأكاديميّ والمؤرّخ الفلسطيني جوني منصور "غزة حجر الزاوية" الصادر حديثًا في منشورات "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت. يقول بابيه في تقديمه لهذا الكتاب: "من الصعب جدًا، ونحن قريبون من أحداث 7 أكتوبر 2023، أن نحصل على صورة كاملة لما حدث بعد ذلك. وبينما سارعت إسرائيل إلى نشر روايتها للأحداث، سرعان ما تبيّن أنّ عددًا لا بأس به من ادّعاءاتها لا أساس له من الصحة. بعض أحداث ما أصبح يُعرف بعملية طوفان الأقصى سيبقى غامضًا لبعض الوقت، قبل أن تتكشّف الحقيقة كاملة. أمّا عن ردّ الفعل الإسرائيلي والانتقام من عملية حماس، فإنّ الصورة أكثر وضوحًا: إبادة جماعية كانت تنفّذ وتبثّ يوميًا إلى الملايين من الناس على شاشاتهم. ولكن هنا أيضًا علينا أن ننتظر بعض الوقت حتى ندرك الحجم الكامل للكارثة الإنسانية ومستوى الدمار الذي حلّ بغزة. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الصور غير المكتملة، من المهمّ للغاية تجميع واستيعاب ما نعرفه بالفعل. بعض ما يمكننا الوصول إليه الآن قد لا يكون من السهل الوصول إليه لاحقًا. والتفاصيل كثيرة إلى درجة أننا إذا انتظرنا طويلًا قد نفوّت أجزاءً مهمة من اللغز الذي يحاول الكتاب إكماله. وهذا الكتاب هو المحاولة الأولى لتجميع وتسجيل وتقديم ما نعرفه حتى هذه اللحظة من الزمن، كتبه مؤرّخ ذو خبرة كبيرة، سجّل بدقة الأدلّة والشهادات وتقارير الصحف ومقالات الرأي والعديد من المصادر الأخرى، ودمجها في رواية واضحة وسهلة المنال".

يقدّم إيلان بابيه مبرّرًا كافيًا للتأريخ "المستعجل" و"الآني"، وحجّته الأبلغ أنّ الانتظار الطويل قد يضيّع التفاصيل التي سيصعب الوصول إليها لاحقًا. هي إذًا عملية صون وحفظ للذاكرة خشية ضياعها، وبذلك يكتسب كتاب منصور أهميّة خاصة ومقدّرة توثيقًا وحفظًا وتأريخًا، وهو يعي بحسب ما يورد في مفتتحه لكتابه أن الحرب الإباديّة على غزة ستكون موضوع معالجات سياسية وتاريخية وعسكرية واجتماعية واقتصادية وثقافية لسنوات طويلة مستقبلًا، معتبرًا أن كتابه هذا في عصر السرعة ومنصات التواصل والتقنيات الحديثة ليس نصًّا تاريخيًّا بل فيه محطات تاريخية تصادف المادة التي أُخضعت للنقاش والحوار.

الكتاب في فصول ثلاثة، الأوّل عن حدث السابع من أكتوبر وتداعياته وتطوّره وتدحرجه، مع التركيز على أبرز مفاصله كالحرب على المستشفيات. والفصل الثاني يتضمن تحليلًا ومناقشةً لبعض الشهادات التي قدّمها فلسطينيون وإسرائيليون وآخرون. والفصل الثالث الذي يحتلّ الحيّز الأكبر من الكتاب يناقش فيه الكاتب مقالات وآراء وتصريحات باحثين وسياسيين ومسؤولين، فضلًا عن مواقف بعض الحكومات، بغية فهم كيفيّة نظر جميع هؤلاء إلى الحدث وإدراكهم حجمه، فلسطينيًّا وعربيًّا وإسرائيليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.

يمعن جوني منصور في التفاصيل، وهذه ميزة جليّة في كتابه، فهو راصد دقيق للوقائع والتقارير والآراء والتحليلات، وتسعفه معرفته اللغة العبرية التي تسهّل عليه متابعة الإعلام الإسرائيلي، المقروء والمرئيّ في شكل خاص، على قاعدة إعرف عدوّك بلغته ولسانه وآليات عمله وتفكيره وتصريحات مسؤوليه. يتابع عن قرب، وهو ابن حيفا، الضربة والصدمة التي تلقّتها "إسرائيل" على نحو لا مثيل له منذ حرب أكتوبر 1973، أي منذ نصف قرن بالتمام والكمال، لتنطلق هي بدورها إلى حرب إبادية وتدميرية غير مسبوقة ضدّ غزة بشرًا وحجرًا، بدعم أميركيّ وغربيّ معلن. لكن سرعان ما انطلق التضامن العالمي مع غزة في ظلّ استمرار الهجوم الوحشيّ، وعمّت التظاهرات المدن والعواصم، وخرج الطلاب في الولايات المتحدة ليبدعوا في مظاهر الاحتجاج ويعتلوا بوارج حربية لمنعها من الإبحار باتجاه "إسرائيل" محمّلة بسلاح لقتل الفلسطينيين في غزة. فضلًا عن مظاهر احتجاج أخرى لشخصيات غير سياسية كالأطباء والممّرضين/ات في منظمة "أطباء بلا حدود" وأعضاء البرلمانات الأوروبية والحكومات. وفي المقابل كانت تنشط الآلة المناهضة للحق الفلسطيني والداعمة للكيان الصهيوني فتضغط على الحكومات والشركات العالمية والمؤسسات الإعلامية لفرض الرقابة والقمع والمضايقات والاتهامات بمعاداة السامية. بل واجه الطلاب الفلسطينيون واليهود والمسلمون والأميركيون العرب المؤيّدون للفلسطينيين بسبب كلامهم عن الحقوق الفلسطينية ومطالباتهم بوقف إطلاق النار وإنهاء الحصار الخانق المستمرّ منذ سبعة عشر عامًا على غزة وجرائم الفصل العنصري. ويفنّد منصور بالأرقام والإحصاء الدقيق أعداد الطلاب الذين مُنعوا من دخول جامعاتهم مثل كولومبيا وبراون وسواهما. ويعرّج على القمم العربية التي عقدت بلا أفق، كدليل على العجز العربي من جهة، وتخلّي العرب عن احتضان القضية الفلسطينية من جهة ثانية.

في هذا الفصل يأخذنا الدكتور منصور، وعلى مدى صفحات عديدة من الذكريات العائلية الخاصة والمؤثرة، منذ نزوح عائلته من حيفا ولجوئها المؤقت في لبنان عبر طريق الآلام. مقطع ذاتيّ تفصيليّ جميل جدًا يشبه شريطًا سينمائيًّا تعبر مشاهده أمام أعيننا، قبل أن يعود إلى التاريخ المفصليّ والحدث الجَلَل في السابع من أكتوبر وكيف بدأ يتسمرّ الكاتب ساعاتٍ طويلة جدًا قد تبلغ ست عشرة في اليوم أمام الفضائيات الإخبارية العربية والأجنبية والإسرائيلية، حتى بات روتينًا يوميًا. ويرسم منصوراستنادًا إلى مصادر ومراجع متفرّقة بورتريه لمحمد الضيف تعريفًا بماضيه وحاضره ومن يكون بوصفه أحد "مهندسي" حدث 7 أكتوبر العظيم، فهذا القائد في منظمة حماس المولود عام 1965 باسم محمد ذياب إبراهيم المصري والذي أضحى اسمه "محمد ضيف" عقب انضمامه إلى حماس خلال الانتفاضة الأولى عام 1987. وقد نجا الضيف من سبع محاولات إسرائيلية لاغتياله، آخرها عام 2021، علمًا أنّه من الذين لا يظهرون في العلن بل دائم التخفي، ولا تتوافر له إلّا ثلاث صور، إحداها في عقده الثاني، والثانية ملثّمًا، والثالثة لظلّه فقط وهي التي استخدمت خلال إلقائه خطبه، وبخاصة في الأيام الأولى لـ 7 أكتوبر. كما أنّ مكانه غير معروف، والأرجح أنه في الأنفاق المترامية تحت القطاع. واتهمه مصدر أمنيّ إسرائيليّ بلعب دور مباشر في التنخطيط للهجوم. مع الإشارة إلى أنّ الضيف أمضى ستة عشر شهرًا في الاعتقال الإسرائيلي، بحسب مصدر في حماس، وهو يحمل شهادة في العلوم من الجامعة الإسلامية في غزة حيث درس الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء، وأظهر ميلًا إلى الفنون وشارك في عروض مسرحية على خشبة مسرح الجامعة. وفي الجانب العسكري، هو أحد أبرز مطوّري شبكة أنفاق الحركة، وخبير في صنع المتفجرات، ويُعدّ، إسرائيليًا، مسؤولًا شخصيًا عن مقتل عشرات الإسرائيليين في عمليات انتحارية مطلع الألفية الثالثة في عدد من المدن الإسرائيلية. وتذكر مصادر حماس أنّه فقد إحدى عينيه وأصيب بجروح خطيرة في إحدى ساقيه خلال إحدى المحاولات الإسرائيلية لاغتياله، وقُتلت زوجته وابنه (سبعة أشهر) وابنته (ثلاث سنوات) في غارة جوية عام 2014، كما قُتل عدد من إخوته وأفراد عائلته في حرب غزة الأخيرة والمستمرّة. "إنّه بعيد المنال. إنّه الرجل في الظل"، هكذا وصفه محررون في وكالة "رويترز"، في حين يصفه الإسرائيليون بأنّه "رجل ميت يمشي".

إيلان بابيه وجوني منصور  (مونت كارلو الدولية)


بعد أن يروي جوني منصور كيفية حفاظ حركة حماس على سرية مخطط "طوفان الأقصى" يرسم هذه المرة بورتريه القائد يحيى السنوار (61 عامًا) المتحدّر من مدينة مجدل عسقلان المحتلة عام 1948 والتي طرد الصهاينة سكانها ليقيموا على جزء من أراضيها مدينة أشكلون. وقد نشأ السنوار في مخيّم خان يونس الذي ما لبث أن وقع أيضًا تحت الاحتلال الإسرائيلي في حرب حزيران (يونيو) عام 1967. وتلقى السنوار تعليمه في مدارس المخيم حتى أنهى دراسته الثانوية، ليلتحق بالجامعة الإسلامية في غزة وينال بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها (له رواية بعنوان "الشوك والقرنفل" كتبها في السجون الإسرائيلية حيث أمضى أربعة وعشرين عامًا قبل أن يُطلق سراحه عام 2011 مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، والرواية آسرة، جميلة اللغة، تحكي سيرة معاناة منذ الطفولة حتى سنوات البلوغ والنضال، وتنطوي على وصف لحياة البؤس في مخيم الشاطئ وصمود فقرائه وصبرهم على العوز والفقر والموت والحصار...). وقد أفاد السنوار من معرفته بالسجون الإسرائيلية، ما منحه نفوذًا بين القيادات العسكرية في حماس، فضلًا عن تعلّمه اللغة العبرية بل إجادتها. وعلى الصعيد السياسي انتخب عام 2017 رئيسًا للمكتب السياسي لحماس في قطاع غزة، وفي العام نفسه لعب دورًا ديبلوماسيًا رئيسيًّا في محاولة إصلاح العلاقات بين السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح في الضفة من جهة وحركة حماس في غزة من جهة أخرى، إنّما لم يُكتب لهذه التجربة النجاح، ما أبقى حالة الانقسام مهيمنة على المشهد السياسي برمّته. ولدى إطلاق سراحه، أعلن السنوار أنّ تجربته في الاعتقال علّمته أن أسر جنود إسرائيليين هو السبيل الوحيد لتحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون "إسرائيل" ومعتقلاتها. هذا الإعلان يمكن اعتباره ملهمًا لمخطّط "طوفان الأقصى".

يوثّق منصور لمعركة قاعدة رعيم، وللحفل الموسيقيّ والراقص في الهواء الطلق قرب هذه القاعدة، مفصّلًا أصل هذا الحفل المشابه لحفل برازيليّ، ووصف الحفل بأنّه "احتفال بالأصدقاء والحب والحرية اللا محدودة" (أي في اختصار حفل مجون ومخدرات كما وصفه جلعاد عتسمون). ووفقًا للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم تكن حركة حماس على علم مسبق بحفل "نوڨا" هذا، بل اكتشفه مقاتلو حماس من الجو أثناء تحليقهم بطائراتهم الشراعية. ثم وصل العشرات من عناصر القسام، من دون تخطيط مسبق، إلى مكان الحفل في سيارات رباعية الدفع صغيرة وبدأوا مع رفاقهم الذين هبطوا من الجو إطلاق النار على المشاركين، ما أدى إلى مقتل البعض منهم، وأسروا بعضًا آخر واقتادوهم إلى قطاع غزة. وكشفت تحقيقات في صحف إسرائيلية (بينها "هآرتس" و"يديعوت أحرونوت") أن طائرة مروحية تابعة للجيش الإسرائيلي حلّقت فوق المكان قادمة من قاعدة رامات العسكرية في شمال "إسرائيل" وراحت تطلق النار على عناصر القسّام فأصابت أيضًا عددًا كبيرًا من الإسرائيليين المشاركين في الحفل. إلى عمليات أخرى في غلاف غزة كثكنتي "صوفا" و"كيسوفيم" وقاعدة "أوريم" ومقرّ الشرطة في مستعمرة "سديروت" وكيبوتس "بئيري" ومستوطنات "نتيف هعسرا" و"زيكيم" و"كيرم شالوم" و"إيرز" و"نير اسحق" و"عالوميم" و"ماغين" و"مفلاسيم" و"عين هبيسور" وغيرها.

يوضح منصور أنّ "الطوفان" يرمز إلى حدث كبير بالمعنى الدلاليّ اللغويّ، وربطه بالأقصى ذي المكانة الخاصة لدى المسلمين يعني أن الانتهاكات والاعتداءات والاقتحامات التي يتعرّض لها أمر كبير جدًا ويجب مواجهته بعملية عسكرية كبيرة. وأدّت عملية "طوفان الأقصى" إلى إحداث خلل في منظومة الردع الإسرائيلية، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهتين الإقليمية والعالمية من جديد، رغم الشعور بالخذلان العربي الحاصل بحق القضية الفلسطينية في ظل التطبيع. كما وضع عنصر المباغتة سمعة منظومة الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية على المحك. وأعاد "الطوفان" للشعب الفلسطيني نوعًا من الانتعاش وأحيا إصراره على المضي في الطريق نحو تحقيق الحرية. ولاقت العملية ترحيبًا ودعمًا واسعين من الشعوب العربية والإسلامية، وخرجت تظاهرات مؤيدة في عدد من المدن والعواصم العربية، إلّا أنها لم تبلغ زخم تظاهرات لندن وواشنطن وباريس وبروكسل. ويختصر الكاتب إنجازات العملية في بضع نقاط: كسر هيبة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، إظهار الفشل الاستخباري والمعلوماتي الإسرائيلي، إدخال المنظومات الإسرائيلية في حالة غير مسبوقة من الارتباك السياسي والعسكري وفقدان التوازن الداخلي، إفقاد المجتمع الإسرائيلي الثقة بالدولة والجيش، تأجيج الصراعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي والتي ستزداد بعد انتهاء الحرب، دفع نحو مائتي ألف إسرائيلي إلى النزوح نحو أماكن أكثر أمنًا، فقدان "إسرائيل" عمقها الاستراتيجي وقوّتها "الأسطورية".

كما يوثق الكاتب والمؤرخ على امتداد صفحات لقضية المستشفيات في غزة والفظاعات التي شهدتها، وهنا يجد القارئ والباحث المهتمّ كرونولوجيا وافية لتسلسل الوقائع واليوميات التي عاشتها تلك المستشفيات. ويسأل في أحد العناوين الفرعية أهي "نكبة جديدة" أم "نكبة مستمرة"؟ مرتكزًا على مقالة لديفيد هيرست وكلام تهديديّ لنتنياهو. تلي ذلك وثيقة حماس "لماذا طوفان الأقصى؟" وتفسير الكاتب لها.

إلى باب "مشاهدات وشهادات" الذي يضمّ عددًا من الشهادات التي قُدّمت عن الحرب الإبادية، سواء من داخل القطاع أو من خارجه، وفيه صور الآلام والمآسي التي يعجز عنها الوصف. أما أبواب "أصوات" فقد يكون الأهمّ في الكتاب إذ يوثّق للمواقف التي أدلى بها فلاسفة وكتّاب ومسؤولون أمميون وسياسيون غربيّون وفنانون أميركيون وأوروبيون مؤيدون للحق الفلسطيني ومحتجّون على المجازر الوحشية والهمجية في غزة، فضلًا عن مفكرين يهود متنوّرين ومناهضين للصهيونية أمثال إيلان بابيه ونورمان فنكلستين وجوديث باتلر. وهذا الباب التوثيقي قد يكون الأكثر فائدة للكتّاب والباحثين وأفدتُ منه شخصيًا وقدّرت جهد القائم بجمعه والإضاءة عليه بالقدر الذي يستحقّ.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.