}
عروض

"رماية ليلية": الوطن الذي هزمه أصحابه

فيصل درّاج

3 يوليه 2024


تميّز عمل أحمد زين في رواياته الخمس بجهد كيفي يتطلّع إلى الاتقان المُرتجى؛ برهن أن الرواية من الراوي، وأنها من دون اجتهاده المتراكم حكايات مألوفة المحتوى فقيرة الأشكال. جاء تميّزه من منظور روائي بصير، يستولد الشكل من موضوعه ويشتق الأخير من تاريخ يمني معيش زامله الأمل، فترة، وصدمه إخفاق غير منتظر، في فترة لاحقة، التبس بالفجيعة.

قرأ، حال كل روائي بصير، تطوّر اليمن من زمن الاستقلال الوطني إلى تداعيه وسيطرة أسياد الظلام. ألزمته تلك القراءة، المستمدة من وطن يستيقظ ويكبو، باقتفاء ما كان منتظرًا وحاصره عثار متقادم ومتجدّد عاينه، بجرأة يداخلها الشجن في روايته "ستيمر بوينت" وأضاء وجوهه بنظر دامع في "فاكهة الغربان"، قبل أن يرثي وطنًا افتُقد ولن يعود كما كان، في عمله الأخير "رماية ليلية". حمل أحمد زين أوجاع يمني اغترب عما كان واغترب بدوره وهو يكتب، عن "وطنه القديم". دفع، في حالين، بالاغتراب إلى حدوده القصوى، ذلك أن الاغتراب، في حالاته المألوفة، يتلوه "تحقق الإنسان". على مبعدة من اغتراب يمني يلتهم فيه الحطام ما تبقى واقفًا. سأل ملتاعًا كيف تكون روائيًا في زمن يذهب فيه اليمن إلى غرق أخير.

وصفت - سردت رواية "رماية ليلية" (منشورات المتوسط 2024، 271 صفحة) الساخرة العنوان، تكامل الفَقْد وبؤس النسيان، حيث الباحث عما فقد يفقد ذاته وهو ينتظر عودة المفقود، معتقدًا أنه عثر على ذاته وعلى المفقود معًا. كما لو كان قد قايض "اليمن السعيد" بمنفى بائس الجوهر، تتوالى أيامه مرتاحة، أو هكذا تبدو قبل أن يسقط في خلاء من أشواك ونفايات.

عاين زين، في رواياته الأربع الأولى، تاريخًا مقيّدًا تقلق حركته سلطة "تؤبّد ذاتها" وتصيّر الاستقلال إلى ألغاز متوالية. تُراكم جشعها وتُطلق النار على أحلام اليمنيين. عاد في روايته "رماية ليلية" إلى "القادة المسوخ" الذين توّهموا أنفسهم قادة، ذات مرة، وحملوا خواءهم المحتجب إلى المنفى، فبدوا عراة وظهر فقرهم أكثر عريًا. تأمل الروائي تاريخًا مخادعًا فتّته جشع سلطوي يحسن الخداع، إلى حين، يسخر منه التاريخ، الذي يكسر عنق القادة المسوخ المأخوذين بأرباح صغيرة، داخل الوطن المفقود وخارجه.

رسم زين لوعة الوطن المفقود وعنف المنفى في صورة جمعت بين ذكريات صنعاء البعيدة وجراح كرامة وطنية والبكاء على أطلال وطن لم يعد وطنًا. أطلق صوتًا متشكيًّا مختنق الشكوى، أوكل إلى اللغة تبيان الفرق بين الوطن كما يمكن أن يكون وأرض مقلقة يبيعها مرتزقة إلى مشترٍ يكره اليمن ويعبث بيمنيين قصّروا عن وعي الوطن والتاريخ والسياسة والسلطة. لكأن اليمن مسرح مهجور ترتع في أرجائه مخلوقات عجيبة غريبة تحسن الخراب وتعتبر المسرح عدوًا جاء به الكفرة. مخلوقات تتأبطّ الكلام وتحرص على الكلام الفخيم بديلًا عن الفعل الوطني والكرامة الذاتية المهدورة.

استهل الروائي الكتابة بقول الإنكليزي ييتس: "لا أكره الذين أقاتلهم. ولا أحب من أحرسهم". مايز الشاعر المتمرد، الذي تُذكّر قصائده بالفلسطيني محمود درويش، بين عدو مقاتل جدير بالاحترام ومسؤول متداعي الكرامة يحتاج إلى حراسة. تناول أحمد زين في روايته عدوًا بصيغة الجمع، أعداء يمنيين أقرب إلى المرتزقة بينهم "سفير أو وزير سابق فار، صعب عليه افتقاد الرفاه الذي غمره فجأة، وجنرال عجوز حياته كلها حروب خاسرة، ولم يعدم بعد الصفاقة ليتكلم عن خطة حربية منتصرة". حشر بين هؤلاء شيخ قبيلة لم يتبقَ له من نصير، تخلّى عنه الذين يحترمون أنفسهم، يردّد في سرّه: "عز القبيلي بلاده... ص: 34".

أشاعت الرواية من صفحتها الأولى فضاءً ناصع السواد، حده الأول ألم نازف وفزع مما جاء وسيجيء، وحدّه الآخر موات يكمله منفى يستدعي موتى أُجّل دفنهم، استجاروا بإخفاق أخير لا يجير أحدًا، وبأمانٍ مؤجّلة كلما اقتربت زادت بعدًا. تبدأ الرواية بكلمات قابضة: "سرعان ما أطبقت يداك على عنقي". ما يبتدئُ بالشروع بالموت يُستكمل بما ينتسب إليه: "المعاناة التمزّق، الصراخ، الدم، الاختناق....." مناخ كابوسي ينفتح على يأس صريح ونظرات تائهة: "غيوم تنزف دخانًا، وجوارح ترتفع في تحليق كسول تحطّ على بقايا حيوانات نافقة وصيحات قبيحة تنمّ عن سأم ونباح ضجر لكلب وأكثر...". لكأن اللغة ضاقت بتشقق الوضع اليمني وقصّرت عن وصفه والتمست صبرًا يحتضن ما لا يمكن احتضانه، أو لكأن رواية الموات المهين تعيّن السرد شخصية مسيطرة تفيض على الشخصيات المحتملة.

أنتجت رواية "رماية ليليّة" خطابها المتأسي متوسلة مستويين: أحدهما تقليدي خادع البساطة قوامه شخصيات محدودة تُرى ولا ترى، إذ المتداعي المهزوم لا يمكن القبض على جوهره المتناثر، وثانيهما رمى بالتقليدي جانبًا وانتهى إلى بنية روائية معقدّة من الإشارات والصور واللغة الطليقة ومجازات تحايث حكايات ناقصة وجملًا معترضة ووقائع صارخة خانها الصوت واكتفت بتنهّد مخنوق، وشخصيات تحترف الكلام ولا تقول شيئًا.

لا تُقصد شخصيات أحمد زين، في مستواها الأول، لذاتها بل لما تشهد عليه في منفى مشتت الأفق. شخصيات مرايا تعكس مآلها الذاتي وتعكس أكثر "بقايا" الذين أوصلوها إليه. فالأولى، وهي الأكثر وضوحًا، مذيعة تشهد على "مسؤول" يستغرقه السفر تلازمه "سكرتيرة" تردّد حركاته، تقاسمه بلاغة الاختراع الكذوب، إذ "صنعاء في متناول اليد بعد أيام". تستهلك المذيعة المفترضة فراغها ويستهلكها فراغها بعد أن هربت من صنعاء إلى الرياض في انتظار رحيل رثيث إلى القاهرة يقلها إلى لا مكان. أما الشخصية الثانية، وهي أقل حضورًا، فتتذكر أبًا رسخت في صدره صورة بطله المصري الأثير الذي حلم بعروبة منتصرة. تكمل شهادة الشخصية السابقة، تراقب كرنفال الأرواح الميّتة، ترتكن إلى أنوثتها الطاغية "لتبصق" على جمع من "مسؤولين كبار" تكوّموا في "مضافة أنيقة" في الرياض، وانصرفوا إلى استهلاك بذيء وأحلام اختصرت اليمن في سلع غالية الأثمان تافهة الاستعمال.

أنتج السرد الملتف على ذاته شخصيات من ظلال، أضاع قوامها واكتفت بالاستهلاك والكلام، وجسّر بينها بمتواليات من حكايات باكية،  تمتد من امرأة يمنية شجاعة افتقدت القيادة ووسائل القتال إلى يمني يرفع علم بلده بيد مبتورة وآخر يعطي روحه إلى رفيق غادرته الروح. بعد اليمن الموحّد يأتي يمن مبدّد الأوصال، معفّر بالذل والهوان.


رأى أحمد زين الحاضر اليمني وما سيأتي بعلاقات فنية، تتساند وتتكامل وتقترح وتنتهي، دون أن تنتهي، باجتهاد لغوي حافل بالأسئلة. فـ "الحال" أو الجملة الحالية مبتدأ الكلام لا تصف، إذ في الوصف حركة، تنفتح على حطام لا ضرورة لوصفه، والأفعال المستقبلية، أو صيغ الاستقبال، لا تشير إلى مستقبل، لن يأتي إلا على صورة حاضرة، إنما تقرّر العجز عن  الفعل وتصويب الحال. والخبر يسبق المبتدأ الذي غدا من متاع الماضي، والإخفاق الشامل كامل الحضور، يستغرق يمنيين سقطوا في متاهة، يصنع صنعاء تقوّضت وأحجارًا حالت ألوانها وأناشيد يمنية سقطت في الطريق.

يكتفي السرد الروائي بالشظايا، أكانت شخصيات أم حكايات، فمن العبث حضور السليم في فضاء من حطام، ومن العبث أكثر الأخذ بسرد خطّي قوامه بشر يعرفون مصيرهم. لذا تأتي الشخصيات مشظاة ويكون مسارها مرصوفًا بالشظايا، يستولده منفى ويصادر حركته منفى لاحق، يخفق في أرجائه إخفاق شامل ينهى عن الحركة. لا تتبقى إلا الذكرى التي تسكن الشخصيات وأفعالها، ذكريات مستقرة عن يمن لن يعود، بعيدًا عن التذكر الذي يلازمه فعل محتمل. ولعل سقوط الشخصيات في ذكريات مستقرة ما يختصرها في أقنعة متناظرة، تتبادل جملًا ناقصة، تتذكّر ولا تحلم وتنتقل من تلعثم كسيح إلى وعود مؤجلة.

تتضمن "رماية ليليّة"، في كثافتها المدهشة، أبعادًا تاريخية وسياسية وأيديولوجية واجتماعية، تنصت إلى التاريخ القريب وأصوات القبائل والمظاهرات الحالمة السابقة. عمل زين على تجسيد "علم جمال الخسارة"، الذي أنجز عملًا لغويًا متفردًا قدّم شهادة عن الخسران الكامل. شهادة ترثي وطنًا كان وتستبقي آثاره المتبقية في لغة تدوم. كأن المصائب الكبرى تأتي، أحيانًا، بشهادات أدبية كبرى تضيف إلى الإبداع الأدبي العربي أبعادًا غير مسبوقة، وتصرخ عاليًا بأنها "تحترم الأعداء الذين يدافعون عن قضاياهم وتحتقر موتى يحرسون موتى، أعلى رتبة، ساقوهم إلى الموت والمنفى".

برهن أحمد زين بأن الوقائع الوطنية الكبرى، التي تلازمها الخسارة، تستولد وقائع أدبية كبرى، ترد على الخسران الوطني بالإبداع الأدبي ولا تعد بشيء. في عمل روائي هامس التوثيق مبدع الكتابة ترجم زين مأساة اليمنيين داخل اليمن، وخارجه، وأومأ إلى واقع عربي منخول العظام تتصادى فيه أصوات عرفت الخراب الشامل وتحذّر منه. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.