}
عروض

"توست": لعبة السرد بين التجريب والواقعية

مليحة مسلماني

11 أغسطس 2024

تحلّق رواية "توست" للكاتب الأردني أحمد عقيل في فلك التجريب كأسلوبٍ في السرد الروائي لا يتبع مسارات تقليدية في الخطّ الزمني للرواية، أو في تقنياتها السردية، كما لا يهتم كثيرًا بواقعية الأحداث، أو منطق تطور الشخصيات وأدوارها وطبيعة خياراتها ومصائرها. وهو، أي التجريب، أسلوب يوفّر للكاتب مساحة إبداعية هائلة لبناء عوالم روايته، ويتيح كذلك تعدّد مسارات أحداثها وخيارات شخصياتها. فمن السطور الأولى يخبر الراوي، الذي يظلّ يخاطب امرأة طوال فصول الرواية، أنه ليس مسؤولًا عمّا سيرويه، ويقول إنه يمكنها الافتراض أن كل ما يرويه ربما لم يحدث سوى في مخيّلته، وإن كل الشخصيات ربما تكون غير حقيقية "أو على الأقل غير حقيقية بالمعنى المعتاد للوجود".
في الرواية الصادرة عن "دار أزمنة للنشر والتوزيع" في عمّان، والواقعة في 222 صفحة (28 فصلًا)، أتاح وجود مخاطَبٍ أنثى للكاتب/ الراوي توظيف الأسلوب التجريبي واكتشافه مع القارئ، بل ومناقشته أيضًا عبر مختلف الفصول، من بين ذلك تغيير أسماء بعض الشخصيات بدون الوقوع في إشكالية إرباك القارئ، الذي يدرك منذ البداية أن أسماء الشخصيات خاضعة للتغيير، مثل "لارا" التي يصير اسمها أحيانًا "تمارا"، وكذلك "حسن الجَك" الذي تغير اسمه ليصبح "وائل شمبيظي"، وذلك مع تغير مصيره من قاتلٍ يسيطر على سكان الحي بالقوّة، إلى شخص عاجز يتنقّل على كرسي متحرك في مجمع المواصلات ليطلب النقود من الناس.

الأنثى ــ سرّ الوجود

المرأة التي يخاطبها الراوي لا تتحدث طوال الرواية، كما لا يقدّم عنها أي معلومات، ولكن ومنذ البدايات يشعر القارئ أن الراوي يرتبط بها بعلاقة قوية، وأنها أكثر من مجرد صديقة مقرّبة له، بل هي أقرب لمعشوقة، فهو يريد أن يختار للسرد بدايةً تشدّها، وأن يحصل على عطفها الذي يحتاجه، بل إن وجودها "هو سرّ هذا الوجود..." كما يقول في أحد الفصول. من الناحية الأسلوبية، خدم وجود المخاطَبة الأنثى التقنيات السردية، إذ يناقش الراوي معها عنوان الرواية، وكيفية اختيار بداية لها، وتغيير الأسماء، وحجم دور كل شخصية، وأهميتها، واحتمالات خياراتها ومصائرها. كل ذلك أتاح التأمّل في اتساع الخيارات الإبداعية الروائية والواقعية الحياتية على حدّ سواء.
الراوي هو بمثابة الشخصية الرئيسية في الرواية، ولا يُعرَف له اسم خلالها، تلازمه مشاعر الخوف والقلق والإحساس بالعجز، كما سبّبت وفاة أمّه، التي ارتبط بها كثيرًا، حالة من الحزن المستمرة لديه. يشعر باغتراب في بيت الأسرة والحيّ، خاصة بعد وفاة أمّه ثم زواج أختيْه، "سلوى" و"ليلى"، ويقرر أن يغادر الحي تمامًا ليقيم في مكان بعيد، وذلك بعد  زواج أخيه الأكبر "جبريل" من "سارة"، التي كان ارتبط الراوي بها من قبل بعلاقة صامتة غامضة وغير مصرّح بها عزّزت من إحساسه بالعجز والقهر.
"سارة" هي واحدة من ثلاث نساء كان لكل منهن دور حاسم في حياة الراوي وخياراته وتحولات مساراته وشخصيته، وهي موضوع للحب والشهوة واستفزاز مشاعر الضعف والعجز لديه، ولكن الأهم هو أن سارة، التي تبدو قوية وقادرة على السيطرة على مشاعرها، وعلى الآخرين أيضًا، وذلك بذكاء ولؤم، تمثّل الشخصية التي أثارت الجانب المظلم للراوي، وما تنطوي عليه شخصيته من هشاشة وضعف ومشاعر قلق وعدم ثقة بالنفس وبالمحيطين. أما "لارا"، أخت "سارة" الصغرى، فهي الشخصية النقيض التي أثارت الجانب الأجمل في ذات الراوي، فقد ارتبط بها منذ كانت طفلة، بينما هو شاب صغير، بعلاقة صداقة، وظلّ يسمّيها، حتى بعدما كبرت وصارت أنثى جميلة "صديقتي الصغيرة".
تقع "لارا" في حبه بينما هو لا يعرف ذلك، أو ربما يعرف أو يشعر ولكنه يهرب من هذه الحقيقة، ولكنه في ذات الوقت يهتم بها وبأن تكون سعيدة. و"لارا" تشكل بالنسبة إليه، بهدوئها وعزلتها وحزنها، التوأم الشبيه لذاته وشخصيته، وهو يرى فيها أمّه ويجد لديها الأمان الذي فقده بعد وفاة أمه، وبعد أن خذله أخوه "جبريل" الذي لم يف بوعده له بأن يكفله في البنك ليأخذ قرضًا لشراء سيارة، التي كانت بدورها أمرًا بالغ الأهمية لديه وأشبه بحلم سعى بجدّ لتحقيقه. 

الحب ـ الذات ـ وعنصر المفاجأة

"رشا" هي الشخصية الثالثة التي شكّل وجودها أحد عناصر المفاجأة في الراوية، إذ يرد الحديث عنها عابرًا وسريعًا في الفصول الأولى، وهي صديقة "لارا" في المدرسة التي كانت تحلم بأن تكون مذيعة، ليكتشف القارئ في الفصول الأخيرة  أن الراوي كان قد ارتبط بها بعلاقة حب عاصفة وقوية رغم أنها متزوجة، فيضحّي بحبّهما من أجل الإبقاء على زواجها.




وبذلك يتبين أن "رشا" هي الشخصية التي أحبّها بحق ولم تكن الحبيبة "سارة" أو "لارا"، ذلك أن الراوي اختار أن يغير مسار السرد ومساره هو أيضًا، وذلك أثناء انتظاره لقاء "لارا"، ليعتذر لها ويخبرها أنه يريد أن يرى الغروب معها، أي أنه يختار أن يكون معها، فيفاجِئ القارئ بلقائه "برشا" التي يسرد قصة حبّهما في الفصول اللاحقة.
للمرأة بشكل عام حضور هام وأدوار مؤثرة في حياة الشخصية الرئيسية؛ فبالإضافة إلى النساء اللاتي ارتبط بهنّ بمشاعر حب أو إعجاب أو بمشاعر مبهمة، هناك الأمّ، اللاجئة من الأرض المحتلة، التي مثّلت بالنسبة له الذاكرة والحنين، والوطن والأمان المفقوديْن. أما أخته الكبرى "سلوى" فكانت امرأة أشبه بالعادية، فهي تهتم بالأمور الواقعية والمادية، وبحكم طبيعة شخصيتها أصبحت صديقة "لسارة"، في حين أن أخته الصغرى "ليلى" كانت على العكس من ذلك، وهي الأقرب إليه والأكثر تفهمّا له وإحساسًا به.
يمكن اعتبار أن هناك امرأة افتراضية أيضًا، وهي الأنثى التي يخاطبها طوال سطور الرواية، والتي يثير وجودها السؤال لدى القارئ عن هويتها وعلاقة الراوي بها، ليبتيّن في النهاية، أن الراوي امرأة بالأصل تخاطب ذاتها، واختارت أن تكون راويًا رجلًا لترسم شخصيات عالمها ومساراتهم. وفي ذروة تحوّلاتها وولادتها من جديد شخصيةً أخرى متحرّرةً من قيودها الداخلية والاجتماعية، يُفصح السرد عن هويتها الأنثوية، الأمر الذي يشكل عنصر المفاجأة الأهم والأقوى في الرواية، ما شكل أيضًا، أي انكشاف جنس الراوي، جزءًا من عملية مواجهة الذات وسيرورة تحرّرها. 

تداخل الخاص والعام

أما المسار المكاني والزمني للرواية فهو طريق عودة الراوي، بخيبةٍ ويأس، من البنك باتجاه مجمع المواصلات، بعد أن مزّق وليم هربرت، مسؤول القروض الأجنبيّ، طلبَ القرض الخاص به، ليسير على الأقدام تحت الشمس الحارقة، وسط أجواء متوترة ينتشر فيها الجنود وتتعطل حركة السير، وذلك بسبب مرور موكب "الرئيس الضيف"، الذي يحكم دولة ذات اقتصاد قوي، وأتى ليوقّع اتفاقية وليقيم على أرض مدينة صحراوية في البلاد "مدينةً عالمية"، ستجلب الخير الكثير للمواطنين كما يُشاع، وذلك بعد أن تمّ تهجير سكان المدينة الأصليين. 

أحمد عقيل: كاتب وسينمائي أردني من مواليد عمّان عام 1982


وخلال رحلة سير الراوي، يحصل انتقال وتداخل كبير في أزمنة السرد بين ماضي الشخصية وحاضرها. كما يتعرض الراوي، بحسٍّ نقديّ، للأزمات السياسية والاجتماعية، ما منح بعدًا واقعيًا واضحًا للرواية.
تلعب الأزمات السياسية والاجتماعية أدوارًا هامة في حسم خيارات الشخصيات وتحوّلاتها وخاصة لدى الشخصية الرئيسية/ الراوي، الذي لا يبدو مهتمًا بشكل كبير بالقضايا العامة، فهو يعمل قاطعَ تذاكر في شركة نقل، وذلك بعد أن فشل في امتحانات الثانوية العامة، ويسعى إلى شراء سيارة تسهّل عليه تنقّلاته وتوفّر وقته. وبعد خذلان الأخ الأكبر وتحطّم حلم السيارة، ينشغل بعمل إضافي في المساء ويسعى للاهتمام بحياته وعالمه الخاص، ويقضي أوقات فراغه مع أخته ليلى وزوجها وابنهما الصغير، أو مع الأصدقاء، أو يشاهد الأفلام لاهتمامه الكبير بالسينما. غير أن حضور الأزمات العامة يتطور بالتزامن مع زيارة الرئيس الضيف التي تُجابَه باعتصامٍ في مجمع المواصلات، يأتي هذا التطور كذلك بالموازاة مع تعاظم الصراع الداخلي في الشخصية الرئيسية التي تقترب من القيام بثورة على واقعها وذاتها، فيصبح مشاركًا في الاعتصام القائم في مجمع المواصلات، ويحاول إنقاذ "ياسين"، الشخصية التي تُنهي خلافات المعتصمين وتوحّدهم والتي تمثل رمزًا ثوريًا في الرواية. 

الخبز ــ مسألة وجودية

أما عنوان الرواية "توست" فيشير إلى الخبز الذي يحضر في معظم فصولها موضوعًا وجوديًا متعدّد الدلالات، وأزمةً تتشابك أسبابها ونتائجها بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي. يفتتح الراوي السرد بقوله: "لم أستطع هذا اليوم ابتلاع مضغة الخبز العالقة في حلقي"، ما يشير إلى أزمة تتعلق بالشخصية يصبح الخبز فيها مرادفًا للحياة. ويستمر حضور الخبز في مختلف أحداث الرواية ومشاهدها كمعنىً قابلٍ لتعدّد التأويلات؛ يقول: "كيف لقطعة صغيرة من الخبز المتحجّر، أن تكون لها تلك السطوة على مصير شخص مثلي؟ وكيف لقطعة الخبز أن تكون لها تلك القدرة على تغيير الإنسانية كلها؟".  كما يشير إلى أزمة ارتفاع أسعار الخبز بعد التعويم وبيع "جمعية الدقيق الوطنية" حقّ بيع الدقيق الحصري لشركة عملاقة. ويشكل الخبز أيضًا، السبب الرئيس الآخر، إضافة إلى زيارة الرئيس الضيف، للاعتصام في مجمع المواصلات.




أما "توست"، ككلمة أجنبية تعني الخبز المحمّص، فهي رمز يختزل العديد من الدلالات، ومن بينها: كل ما هو أجنبي وغريب وطارئ، وهو إشارة أيضًا إلى التحولات القاسية التي تفرضها الحياة، والألم والمعاناة الإنسانية بعامة؛ يقول: "بينما للخبز على ما أظن علاقة بالشيطان، ولم يكن هذا لأن لونه أسمر، وإنما لأنه في الأصل كان أبيض، ثم قسى وتنكّر بهذا اللون الأسمر، لا لشيء سوى ليذلّني...".

الحضور السينمائي

لتجربة أحمد عقيل في دراسة السينما وإخراج الأفلام حضور بارز في روايته، إذ تحضر السينما فيها موضوعًا وأسلوبًا ملهِمًا أثرى السرد بتقنيات سينمائية وتجريبية عديدة؛ فمن ناحية أسلوبية يفتتح الكاتب معظم الفصول بسرديّات تميل لغتها ورؤاها المعرفية الوجودية إلى عالم الشعر، موظِّفًا بكثرة الصور الطبيعة والسينمائية وعلاقات الظل والضوء، ما عزز البعد التجريبي كأسلوب عام في الرواية، يقول مفتتحًا أحد الفصول: "جلوسِك في ظل الدائرة المغمورة بالنور لن يمنحك الذهول القديم ولن يخلق فيك زمنًا انخذل عنك بحكم الوجوب فمقامُك في صدى...". كما يفصح أثناء السرد أنه يستلهم أساليب السينما وكتابة السيناريو في بناء الشخصيات ورسم مشاهد الرواية ووضع العقبات قبل الوصول الى الهدف. والسينما في الرواية هي أيضًا موضوع للنقاش والتأمّل والنقد، كما تنضم الشخصية الرئيسية إلى ورشة تعليمية في كتابة السيناريو والمونتاج والإخراج، وتصبح الأفلام موضوعًا للنقاش بين الشخصيات.
أخيرًا، يتحرك السرد في رواية "توست" في المسافة بين الواقع والتجريب؛ فالتجريب، وما ينطوي عليه من حريةٍ في السرد، وقدرةٍ على استيعاب صنوف إبداعية أخرى، كالسينما والمسرح والشعر، يحرر الرواية من جمود الواقعية وتعقيدات الواقع، ويمنحها أبعادها الإبداعية الجمالية اللازمة لها، بينما تخدم الواقعية بدورها دورَ الرواية في تعزيز رسائل اجتماعية وسياسية ومعانٍ إنسانية ومعرفية، فلا تبقى أسيرةً للتجريب لمجرّد التجريب، إذ يبقى الأدب مرآة تصوّر الحياة بقسوتها وجمالياتها، ضمن عالم إبداعي متخيَّل قادر على التأثير في الواقع.
 
أحمد عقيل: كاتب وسينمائي أردني من مواليد عمّان عام 1982. حاصل على درجة الدكتوراه في الفنون السينمائية من المعهد العالي للسينما في مصر، ويعمل حاليًا في التدريس كأستاذ مساعد في قسم تصميم الفيلم الرقمي في جامعة البتراء الأردنية. "توست" هي روايته الأولى، وقريبًا تنشَر روايته الثانية. قام بإنتاج وإخراج العديد من الأفلام القصيرة والوثائقية، ويقوم حاليًا بالعمل على إخراج فيلمه الروائي الأول. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.