}
عروض

عامان على رحيله: فاروق وادي "ومنازل الإسكندرية"

عمر شبانة

22 أغسطس 2024



مع اقتراب الذكرى الثانية لرحيله (توفّي في لشبونة التي وقع في عشقها، في 19 أيلول/ سبتمبر 2022)، تأتي رواية الروائي والكاتب الفلسطيني فاروق وادي- سيرته مع المدن "منازل القلب: كتاب الإسكندرية"، الصادرة حديثًا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، وهي أقرب إلى  السيرة الذاتية، وهي ضمن ثلاثية صدر منها "منازل القلب/ كتاب رام الله" (1997)، و"ديك بيروت يؤذن في الظهيرة/ كتاب الحرب" (2015). وها هي الإسكندرية تشكل الجزء الثالث. الإسكندرية التي لا يكتفي بحبّها وعشقها فقط، بل يقع في أسرها، مدينة أحبها وأحبّ "منها وفيها"، يعني سناء عبد العال التي يهديها كتابه هذا "سناء الطائر الذي التقط الحبّة من تخوم أرض مدينة قبل أن تكون، ليلقيها في تجاويف القلب... قلبي الذي طالما هام عشقًا بالمرأة و... المكان"، فهل ثمة عشق أرقى يمكن التعبير عنه بهذا (الوَلَه)؟! وأنا هنا لا أكتب عن الكتاب ذاته، بل عن المشاعر التي يكتب بها وادي، والمشاعر التي يتلقى القارئ بها هذه الكتابة.

يفتتح وادي هذه الرواية- السيرة بافتتاحيتين، الأولى مقولة لجلال الدين الرومي يقول فيها: "قال معشوق لعاشق: أيها الفتى، أنت قد رأيت في غربتك مدنًا كثيرة. فخبّرني: أيّة مدينة من تلك هي الأقرب إليك؟ فأجاب: ’إنها تلك المدينة التي فيها من اختطف قلبي!’".

والثانية لشاعر اليونان كافافيس، وهو المعروف بلقب شاعر الإسكندرية، ونَصُّها:

استمعْ حتّى النهاية

إلى الأصداء التي تتردّد في البعيد

استمتع بها

استمتعْ بالنغمات العذبة تعزفها الفرقة الخفيّة

التي تمضي إلى الزوال

وودّعها

ودّع الإسكندرية...

التي تضيع منك إلى الأبد".

وكِلا الافتتاحيتين تعبّر عن رؤية المؤلّف للمكان وللمرأة كما يقول.

يكتب الراحل وادي هنا عن الإسكندرية، التي أتاها "الفتى... صيف 1967 المنكسِر وهزيمته المروّعة القاسية"، بعد أن ترك مدينته رام الله التي كانت قد وقعت تحت الاحتلال، مدينته التي كانت "تتلوّى في آلامها وتعاني جراحَها، مدينة ميلاده وطفولته... صِباه وخفقة قلبه ومطلع شبابه (التي) تركها أسيرة الاحتلال (حيث) رأى جنود الأعداء وهم يقتحمون المدينة من دون حرب ولا اشتباك، أو حتى رصاصة طائشة تُطلق في الهواء الساكت المذهول...". إنه يكتب عن فتى ومدينة، بألم شديد يصوّر وينحت ويحفر لينقش الحدث العظيم بتفاصيله، وبمشاعر تفيض عن الرصد العادي وتتخطّاه إلى لغة تقارب الشعر في تأمّلها للواقع- الكارثة.

وبينما هو يدوّن كتابه هذا، فهو يمزج فيه عناصر عدة؛ فنحن نجد السيرة الذاتية والسرد الروائي من خلال تأمّلات في معارف وأساطير وتجارب وخبرات شخصية؛ في عملية اشتباك معقّدة تقع في مائتين واثنتين وثلاثين صفحة، تشكل خلاصات الهوى والمعايشة وأثرهما في قلبه "وصلتُ الإسكندرية وهي تلفظ أنفاسها الكوزموبوليتانية الأخيرة"، ويضيف "كان المسكن، لحسن الحظ، في منطقة الإبراهيمية، التي ظلّت إلى وقت قريب، تستقطب بقايا الأجانب في جزئها الواقع وراء خط الترام من الناحية الأخرى...".

كما أن فاروق وادي يحفر وبعمق في بنيان هذه المدينة العميقة، وضمن رؤى وأساليب متعدّدة، فيبدأ من "طيور الإسكندر تحلّق في الأفق"، منطلقًا من هزيمة حزيران/ يونيو، ثم يجول في واقع المدينة من تلك المرحلة، فيربط الواقع بالتاريخ الذي هو هنا ليس مجرّد خلفية تاريخيّة لحركة الكائن والمكان ووجودهما، إنما هو جزء من حكاية المؤلف والمكان معًا، حيث يُخرج الكاتب شخصيات إسكندرانية تاريخية، ويستلهم قصصًا من الماضي، ويرويها كما يجب، أو كما ينبغي أن تُروى، ليستكمل فيه سيرته التي بثّها في المؤلَّفَين السابقين.

أقام وادي في هذه المدينة المصرية سنة واحدة أمضاها للحصول على شهادة الثانوية العامة، واضطر خلافًا لرغبته إلى العودة إلى عمّان ليدرس مادة علم النفس في "الجامعة الأردنية"، إلا أن الكتاب يمتد من خلال توثيق شذرات من مراسلاته مع صديقته- حبيبته الإسكندرانية (زوجته لاحقًا) سناء، هذه العلاقة التي استمرّت بين عامَيْ 1968 و1973. وفي الرسائل اشتغالات ونقاشات بينه وبين حبيبته لمواضيع سياسية، وفي مقدمتها المقاومة الفلسطينية الصاعدة آنذاك، وبين الحديث عن النصوص القصصية الأولى التي بدأ يكتبها وادي في تلك الفترة لتصدر لاحقًا في مجموعة "المنفى يا حبيبتي" عام 1976.

ويتواصل النقاش بينهما عن تقييماتهما حول شخصيات وكتب وحوادث شغلتهما في الثقافة العربية والعالمية، ثم يواصل الكشف في علاقتهما بفصول جديدة، وباللغة ذاتها من الشغف والتفاصيل، في فصل "خزانة الأسرار"، ثمّ فصل "أيام البحر الهادر... يوميات يناير" التي يعود فيها إلى الإسكندرية شتاء 2011، ليختم الكتاب بـ"شرفات الرمل... الإسكندرية في القلب... وفي العينين" يستحضر فيه لحظات ومشاهدات من الماضي، من أجل ترميم ما لم تسعفه به ذاكرته السَّكَندرية.


وفي قلب الهزيمة المصرية- العربية، وخطاب عبد الناصر المدوّي بقرار التنحّي، وخروج الجماهير العربية (طوعًا كما بدا)، لا تغيب النكتة التي تجلد الذات وتسخر من كل شيء، لتمسّ شخص الرئيس نفسه والمؤسسة العسكرية؛ "النّكات تتجوّل في الشوارع، تتمطّى بكسل وشماتة، وتعشّش في الزوايا والحارات والبيوت... والإشاعات لم تكن تكفّ عن إطلاق أجنحتها في كل الفضاءات والاتجاهات المفتوحة". بهذه اللغة المكثفة والمؤلمة يكتب صاحب روايات عدّة منها "طريق إلى البحر" (1980)، و"سيرة المشتاق" (2019)، و"سوداد... هاوية الغزالة" (2022)، ومؤلف الكتاب النقديّ الشهير "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية: غسان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا" (1985) الذي كان علامة بارزة في مسيرة النقد الفلسطيني، وفي دراسة تجارب ثلاثة من أبرز الروائيّين الفلسطينيين والعرب أيضًا. 

الإسكندر المقدونيّ مصري الأصل

إحدى حكايات فاروق وادي، وتستحقّ أن تُروى مثلًا، حكاية تاريخيّة أو أسطورية ربّما، أن الملك نيكتاتيبوس ملك مصر شهد هزيمة على يد الفرس، وهرب إلى مقدونيا، لكنّ شعبه كان تنبّأ بعودته شابًّا، بعد أن يكسب قلوب المقدونيّين... ووقعت عيناه على أوليمباس ملكة مقدونيا، فلم يقاوم سحرها الأخّاذ. ولمّا كان اشتُهر بالسحر والشعوذة والتنبّؤ، استدعته الملكة ليرى طالعها، وكان زوجها الملك في الحرب، فسقاها نيكتاتيبوس شرابًا نباتيًّا يثير الأحلام ويؤجّج الشهوات، وأنبأها بأنّها ستعاشر الإله آمون وتنجب منه طفلًا ينتقم لمقدونيا من أعدائها، وسرعان ما رأت النبوءة تتحقق، وكان هو وليس الملك آمون الذي سيزورها ويعاشرها ويترك في أحشائها بذرته الصائبة، وحين عاد زوجها من الحرب رأى حلمًا غريبًا فاستدعى العرّاف الذي أخبره أن الملكة حامل من رجل مصريّ عريق الأصل، فكان الإسكندر من بذرة هذا الرجل.

حكاية لا نعرف مدى واقعيتها، فهي تنتمي إلى سرديّات ألف ليلة وليلة، حتى لو قرأها المؤلّف في مصدر تاريخي، فهي صادرة عن روح الروائي الذي يمزج الواقعي بالفانتازيّ، فيجعل من الشخص العاديّ بطلًا، ومن البطل شخصًا بسيطًا وواقعيًّا. وهذا ما يفعله وادي في عديد رواياته وقصصه، حيث مزيج الملهاويّ بالمأساوي، وتداخل القدَريّ بالفعل الواعي، فنحن هنا حيال فعل قدَريّ قاد الملك المصريّ المهزوم إلى مقدونيا، لكنّ ثمّة فعلًا واعيًا مارسه هذا الملك وهو السعي والنجاح في معاشرة الملكة وإنجاب الإسكندر منها، هذا البطل الذي نصفه بشر ونصفه بطل ملحميّ ومعجزة وقوة خارقة، حتى قيل "إن هناك قوة غيبيّة عظمى توليه عنايتها... ترعاه وتسدّد خطاه"، كما جاء في السرد.   

فالإسكندر مقدونيّ الأمّ والولادة، لكنّه مصريّ الأب، لكنه يعتقد- بناء على سردية أمّه الملكة- أنه ابن الإله آمون حقًّا، وحين فتح أصقاع العالم، التقى "والده الإله، وطلب منه أن يحدد له المكان الذي يبني فيه مدينته المنشودة التي تتجلّى له في خياله، لتحمل اسمه وتخلّد ذكراه، فحدّد لها مكانًا على شاطئ المتوسط، وكانت له مدينة الإسكندريّة التي قيل إنها "سوف تُطعم الدنيا بأسرها، وسوف ينتشر البشر الذين يولَدون فيها، في أصقاع الأرض... يسافرون مثل الطيور في بلاد الدنيا"!

يختم بـ "شرفات الرمل: الإسكندرية في القلب وفي العينين"، بفقرات عدة، تستوقفنا منها مقاطع عن ثورة يناير 2011 ومآلاتها. عن ضحاياها وحكم الإسلاميّين. لكن الأهمّ هو ما يختم به فاروق من سرد حميم لحكاية "أمل" السكندرية المحجّبة الإسلامية، المؤمنة بالمقاومة الإسلامية في فلسطين، وعاشقة القدس، أمل التي تتخيّل نفسها توقف سيارة تاكسي في الإسكندرية وتقول للسائق "إلى غزة يا أسطى"، أو حتى "إلى القدس يا أسطى". وحين تزور المغطس في الأردن وترى علم الكيان الصهيوني تقوم بقذفه بالحجارة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.