}
عروض

"لا شيء أسود بالكامل": الحب والموت والموهبة

فيصل درّاج

23 أغسطس 2024


في رواية عزة طويل، اللبنانية المقيمة في كندا، "لا شيء أسود بالكامل" (*)، ما يفاجئ أكثر من مرة، ففيها، وهي روايتها الأولى، خبرة متضافرة جمعت بين النثر الطلق الطليق والبنية المحكمة والمتخيّل المستريح، الذي ينوس بين الممكن والمحتمل، واختصار نبيه يؤالف بين الهوامش والجوهري في حوار مفتوح يعيّن الهامش مركزًا ويوزّع المركز على حكايات متلاحقة. في رواية "لا شيء أسود بالكامل" ما يترجم إتقانًا، غير متوقع، يحايث المنظور والبناء ويقطع ما يدعى "بداية روائية"، بالمعنى المتعارف عليه، كما لو كانت البداية المفترضة سبقتها بدايات بعيدة عن التلعثم والاضطراب.
لا غرابة في أن يوحي عنوان الرواية بما تقصد قوله، إذ المتجانس المنضبط ترمي به الحياة جانبًا، وإذ في وجه الحياة ما يصالح بين أبعاد متنافرة. كأن عزة تحاور الحياة وهي تنسجها في كتابة "تشبه الحياة"، كتابة خضراء، إن صحّ القول، بعيدة عن القواميس والجمل الجاهزة. كتابة مجتهدة تنفذ إلى قرار الحياة ولا تخذل الكتابة الروائية، التي لا تصدر "فرديّتها الواضحة" المراجع "العامة" التي تصوغ الخطاب الروائي.
تبدأ سطور الرواية الأولى بالمفارقة، تلمح إلى ما ستقوله، تنطق فيه وتدع القارئ يُكمل ما تبقّى: "يسمع طنينًا ما، طنينًا قويًا،...، إنها البداية، وستكون عنيفة شيئًا ما". تحاور الكاتبة القارئ قبل أن تفرش أمامه حكاياتها المتفرقة القادمة، المجلّلة بالبكاء والقهقهة معًا، طالما أن الرواية، وهي محدودة الصفحات ـ 111 صفحة ـ "تنبثق" من الحياة، وتَعِد القارئ بأفق يتكئ إليه، يتصارع فيه الموت والحياة بإلفة مفاجئة، ذلك أن الموت وجه من وجوه الحياة، وأن الحياة مزيج من نضرة مشرقة وبكاء لا ينقضي.
ما يبدأ بمفارقة روائية، تثبت وتنفي معًا، ينفتح على مأساة ضرورية، حيث الموت يحضر ولا يغيب، ينتظر الإنسان في نهاية الطريق، ويعابثه وهو سائر إلى نهايته بأشكال مختلفة، تبدأ بالمرض ولا تنتهي برصاصة طائشة. ففي رواية عزة مكان رحب "للحرب الأهلية في لبنان"، وأصداء لأزيز رصاص قادم من مدينة "حمص" السورية، وأوجاع فلسطينيين عاشوا مأساة مخيميّ صبرا وشاتيلا، وتركت لأطفالهم أحلامًا لا تشبه أحلام الآخرين، فالفلسطيني يدخل إلى حلمه نازفًا ويخرج منه مبتور الأطراف.
اتكاء على وعي روائي، منضبط ومطلق السراح، بدأت عزّة طويل بالمفارقة، أوصلتها إلى مأساة بصيغة الجمع، لازمتها سخرية، جميلة الإيقاع، إن صحّ القول، تبدو صاخبة أحيانًا، ولطيفة في صخبها، وتغدو سوداء شديدة السواد حينًا آخر، فأحوال السخرية من أحوال الحياة أيضًا. وواقع الأمر أن الكاتبة أقامت روايتها على مبدأ التعدد المختلف الاتجاهات، الذي يحتضن القلب والروح والجسد والعشق والبكاء والولادة والإجهاض والاحتضار. قامت بتنويع الأمكنة الممتدة من مهد الطفولة إلى القبور ومن ضفاف النهر إلى البيوت المدمّرة، ومن "حمص"، كما رسمها الخيال السعيد، إلى مدينة أخرى يهرب منها الإنسان الذي تاق طويلًا إلى زيارتها. وبداهة، وهي ما ينساه الإنسان وهو يتحدّث عنه، فإن تعدد الأزمنة حايث تعددية الأمكنة: للمريض الذي ينتظر زائرًا زمنه، وللأم التي أودعت ابنًا في جيش لا يحارب زمنها، وللابن الذي يرهقه صوت والده زمنه أيضًا. الحياة تداخل من الأزمنة والأمكنة، ومن بشر يولدون في مكان ويرحلون في مكان آخر.




ومع أن الكاتبة، البهيجة الطموح، واءمت بين الوجع المرير ومتع الإنسان المتفرقة، أوكلت إلى الموت سلطة آمرة ناهية، حيث السرد الروائي من المبتدأ إلى المنتهى، لا يخفت إيقاعه إلا ليعلو ولا ينسحب إلا ليعود أكثر سطوة... الموت متعدد الأسباب والأشكال كوجوه الحياة السائرة من الغبار إلى أريج الربيع. فللسرطان ضحاياه، يأتي حين يأتي مساويًا بين الأعمار المختلفة، وللحرب العمياء، وهي دائمًا عمياء، بشر تنتظرهم القبور، وهناك الموت عجزًا، وللرصاص الطائش نصيبه، وبعض من البشر، الأسوياء ظاهريًا، يرحلون في السرير و"الحمّام"، تختار لهم الأقدار ما يشاؤون من أصناف الموت.
والموت متعدد الأشكال، تؤكّد الكاتبة، وما يواجه الموت متعدد بدوره، يُستهل بالعشق ولا يُستكمل بمسرّات الجسد، إذ للروح مساربها التي ترمّم حياة الإنسان بمشاهد لا ترى، تلامس الربيع في ظهر الشتاء وتروّض صهد الصيف بنسائم الذكريات. فللشباب أفراحه وللشيخوخة دفء مريح ومستريح. ولهذا يأتي الموت ولا يخيف ويتقدم المرضَ شفاءٌ لا بد منه.
يواجه الموت، وهو جزء من الحياة، ما يذلّل "رعبه" بوسائل منتظرة وغير منتظرة، كالحب الذي يوحّد الأجساد في الشتاء، وحنان الألفة أيام الحروب والقذائف العمياء، والفن في رسومه وموسيقاه وأشكال القبور وحكايات العجائز وذكريات الذين حرموا من الذكريات فترة، وعوّضهم عنها أحفاد جدّدوا أزمنتهم وجدّدتهم آمال تنتظرهم في ثنايا الدروب.
"لا شيء أسود بالكامل" "نص لا مركز له"، عامر بالتفاصيل الصغيرة وتتوسطّه الحياة، شخصياته لا تقصد لذاتها، إنما هي ذريعة للثناء على جمال الوجود الذي يغدق على المرأة حنانًا ضافيًا، ويدع لبعض الرجال ذكورتهم المأفونة. كأن نص عزة يساوي بين الأنثى العاشقة والسلام وبين الذكر المتجهّم والحرب، يعطف العشق الدافئ على جوهر الحياة، ويرسل بالكراهية إلى مشفى ناء لا يشفي أحدًا.
أوكلت الكاتبة بطولة عملها إلى الحياة، واتخذت من إيمانها بها منظورًا وتصورًا. ولهذا لا نهاية للرواية، فهي سر الحياة والحياة لا نهاية لها، بل إن الرواية لا تحتفي بالبداية، تأتي سريعة وأقرب إلى الشذرات. كما لو كانت الرواية "مقطعًا حكائيًا منقوصًا" رصدت ما وقعت عليه عين كاتبة تبدأ بفرح الحياة الجميل العصي على التعبير.
وما لغة الرواية، وهي جديرة بأكثر من ثناء، إلا إشارات لغوية تشتق المعنى المتاح وتدع التأويل إلى ما يبدو واضحًا وغامضًا، فلا لغة تبلغ قرار الحياة حتى لو اجتهدت، وأمعنت في الاجتهاد. اللغة المستحيلة صنو الصمت لا تصرّح بشيء. واللغة، كما الشخصيات، مرنة، كأنها شذرات: شذرات حكائية تنطقها لغة تقول الأشياء ناقصة، حال فصول العام، التي قد تحضر واضحة أو تعبْر ولا يلاحظ حضورها أحد.
"لا شيء أسود بالكامل" نص تسكنه المفارقة: نص صغير يفيض بما يريد قوله ويصبح كبيرًا. يحيل على حوار الموت والحياة والفرح والألم والعشق والكراهية والحرب والسلام، وعلى البيوت والخيام، والبشر العاديين واللاجئين الذي اكتسحهم أكثر من اغتراب.... على الأبناء يتأملون قبور آبائهم الأنيسة، وعلى الآباء الذين لم يختاروا آباءهم... وعلى لغة الكتابة التي تقترحها الحياة والأرواح المبدعة القلقة وتأتي جميلة لا تحاكى ولا تقلّد ولا تستشير نصوصًا قديمة أو جديدة.
"لا شيء، في الحياة أسود بالكامل"، فقد تسكنه نقاط مضيئة غير متوقعة، كما حال رواية عزّة طويل، الجديرة بالقراءة، تلك المهاجرة إلى الغرب والتي احتفظت بلغة عربية "غير مهاجرة".

(*) صدرت في شباط/ فبراير 2024 عن نوفل، هاشيت أنطوان ش. م. ل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.