}
عروض

"على حافة سطح": في شعرية الكوني وجماليات الألم

ليندا نصار

25 أغسطس 2024


كل من يواكب التجربة الشعرية لنسيمة الراوي منذ عملها "قبل أن تستيقظ طنجة" الصادر عن دار النهضة العربية في بيروت، يلمس قوة التخييل الشعري وفرادته على مستوى اللغة والصورة والكثافة والفكرة التي تؤول الإنسان في تناقضاته الصارخة. فهي لا تكتب القصيدة وفق قوانين الشعر المتعارف عليها في تحولاتها القصوى حتى في قصيدة النثر العربية، وإنما توسع النظرية النقدية المصاحبة للشعرية العربية بفعل رؤيتها الوجودية لكل ما هو مهمش في أدق التفاصيل والإحساس بالنهاية، ويمكن أن يظهر هذا الرأي النقدي بصورة واضحة في عملها الشعري الجديد الذي وسمته بـ "على حافة سطح" والصادر عن دار الفاصلة في طنجة عام 2023.
هذا الوعي الشعري بالعالم وتمثيلاته في صوره المتمايلة أو الآيلة للسقوط وتحويله إلى كون إنساني يقاوم من أجل التحليق من دون التفريط في علاقته بالحياة بعيدًا عن أي فهم يمكن أن يختزل الشعر في تخطيطات ساذجة أو بصريات زائدة، تتناسل القصائد فيما بينها كأنها قصيدة عالمية تذرف دموعها لا لكي نحزن جميعًا على ما تعيشه الذات الشاعرة من تمزقات وجودية تدفع بها إلى البحث عن خلاص حقيقي من تجريب فكرة قد يكون الشعر هو حبل الحياة لكي لا تسقط القصيدة في نمطيتها أو في صورها المضللة ولكي تدفع بالشعر العربي نحو أفقه الكوني بعيدًا عن استعارة العوالم أو العبارات أو المتخيل. 
تقول الشاعرة: "مَعْزوفَةٌ صَغِيرَةٌ/ تَرْفَعُ سَتائِرَ القارَّاتِ/ سِتارَةً سِتارَةً/ لِتَرَى الرُّوحُ شَكْلَهَا/ فِي مِرْآةٍ مُعَلَّقَةٍ/ فِي الجِهَةِ الأُخْرَى/ مِنَ العَالَمِ/ هَشَاشَةُ النَّهَاوَنْدْ/ تَكْسِرُ مِرْآةً بَعِيدَهْ/ مَنْ أَنَا؟/ تَقُولُ رُوحِيَ الْمُتَعَدِّدَهْ/ أُحِسُّ بِثِقْلِ الأَشْيَاءِ الخَفِيفَةِ/ تَمْشِي رُوحِي/ تُطْلِقُ أَسْئِلَتَهَا/ فِي وَجْهِ البَحْرِ/ مَنْ أَنَا؟/ مَنِ البَحْرُ؟/ مَنْ نَكُونُ فِي هَذَا التَّعَدُّدِ؟"
إننا أمام تجربة شعرية تمتلك قلقًا وجوديًا لا يقف عند قوة التكثيف الشعري وبلاغة الصورة المتخيلة، بل يمتد عميقًا إلى الروح لتتأمل فكرة الإقامة في اللغة كما يحددها هايدغر، ما دام هذا القلق هو مصدر فلسفة العمل الشعري الذي يتوزع إلى عالمين يوحدهما نبض الحياة بتمزقاتها الداخلية في كينونة الإنسان، أوليس الانتحار أولا وأخيرًا مجرد فكرة تتناسل من الداخل الملتبس بالرغبات التواقة إلى الانعتاق من شكل القيد حتى وإن كان مصدره نفسيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا...
"الشَّجَراتُ سَجائِر مَلْفُوفَةٌ تُدَخِّنها الأَرْضُ/ الأَرْضُ مِثْلِي لاَ تَـميلُ إلى الكَمال/ تَتْرُكُ الجُزْءَ العُلْوِيَ مِنَ السِّيجَارةِ الـمَلْفُوفَةِ مَفْتُوحا/ القُبورُ قُلوبُ الأَرْضِ كُلَّمَا أَحَبَّتْ أَحَدا أَنْزَلَتْهُ إلى قَلْبِها/ وَنَقَشَتْ اسْمَهُ/ تُرْعِبُني مَسَافَةُ الصِّفْرِ بَيْني وَبَيْنَ الأَرْضِ/ أَسْتَجْدِي الخَيَالَ/ أَصِيرُ غَيْمَةً/ أَنْهَمِرُ كَلِماتٍ".




لهذا، فعمل "على حافة سطح" يمثل تجربة شعرية توسع من إمكانات قصيدة النثر العربية جماليًّا لتدفع بها نحو شكلها اللانهائي من دون التفريط في قوة المعنى وتأويل فكرة السقوط على نحو مدهش حتى أن هذه الرغبة الجارفة في الفاجعة تتحول إلى ديناميت للحياة، أولسنا في النهاية كائنات تعشق الفن والرقص والموسيقى وقراءة كل ما جميل ضد هذه البشاعة التي تهدد حقيقة وجودنا لتحولنا إلى كائنات ممزقة بفعل قوة التدافع التقني بحثًا عن التشابه القاتل لكل مظاهر الاختلاف؟ تقول الشاعرة: "الشَّجَرَاتُ رِيشاتٌ فِي أَيَادِي الأَرْضِ تَرْسُمُ بِهَا مَا يَرَاهُ/ الـمُتَأَمِّلُونَ كُلَّمَا رَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ مُسْتَسْلِمِينَ لِلْخَيَالِ/ الشَّجَرَاتُ تَـمُدُّ أَغْصَانَهَا صَوْبَ السَّمَاءِ تَمامًا كَمَا نُـمَدِّدُ لِحافًا/ صَوْبَ شَخْصٍ يَقِفُ عَلَى حَافَّةِ سَطْحٍ/ مُوحِيًّا أَنَّهُ سَيَسْقُطُ بَعْدَ قَلِيلٍ../ كُلَّمَا تَـمَلَّكَني الْأَرَقُ أَعُدُّ الْأَشْجَارَ/ كَمْ مِنْ غَابَةٍ عَبَرْتُ يَا لَيْلِيَ الطَّوِيلَ...".
إنها تطارد المعنى ويطاردها كما يقول أدونيس من دون أن نشعر بالمشي على الحافة في أثير محطتين متماهيتين عبر عنوانين كبيرين يشكلان مظلة لعناوين صغرى للقصائد التابعة لهما. إذًا نحن أمام تجربة تمتلك شرطها الجمالي في تمثيل الفكرة الكونية ما دام اتجاهها تنازليًا إذ تختزل بالعنوان الأول "سقوط" والاتجاه الثاني تصاعدي "تحليق"، وتنجح الشاعرة في بناء منطقة شعرية خاصة تجمع بين هاتين المسافتين اللتين تفصلان بين عوالمها: العالم العلوي والعالم السفلي انطلاقًا من قوة الحياة على الرغم من قوة الألم، كيف يتحول الألم إلى شعر حقيقي مفرح هو ما تعمل القصائد على التفكير فيه والانتصار له عبر هذه القطع البلورية، كما تقول سوزان برنار في أطروحتها حول "قصيدة النثر". تقول الشاعرة: "تَتَسَاقَطُ الْأَفْكَارُ مُتَدَحْرِجَةً/ مِنْ سَمَاءِ الْغُرْفَةِ/ عَلَى رَأْسِي/ تُوجِعُنِـي/ هَلْ عَلَيَّ أَنْ أَحْمِلَ الْـمِظَلَّهْ/ كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ عَنِ الْـحَرْبِ؟"...
إن فكرة "على حافة سطح" تثير داخلك قلقًا يتجاوز الشك نفسه، ما دام الأمر يتعلق بتلك العلاقة الاعتباطية التي تجمع بين الدال والمدلول، فكيف سيصبح الأمر حين يصبح الشعر بين وجهي الموت/ سقوط وحياة/ تحليق. تقول الشاعرة: "لَوْلاَ الْـمَطَرُ لَصَدَّقْتُ أَنَّ الْـمَوْتَى لاَ يَبْكُونَ" هكذا أرادت الشاعرة نسيمة الراوي لديوانها أن يحيط بحيرة وقلق تعيشهما لتعبر وتتجاوز نحو عالم أقل خوفًا وأكثر أمانًا، لعله عالم الشعر، منطقة الاحتماء والشعور بالسعادة بعد ولادة كل قصيدة. إننا أمام طقوس كتابة من نوع آخر، لعله المعنى الذي يتسرب إلى قصائد الشاعرة تمزجه بتجربتها التي عاشتها في الطبيعة سواء في طنجة ومناطق الشمال أم في أسفارها التي تأتي على توثيقها في نهاية الديوان؛ فالشعر هنا مغامرة شاقة تسعى الشاعرة عبرها إلى النجاة من سطوة الأفكار التي تهدد الإنسان في كينونته قبل أي شيء والعبور به إلى عالم مليء بالحرية ضد آلة الحرب. تقول الشاعرة: "يَرْفُضُ طِفْلٌ فَقَدَ ذِرَاعَيْهِ/فِـي الْـحَرْبِ/ أَنْ يَدْخُلَ مِنَ الْبَلكُونَةِ/ يَفْرِدُ جَنَاحَيْهِ/ يُـجَرِّبُ أَنْ يَصِيرَ طَائِرًا/ لاَ تَتَعَرَّفُ الْـمَدِينَةُ عَلَى نَفْسِهَا فـي الْـمِرْآةِ/ مَنْ عَلَّقَ عَلَى كُلِّ جِدَارٍ قَفَصا؟".




يُكتَبُ الشعر الحقيقي في المناطق المغايرة، يتأمل الحياة وما فيها من قسوة فلا يجد نفسه إلا أن يكون منقذًا للكائن ومخلصًا لفكرته عن العالم، وحده هذا الخلاص من يشيد فكر مسافة بين الحب والصدق وجدلية الحياة والموت، هو إصغاء لمعزوفة كونية تكبتها الشاعرة بروحها العالمية التواقة إلى تخليص الإنسان من أصوات تربك حواسه وخياله ونظرته إلى جسده وما يتلاشى بداخله من خوف ورغبة في النجاة... إنها معزوفة تجول بهدوء في الكوني التي تقول الوعد بالعيش الآمن والهانئ. تقول الشاعرة: " مَعْزُوفَةٌ صَغِيرَةٌ/ تَصْعَدُ عَلَى سُلَّمِ السَّمَاءِ/ السَّمَاءُ تَسْقُطُ تَدْرِيجِيّا/ يَقْطِفُ البَحْرُ السَّمَاءَ الْمَعْزُوفَةَ/ الأَرْوَاحْ".  
يبدو أن الشاعرة نسيمة الراوي تعمق فهمنا للحياة في الألم مهما كان لونه، فللطبيعة صوت وإحساس وروح تضمد الجروح في بطن هذا العالم المفتوح على آلات القتل، بل تصبح الحرب وجها لوجه مع هشاشة تلك الروح التواقة إلى السلام الداخلي قبل الخارجي، وهل تنتهي الحرب من دون أن تنجو الذاكرة من رمادها واحتراقاتها؟ إنه التداوي بالحرية فالحرب أنواع، إنها أمام حرب داخلية تعيشها الشاعرة على نحو مؤلم تحاول اقتناص فرصة النجاة وتصر على تكرار المحاولات مهما اشتد الألم من حولها. تقول: "مِرْوَحِيَّاتٌ حَرْبِيَّةٌ/ حَظْرُ تَـجْوَالٍ/ وَحْدَهَا السَّمَاءُ فِـي الْـخَارِجِ/ الْغُيُومُ قُطْنٌ تَضَعُهُ عَلَى جِرَاحِهَا/ مُغْمَضَة أَعْيُنُ الْغُيُومِ/ لَكِنَّهَا لاَ تَـحْتَاجُ إِلَـى عُكَّازٍ كَيْ تَعْبُرَ السَّمَاءْ/ الْغُيُومُ وُجُوهُ مَوْتَى تَعَثَّرُواْ فِـي بَيَاضِهِمْ". لهذا تحاكي الشاعرة الطبيعة على نحو متفرد في قوة العبارة التي تبدعها حتى لتكاد لا تمر قصيدة إلا وتذكر فيها عناصرها، فمن الأشجار التي تشبهها والتي لا ترى فيها الكمال إلى الغيوم في السماء إلى عناصر أخرى حتى يغدو الشعر عالما مفخخًا من الصور المبتكرة في شعرنا العربي المعاصر على نحو ما نجده في المثال الآتي وغيره من النصوص التي أوردناها في سياق هذا المقال: "الْغَيْمَاتُ مِـخَدَّاتُ الْـمَوْتَى/ الثَّلْجُ قُطْنٌ يَتَسَاقَطُ/ كُلَّمَا تَرَاشَقَ صِغَارُ الْـمَوْتَى/ بِالْـمِخَدَّاتِ".  
يتجلى البحث عن مناطق النجاة من خلال إبداعية الصورة الشعرية في كثافتها المدهشة التي تحيلنا إلى عالم مادي محسوس لتصبح الغيوم مشاركة في العمل الإنساني؛ فهي تتحول إلى قطن يضمد جراح الموتى وفضاء السماء الجموح نحو الحرية. كما تثير هذه القصائد الحاجة إلى التخطي والتجاوز. كذلك هذه المرأة صارت تشكل ذاتًا وموضوعًا في متخيل قصيدتها، أي صارت مشاركة في الخطاب الشعري كما يقول أنسي الحاج، فلا شعر من دون أن يكون متماهيًا مع اشتباكات الحياة وقوة اليومي وفكرة العبور إلى حدود أكثر رحابة من تلك المساحات التي تدخل بشكل أو بآخر في هشاشة القول أو في استعارة ما هو موجود في شعرنا العربي أو العالم. إنها المرأة الحاضرة المشاركة التي تمتلك تصوراتها ورؤياها الخاصة؛ إنها تعيش في عوالمها الملتبسة تدعونا لكي نغير نظرتنا إلى ذات وجسد المرأة في كل القارات في ضوء قلق جمالي مفتوح غير مطمئن. إنها برأيي تكتب بأفق غير عادي في شعرنا العربي ما دامت تجربتها في الحياة أصيلة ومدوية. وهي تقول: "رَغْمَ أَنَّهَا ابْتَعَدَتْ بِـمَا يَكْفِي عَنْ كَابُوسِ الْأَرْضِ/ تَرْكَبُ السَّمَاءُ ظَهْرَ الْغُيُومِ الْـهَارِبَةِ/ السَّمَاءُ مُصَابَةٌ بِفُوبْيَا الْأَرْضِ/ هَلْ تَرْكَبُ السَّمَاءُ ظَهْرَ الْغُيُومِ الـهَـارِبَةِ خَوْفًا مِنْ نَزْعَةِ الْقَتْلِ لَدَى الْأَرْضِ أَمْ تَشَبُّثًا بِالْأُمُومَةِ؟".

نجحت الشاعرة المغربية نسيمة الراوي عبر عملها "على حافة سطح" في أن تدفع قارئها إلى تأمل شعريتها التي يمكننا أن نفخر بها في شعرنا العربي المعاصر ما دام صوتها خاصًا ومتفردًا يشبهها في ارتكانها إلى الظل بعيدًا عن جلبة الأضواء الطافحة بالتسطيح، فالشاعر الحقيقي يجنح نحو الصمت ليوقظ فينا تلك الحواس الدقيقة حتى وإن كان الألم هو الذي يوحدنا اليوم على غير العادة، ولعل كتابتها تأتي من تلك التجارب الإنسانية الخالصة في هذا الحقل المليء بالطاقة الذي يجتذب الشعراء منه الأحلام والجمال من أجل أن يكتبوا نصوصًا بجماليات تحمي من التشيؤ وترمم تشققات الروح. وتمتد الأفكار الكونية إلى عمق النص الشعري التي يسعى الشاعر عبرها إلى إبراز قدرة الذات على التحكم بمساحات اللاوعي لتتحد بالوعي. هكذا هو الشعر، وهكذا هو الفن، جزء من إنسانية الإنسان وحضارته، وهو حاجة كونية وسبيل صادق يؤدي إلى النجاة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.