}
عروض

أدوار عُلماء دمشق خلال الحكم العثماني

عمر كوش

27 أغسطس 2024


تزايد الاهتمام بالمجتمع السوري ومكوّناته الاجتماعية، بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، وذلك من أجل فهم تاريخ الكيان السوري، وتفسير مواقف مؤسساته ومكوّناته، مع تبيان أدوارها في بناء الدولة السورية، بغية إنارة الفسحات والمساحات التي حاول نظام الأسد التعتيم عليها، وذلك في نطاق محاولاته إخفاء صفحات كثيرة من التاريخ السوري، وتقديم روايات مشوهة ومزيفة، ولا تمت بصلة إلى أدوار مكونات المجتمع السوري ومؤسساته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا السياق، يتناول حسان القالش، في كتابه "سياسة عُلماء دمشق: أسئلة الإصلاح والهويّة والعُروبة (1516-1916)"، الصادر منذ بضعة أشهر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، المؤسسة الدينية الدمشقية، ممثلة بأبرز علمائها ورموزها الذين برزت أدوارهم خلال فترة الحكم العثماني الطويلة، وذلك انطلاقًا من الإقرار بمركزية دور دمشق الحيوي في تشكيل الكيان السوري، وتطوراته عبر مختلف مراحل تاريخه الحديث.

تكمن أهمية الكتاب في تتبّع الأدوار التي لعبها أبرز علماء دمشق، خلال الحكم العثماني، على مختلف المستويات الدينية والثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية، والتي تناولها المؤلف فيه، وجمعها تحت عنوان "سياسة علماء دمشق"، لكن هذا الجمع يثير تساؤلات حول ممكنات الحديث عن وجود "سياسة" لعلماء دمشق في تلك الفترة المدروسة، ربما مجازًا أو لضرورات البحث الإجرائية، لأن الحديث يطاول شخصيات دينية متعددة المنابت والمشارب، ولعبت أدوارًا متباينة في تاريخ المؤسسة الدينية الدمشقية في الفترة المدروسة، الممتدة من أوائل القرن السادس عشر وصولًا إلى نهاية القرن التاسع عشر. وقد استلزم هذا الامتداد التاريخي اتّباع قاعدة التسلسل الزمني، بما يعني البحث في أدوار العلماء ضمن المرحلة التاريخية التي عاشوها، كي يمكن تبيان طبيعة أدوارهم، والنظر في حيثياتها وأسبابها. إضافة إلى إظهار تأثيراتها في الأحداث والقضايا التي واجهوها، خاصة وأن العلماء في العهد العثماني كانوا يشكلون أهم مكوّن للفئات التي كانت تعنى بالشأن العام وتتدخل في تضاريسه، وبالتالي فإن من المهم تبيان الأفكار التي طرحوها في زمنهم، وطبيعة العلاقة التي كانت تربطهم بنظام الحكم، مع التطرّق إلى مواقفهم من مسائل عصرهم، وإسهاماتهم في ولادة الأفكار الإصلاحية والإحيائية، وفي تشكل الهويات المحلية، وما تلاها من ولادة أفكار العروبة والقومية والهوية السورية وسوى ذلك.

يتقاطع في الكتاب السرد التاريخي للأحداث التي مرّت بها سورية بشكل عام، ودمشق بشكل خاص، مع سير العلماء وأدوارهم في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية فيها، وفي بعض المواضع يطغى أحدهما على الآخر. ويبدأ المؤلف من تناول حالة علماء المؤسَّسة الدينية الدمشقية عند بداية دخول العثمانيين إلى سورية، مرجعًا عملية تسليم دمشق لقوات السلطان سليم الأوّل دمشق دون قتال في عام 1516 إلى دور علمائها، الذين كانوا يطمحون إلى عدم الرضوخ لهيمنة العثمانيين على المؤسسة الدينية، حيث قبلوا تعيين قاض عثماني، لكنهم بالمقابل استحوذوا على منصب المفتي في مدينتهم. ومن المفيد ذكره أن العثمانيين دخلوا دمشق بعد هزيمة المماليك بمعركة "مرج دابق"، واستُقبلوا في سائر المدن السورية، وخاصة حلب ودمشق، التي فرشت شوارعها بالحرير وسط احتفالات كبيرة. وسبق أن دخلت المدينة، في شهر أيلول/ سبتمبر 1260، قوات الظاهر بيبرس (1223-1277)، حيث استُقبل أيضًا كمحرّر. 

 يعتبر حسان القالش أن "العثمنة" لم تكن تحمل معنى هوياتيًا، بل كانت إدارية وتطبيقية


يرى المؤلف أن التغييرات التي أحدثها العثمانيون كان لها آثار إيجابية، مثل اعتماد المذهب الحنفي مذهبًا رسميًا للسلطنة، وتشريعات السلطان سليمان القانوني التي أدّت إلى اندماج المؤسسة الدينية في النظام العثماني، ويعتبر أن "العثمنة" التي قام بها لم تكن تحمل معنى هوياتيًا، بل كانت إدارية وتطبيقية. إضافة إلى أنها جرت على مستوى الطرق الصوفية الدمشقية، التي كان دورها محوريًا في السلطَنة العثمانية، لأن الصوفية كانت من الأساسيات في تشكيل الهوية العثمانية والسلالة الحاكِمة، وبالتالي، شكّلت جسرًا ثقافيًا ربط الحكم العثماني مع الدمشقيين، الذي توجّته زيارة سليم الأول قبر الوليّ الصوفيِ محيي الدين بن عربي، إضافة إلى أنه قام بترميم القبر، وبنى "تكيّة" أمامه عرفت باسم "السليمانية". وقد أراد العثمانيون من كل ذلك إدماج المؤسسة الدينية الدمشقية في نظام حكمهم، فيما سارع علماء دمشق إلى الانخراط بالعثمنة لكسب الشرعية، إضافة إلى أنهم اهتموا بالطرق الصوفية ودخلوا فيها، باعتبارها من الفاعلين الأساسيين في علاقة المدينة بنظام الحكم العثماني، حيث تعدّدت الطرق الصوفية في دمشق، وكان من بينها الطريقة الجباوية والطريقة الصمادية والطريقة العلوانية. أما محي الدين بن عربي فقد استقر في دمشق عام 1221، وحظي باستقبال جيد في دمشق، لكن أفكاره تعرضت لانتقاد شديد، خاصة بعد موته. وساهم العثمانيون في عودة ذكراه وإحياء أفكاره. وظهر في أواسط القرن السابع عشر عالمان في دمشق هما مراد البخاري وعبد الغني النابلسي، كان لهما دوران مؤثران في دمشق والسلطنة العثمانية، بسبب التأثير القوي للطرق الصوفية التي انتميا إليها، إضافة إلى دورهما المحوري فيهما. وقد اشتُهر النابلسي في زمنه بتصدّيه للمتشدّدين الإسلاميين، وخوضه معارك كلامية معهم، خاصة حول تحريمهم الدخان والتبغ، الذي أجازه باعتباره إحدى ظواهر الحداثة ورافعة لاقتصاد السلطنة عبر المقاهي أو ما كان يُعرف باسم بيوت القهوة، إضافة إلى دفاعه عن تراث ابن عربي ودعوته إلى نشره وإحيائه. أما مراد المرادي، فقد نجح في تحصيل مكانة لعائلته القادمة من بخارى، وذلك عبر نشر الطريقة النقشبندية، التي دخل فيها العديد من أعضاء الطبقة الحاكمة في إسطنبول. وفي أواسط القرن الثامن عشر كانت دمشق على موعد مع أول حكم عربي عبر آل العظم، وشهد حكمهم الذي امتد نحو قرن من الزمن، ظهور بعض المتغيرات، وذلك بعد أن خفّ اتصال الدمشقيين بمركز الحكم بوجود حكم محلي قوي، حيث عزّز العثمانيون من هيبة حاكم دمشق بأن جعلوه أمير الحج الشامي، ومنحوه بعض الامتيازات مثل الإبقاء على جيشه في منطقته. لكن رغم ذلك حافظت دمشق على عثمانيتها مع ميل محليّ للاهتمام بهويتها، وظهر تمسك علمائها بالولاء العثماني عند محاولة مماليك مصر بقيادة محمد أبو الذهب احتلال دمشق في عام 1771، كما نزع علماؤها، وأبرزهم محمد أمين عابدين وحسن الشطي، الشرعية الفقهية عن أوّل ثورة عربية على السلطنة التي قادتها الحركة الوهّابية في الحجاز، لكن ولاءهم للعثمانيين برز بشكل قوي مع احتلال محمد علي باشا سورية (1832 - 1841)، حيث اختار علماء دمشق البقاء على الولاء العثماني، وذلك على الرغم من ظروف أهل دمشق الصعبة وقتذاك. ولعل أسباب موقفهم تعود إلى استبداد محمد علي في فرض إصلاحاته على سورية، حيث لم يراعِ خصوصية دمشق، لذلك لم يبقَ منها بعد رحيله سوى مُساواة المسيحيين والمسلمين، التي فُرضت من فوق، وكانت أشبهَ بقنبلة اجتماعية موقوتة زرعها ثم غادر.


ومع الحروب العثمانية والروسية، والعثمانية الأوروبية، ولد صراع ديني في دمشق أفضى إلى صدامات مسيحية إسلامية بدأت في حلب عام 1850، وانتقلَت إلى القدس ونابلس في عام 1855، ثم الحرب الأهلية في جبل لبنان في عام 1841، والتنكيل بيهود دمشق بتحريض من مسيحيّيها والقناصل الأوروبيين وسلطة محمد علي. وبلغ الصراع ذروته في المذبحة بحق مسيحيي المدينة في عام 1860، لأسباب كثيرة. ويتحمّل علماء دمشق جزءًا من المسؤولية عن المجزرة، التي أفضت إلى إخضاع دمشق لإصلاحات مرسومَي التنظيمات، وإلى بروز علماء فيها عُرفوا بالإصلاحيين بقيادة عبد القادر الجزائري. وكان أبرزهم وزير الخارجية في ذلك الوقت، فؤاد باشا، الذي عمل على تدارك تداعيات المجزرة والحدّ من استغلال الأوروبيين لها. وكان له دور هام في تكريس ما يسمّيه المؤلف "الهوية السورية العثمانية"، فكرّس "سورية الكيانيّة"، وقام برعاية العلماء الإصلاحيين الدمشقيين والمثقّفين المسيحيين اللبنانيين، الذين قاموا بصياغة فكرة الوطن السوري ضمن الولاء العثماني، مثل بطرس البستاني وخليل خوري وسواهما. وتتوّجت الفكرة بتأسيس ولاية سورية في عام 1865، لكن مع تسلّم عبد الحميد الثاني حكم السلطنة العثمانية في عام 1876، شهدت دمشق اضطرابات اجتماعية وسياسية، وخصوصًا مع مدحت باشا، حيث تحوّلت دمشق في حكمه إلى مركز معاد للإصلاحات بقيادة علماء محافظين، تبنّوا سياسة متشدّدة ضد الإصلاحات لتحقيق أهداف السلطان وإرضائه. ثم برزت "السلَفية الدمشقيّة" مع أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في مصر، وظهرت نسختها المطوَّرة مع محمد الشطي والمفتي الحمزاوي وغيرهما، اللذين نسّقا مع محمد رشيد رضا، التلميذ المقرّب من محمد عبده. وظهر إصلاحيون جدد من أمثال رفيق العظم ومحمد كرد علي وشكري العسلي وعبد الوهّاب الإنكليزي وعبد الرحمن الشهبندر، الذين طرحوا للمرة الأولى قضايا المرأة والعَلْمانية وتخلف دمشق الثقافي، إلا أنهم قوبلوا بقمع السلطان عبد الحميد، لكنهم عادوا إلى العمل بقوة أكبر بعد إسقاط الاتحاديين نظام حكمه في عام 1909 وإعادتهم العمل بالدستور، ولم يدم الأمر طويلًا إذ سرعان ما اصطدموا بما كان يخطّط له الاتحاديون الذين اعتمدوا سياسة مركزية وهويّة قائمة على تَتْريك أقليات السلطنة والعداء للعرب، لذلك انتهج الإصلاحيون سياسة عروبية في مواجهة الاتحاديين، فنادى كل من شفيق المؤيد ورشدي الشمعة الدمشقيين باللامركزية الإدارية التي تضمن حقوق العرب الثقافية والسياسية في البرلمان، ثم ظهر جيل عروبيين أصغر نشط في إسطنبول، كان أبرزهم محب الدين الخطيب، الذي كان أكثر راديكاليّة، وأنشأ جمعيات سياسية سرية عندما لم يجد استجابة لمطالبه من الاتحاديين. وقام العروبيون بتنظيم مؤتمر في باريس عام 1913 أسفر عن اتفاق على استمرار التفاوض حول حقوق العرب، لكن مع إظهار الاتحاديين عدم جدّية في تلبية المطالب العربية، ووصول الصراع ذروته مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، قام جمال باشا السفّاح بالفتك بالعروبيين. ثم جاءت ثورة الشريف حسين ودخول القوات العربية بقيادة الأمير فيصل دمشق ليعلن زوال الحكم العثماني وإقامة أول حكم عربي في دمشق، وبرزت هويات وطنية محلية، ومنها الوطنية السورية، التي اختلطت منذ تشكّلها بالعروبة والقومية العربية، ثم جاء نظام الأسد كي يجهض مسار نضجها وتبلورها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.