}
عروض

لماذا نقرأ الشعر اليوم؟ فارس يواكيم مترجما "عيون إلزا"

رشيد بوطيب

4 أغسطس 2024



نسمع بين الحين والآخر أصواتًا تحدّثنا عن موت الشّعر، وقد لا نعدم أسماءً كثيرةً هجرت كتابة الشّعر إلى فنون أخرى للكتابة وخاصّة الرّواية، أو حتّى النّقد، ولكنّ الحديث عن موت الشّعر يقول الكثير عن ثقافتنا اليوم، وعن المصير الّذي انتهت إليه الثّقافة الإنسانيّة عمومًا، ولا يجب أن نغفل بأنّ موت الشّعر هو إيذانٌ بموت فنون أخرى، ومنها الفلسفة مثلًا، فكلّ ما لا يحقّق مبيعات لا يستحقّ الحياة في عالمنا النّيوليبراليّ، ولربّما تكون أعلى أشكال المقاومة اليوم ضدّ النّيوليبراليّة أن نتمسّك بالشّعر والفلسفة، بل وأن نستعملهما ضدّ رداءة النّظام السّائد. "من يتكلّم، فهو ليس ميّتًا"، يكتب غوتفريد بن في إحدى قصائده. ولنقلها بكلّ صراحة: إنّ منطق الاستهلاك أصبح يتحكّم بالأدب، ويحدّد مساره ويملي مضامينه، بل ويتحكّم بالفكر أيضًا. ولربّما من أهمّ أشكال مقاومة الوضع الرّاهن، هو العودة إلى الشّعر، وإلى النّصوص الشّعريّة الكبرى، الّتي لا يتوجّب أن تختفي عن الكتاب المدرسيّ كما لا يجب أن تختفي عن المجلّة أو الصّحيفة ولا حتّى عن وسائل الإعلام، بدون أن يعني ذلك الانحطاط بالشّعر إلى نوع من المهرجانيّة الرّخيصة.
يكتب مالارميه بأنّ الشّعر "يعود باللّغة الإنسانيّة إلى إيقاعها"، وهو يميّز في نصّه الشّهير: "أزمة البيت الشّعريّ" بين اللّغة العاديّة واللّغة الجوهريّة أو الشّعريّة، والّتي فيها فقط ترتقي اللّغة إلى التّعبير عن المعنى والملغز في الوجود، بل وعبر الشّعر فقط يكتسب وجودنا أصالته الأنطولوجيّة، وقد يكون تعويضًا عن الفراغ الترنسندنتاليّ كما يعتقد مالارميه، ولكنّه قد يكون أيضًا وسيلة للمقاومة ضدّ المحتلّ كما الحال عند أراغون، وفي كلتا الحالتين، فإنّ الشّعر مقاومة ضدّ اللا ـ أصالة وتجربة روحيّة واحتفاء بالإنسانيّ أو ما تبقّى منه.
أصدر فارس يواكيم مؤخرًا ترجمة جديدة لديوان لويس أراغون الشّهير: "عيون إلزا"، متجاوزًا أخطاء التّرجمة السّابقة. وقد قدّم للتّرجمة بمقدّمة توقّفت عند السّياق التّاريخيّ لصدور الدّيوان، ولكن أيضًا أمام الصّعوبات الّتي يقف أمامها المترجم، وهي الصّعوبات الّتي جعلت جاكوبسون مثلًا يتحدّث عن استحالة ترجمة الشّعر وكثيرٌ غيره. وعلى الرّغم من بساطة الصّياغة الّتي تميّز هذا الدّيوان إلّا أنّ نقل تلك البساطة إلى لغة الضّاد ليس بالأمر الهيّن، ولا يقدر عليه إلّا من امتلك ليس فقط معرفة عميقة باللّغتين، ولكن أيضًا نفسًا شعريًّا وشجاعة على تجاوز صنميّة النّصّ الأصليّ، وهو ما نقف عليه بوضوح في التّرجمة الّتي يقدّمها يواكيم، والّتي يتوجّب الاحتفاء بها وذلك ليس فقط لأنّها تعود بنا إلى شاعر كبير وشاعر ملهم، وشاعر ثوريّ، ولكنّها أيضًا لأنّها تمضي باللّغة العربيّة إلى ذلك الإيقاع الّذي تحدّث عنه مالارميه أو تذكّرنا به في زمن سيطرت عليه نثريّة رديئة.




كتب أراغون ديوانه في قلب الحرب العالميّة الثّانية، وفي وقت كان فيه شمال فرنسا وغربها تحت حكم الجيش النّازيّ، ويبدأ الدّيوان بالقصيدة الشّهيرة "عيون إلزا" والّتي تغنّى بها أيضًا المغنّي الفرنسيّ الشّهير جان فيرا، وفي القصيدة يتغنّى أراغون بحبيبته والّتي ستضحي أيضًا رمزًا لفرنسا، إذ مباشرة بعدها في قصيدة "ليلة أيّار" سيحدّثنا أراغون عن وجع الحرب الفظيعة، ويكتب:
أيّها العائدون من "فيمي" بعد عشرين سنة أنصاف موتى بالزّيّ العسكريّ الأزرق أنا أتبع طريق الفجر كمروحيّة تدور حول المسلّة أجازف إلى حيث تتيهون في سيّئ النّوم، في سيّئ الدّفن.
إلى أن يقول:
يتشابه الموتى والأحياء إذا ارتعشوا الأحياء موتى ينامون في أسرّتهم هذه اللّيلة: الأحياء يبعثون والموتى المستيقظون يرتعشون، وإيّاهم يشبهون.
وفي حمأة الحرب وهدير المدافع يتذكّر الشّاعر المقاوم حبيبته مرّة أخرى، فهي عزاؤه الوحيد في زمن يرخي الموت عليه سدوله، ويصرخ متحدّيًا في قصيدة "ليلة دنكيرك":
سأصرخ، سأصرخ بأقوى من القذائف ومن الجرحى ومن الّذين ثملوا سأصرخ سأصرخ: شفتاك هما الكأس الّتي شربت فيها الحبّ المديد والنّبيذ الأحمر...
وعلى طول قصائد هذا الدّيوان تتبادل إلزا وفرنسا الأدوار، وكما يكتب يواكيم في مقدّمته لقصيدة "سيه": "والقصيدة تبدو أوّل وهلة قصيدة غزل في إلزا، أمّا في وجهها الثّاني الكامن، فهي رفض صارخ للهزيمة، وقد ألبسها أراغون ثوب عشق الحبيبة ليتجنّب منع الرّقابة نشرها، ويبدو أنّها لم تفطن إلى المعنى الضّمنيّ ما دامت القصيدة تتحدّث عن الأزمان الماضية والأمجاد الزّائفة. لكنّ القرّاء الفرنسيّين أدركوا آنذاك أنّ "الفارس الجريح" هو الجيش الفرنسيّ وأسلحته الفارغة من الذّخائر ومدرّعاته المنقلبة، وأنّ الصّدار الّذي حُلّ رباطه يرمز إلى فرنسا المغتصبة، الوردة الملقاة على قارعة الطّريق".
ويتكوّن القسم الأخير من الدّيوان والّذي يحمل عنوان: "نشيد إلزا"، من ستّة نصوص مهداة إلى حبيبة الشّاعر، وهي قصائد يتغزّل فيها الشّاعر بحبيبته ويقارن بينها في قصيدة تحمل عنوان: "الجميلات"، ونساء شهيرات عشن أجمل قصص الحبّ، وينحت مكانًا لها بينهنّ، ويبدع يواكيم في ترجمة هذه القصيدة أيّما إبداع، ونشعر أنّ أراغون يخاطبنا في العربيّة الّتي وصفها يومًا بأنّها لغة "أسنانها من عسل":
شهريار، شهريار فلتتوقّف الفأس يا عالمًا مُدانًا لا تزال الأرض بحاجة إلى حكاية حبّ، إلى سيجارة أخيرة هي الأغنية السّرّيّة الّتي تلعثم المشنقة عند حافّة السّماء.
سيكتب أدورنو في لحظة يأس: "لا يمكننا أن نكتب شعرًا بعد أوشفيتس"، وقد يراودنا اليأس نفسه، ونحن نرى يوميًّا ما تفعله أوشفيتس النّظام العالميّ الجديد، الّذي انبثق عن الحرب العالميّة الثّانية، بضحايا من كلّ لون وحدب. لقد كان محقًّا أدورنو وهو يتحدّث عن استمرار المحرقة ما استمرّت الشّروط الّتي أنتجتها، ولكنّه أخطأ لا ريب في موقفه من كتابة الشّعر بعدها، فالأرض، كما كتب أراغون، "لا تزال بحاجة إلى حكاية حبّ"...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.