}
عروض

موسوعة دالمان: وثيقة تاريخية وأنثروبولوجية حول فلسطين بحضارتها وشعبها

محمود شريح

5 أغسطس 2024

عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة/ بيروت) صدرت مؤخرًا "موسوعة العمل والعادات والتقاليد في فلسطين"، في عشرة أجزاء مترجمة عن الألمانية، كان غوستاف دالمان (1855 ــ 1941) أصدرها بدءًا من عام 1928، إثر إقامته في فلسطين وتنقّله بين مدنها وقراها بين 1899 و1917، قبل أن يعود إليها ويقضي فيها أعوامًا عدة، ويستغرق بقيّة سنيّ عمره في تأليف موسوعته هذه التي صدرت بتمام أجزائها بالألمانية بعد رحيله بعام، واتّسمت بتقديمها صورة شاملة عن استمرارية الحضارات في فلسطين.
كان غوستاف دالمان قد شغف بالقرى والمدن الفلسطينية، وبحياة البدو، وطرائق العيش التي أتقنها الفلسطينيون في مدائنهم وأريافهم ونواديهم، فجالَ في طول البلاد وعرضها، ونام في بيوت الفلّاحين، وخيام البدو، وأحياء المدن.
إنه غوستاف دالمان، عالم الآثار، ومدير المعهد الإنجيلي الألماني للآثار في الأراضي المقدّسة، الذي لم يلجأ إلى أي حفريات في فلسطين، إذ أنه أرادَ أن يستكشف حياة الناس فوق أرضهم، ليدرسَ، بشمولية نادرة، تاريخ فلسطين الحضري والاجتماعي، فاعتمد طريقة السينما في السرد، وتقدّم في الزمن حتى القرن العشرين، ثمّ ارتدّ إلى القرون السابقة للعصر المفترض للمسيح، وتدرّج عبر العهود اللاحقة، فكان بذلك مخرجًا للأفلام السينمائية التوثيقية.
على هذا النحو، تستعيد موسوعة دالمان عن فلسطين مشاهد الحياة في فلسطين منذ أقدم العصور حتى مطلع القرن العشرين، من خلال الصُّوَر والنصوص الوصفية، والخُلاصات التي توصّل إليها علم التاريخ، وعلم الآثار، والمباحث اللاهوتية في آن، ولعلّ موسوعة دالمان هذه، بأجزائها العشرة، أفضل كتاب عن فلسطين وأهلها يصدر منذ 1984، حين أصدر أنيس صايغ "الموسوعة الفلسطينية"، بأجزائها العشرة أيضًا.
صرف دالمان عشرين عامًا في جمع المعلومات عن فلسطين وتدوينها ومطابقتها على الجغرافيا، ثم استغرق أربعة عشر عامًا في تأليفها، وها هي الآن تصدر بالعربية بعد خمس سنوات من الترجمة والتحرير، سفرًا نادرًا للباحثين والدارسين، وزينة لكتب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.




تحرّر دالمان في خطاب موسوعته من انحيازات المستشرقين الدينية والعرقية، واتّسم تسجيله بدقته البالغة، في توصيف القدس، ورسم جغرافيتها، وفي توثيقه حياة أهل فلسطين، إذ جمع حوالي 20 ألف صورة له ولغيره تناولت شتّى نواحي عاداتهم وتقاليدهم، فأرّخ للتراث الشعبي، ودرس اللغة واللهجات وتطورها عبر الزمن، وقام بالتحليل الثقافي والاجتماعي للقصائد والأغاني، ومن هنا تعد موسوعته مصدرًا أوّليًا للباحثين، إذ رسم فيها صورة لفلسطين بأشغال مزارعيها، وحصّاديها، ونسّاجيها، وخبّازيها، وبنّائيها.
لكن دالمان وفّر أيضًا وصفًا دقيقًا، ليس فقط لفلسطين، بل للأُردن وسورية ولبنان، في صورة معرفية تنمّ عن سلوكه الإنساني، وتحرّره من أية أنماط استشراقية كانت سائدة في عصره.
جاءت موسوعة دالمان وثيقة تاريخية وأنثروپولوجية تسجيلية وتحليلية تتناول فلسطين بحضارتها وتراثها وشعبها، إضافة إلى دراسة تفصيلية فريدة لمدينة القدس ومحيطها الطبيعي والسكّاني، بمنهجية علمية رفيعة. ففي هذه الموسوعة ذاكرة شاملة للمكان الفلسطيني، تاريخ المكان وآثار المكان وتاريخ السكّان ولغتهم وحكاياتهم وخرافاتهم وتقاليدهم وأغانيهم وأمثالهم وطعامهم ولباسهم وبيوتهم ومواسمهم وأعيادهم وألعابهم، مستخدمًا منهجًا عابرًا للمناهج، كالآثار والتاريخ، بما في ذلك التاريخ اللاهوتي والأنثروپولوجيا والطبوغرافيا، واللغة السريانية، وكذلك اللغة العبرية، مؤكدًا، في هذا السياق، أن لغة السيد المسيح كانت الآرامية، وليست العبرية. على هذا النحو تمكّن دالمان من إعادة بناء المشهد الطبيعي لفلسطين على ثوابت علمية وإفادات صحيحة وموثّقة.
نقلتْ الموسوعة من الألمانية إلى العربية مجموعة من المترجمين الذين اعتنوا بمراجعتها وتدقيقها، وهم محمد أبو زيد، وعمر الغول، وڤيوليت الراهب، ومتري الراهب، وجوزف حرب، فيما تولّى صقر أبو فخر عملية التحرير وضبط المصطلحات، وتدقيق أسماء الأماكن والمواقع واللهجات المحليّة، وأنجز قسم التحرير في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الفهارس العامة للأماكن والأعلام والجماعات.

بشارة: وثيقة علمية نادرة

الدكتور عزمي بشارة 


في تقديمه لموسوعة غوستاف دالمان، واستعادة التاريخ الحضري لفلسطين، ألحّ د. عزمي بشارة على أن دالمان وفد إلى فلسطين بدوافع بحثيّة ثيولوجية وفيولوجية، فدرس حاضرها بوصفه مفتاح فهم ماضيها، ولم يتجاهل أهلها، ولم يعدّهم ظاهرة عابرة يمكن القفز عنها إلى ماضٍ سحيق تكتب عنه النصوص الدينية، فأصبح أهل فلسطين شغل دالمان الشاغل.
ورأى الدكتور بشارة موسوعة دالمان "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين" وثيقة علمية نادرة في وصف جغرافية فلسطين وأهلها في بداية القرن العشرين، وأشار إلى أن دالمان، وعلى الرغم من إيمانه ودوافعه الدينية، فإن عمله الإثنوغرافي، البحثي والتوثيقي، عن المجتمع الفلسطيني في فلسطين المأهولة النابضة بالحياة قبل تعرضها لمشروع استعماري استيطاني كان النقيض للأعمال الاستكشافية لموفدين بريطانيين قدموا إليها ليخرجوا بتقارير عن جاهزيتها لاستقبال يهود أوروبا، وإقامة دولة يهودية فيها تكون بؤرة للنفود البريطاني، وأنّ من أبرز الأمثلة النقيضة التي تُظهر أهمية عمل دالمان دحض مقولات القسّ الاسكتلندي، الدكتور ألكسندر كيث، الذي أُوفد ليفحص حال اليهود في فلسطين (جنوب سورية في حينه)، وإمكانيّة توطين يهود أوروبا هناك. وقد كان من تيّار "المسيحيّين الترميميّين"، أو الإحيائيّين (مترجمةً بتصرف عن Christian Restorationists)، الذين اعتقدوا بإمكانية ترميم مملكة إسرائيل بعودة اليهود إلى فلسطين لأسباب دينيّة وسياسيّة. وكيث هذا هو من رفع في عام 1843 شعار "أرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرضٍ".





أمّا الأستاذ صقر أبو فخر، الباحث والمحرّر، الذي قام، في إطار عمله في فرع المركز العربي في بيروت، بمراجعة النصّ العربي للموسوعة علميًّا، وضبط اللغة وأسماء الأعلام والمواقع والأمثال الشعبية، فأشار في تقديمه لكتاب دالمان عن "القدس في محيطها الطبيعي"، الصادر عام 1930، إلى أنه ثمرة جهد استمرّ ثلاثين عامًا من البحث الدؤوب، وأنه وعلى الرغم من تحفظ ناشر الترجمة، أي المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عن بعض مصطلحات دالمان، فإنّ كتاباته، بشهادة مؤرخين وأركيولوجيين فلسطينيين، تقدم توثيقًا مهمًا لأحوال فلسطين، وتفصيلات العيش لدى عرب فلسطين في عصره، ومناسباتهم ومواسمهم وعاداتهم وتفاعلهم مع البيئة والطبيعة التي يوثقها استنادًا إلى الواقع القائم في عصره، وليس إلى اللاهوت والنصوص اللاهوتية. ولذا، أصبحت كتبه شهادة مهمة على عروبة فلسطين قبل تأسيس المشروع الصهيوني. وكتابه هذا عن القدس، مثل كتبه الأخرى، يزخر بالمعلومات المهمة جدًّا عن تلك المدينة، ويُعد وثيقة ممتازة عن أحوال القدس في تحولاتها العمرانية والسكانية، ويساهم في دحض الرواية الإسرائيلية عن تاريخ المدينة، وينقض الشطط الذي وقعت فيه كتابات كثيرة لمؤرخين وبحاثة وآثاريين معروفين؛ وهنا بالتحديد تكمن أهميته المميزة.
تجدر الإشارة إلى أنّ نادية عبد الهادي سختيان تعمل حاليًا على نقل موسوعة دالمان من الألمانية إلى الإنكليزية.
هنيئًا لفلسطين، ولقراء العربية في كل مكان، بصدور كتاب غوستاف دالمان بهذه الحُلّة الأنيقة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.