}
عروض

محمد الحجيري: أطلال المدينة وبقايا وشومها

صقر أبو فخر

23 سبتمبر 2024


صدرت حديثًا عن رياض الريس للكتب والنشر رواية للكاتب والناقد محمد الحجيري عنوانها "أطلال رأس بيروت" (بيروت: 2024، 157 صفحة). وقد أصاب الروائي في اختيار كلمة "أطلال" لوصف منطقة رأس بيروت، ولا سيما شارع الحمراء الذي دلف إليه في تسعينيات القرن المنصرم في عصر الرأسمالية العقارية اللبنانية الجديدة (عهد رفيق الحريري)، وفي زمن اندثرت فيه معالم التحضر والحداثة في تلك البقعة، فتحولت مقاهي المدينة إلى ما يشبه مصاطب القرية، وصارت علائم الثقافة التي ازدهرت في تلك الأمكنة تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ. والمؤكد أن المقهى ما عاد، كما كان في الأمس، مكانًا لصنع الثقافة والفن والجمال، بل ارتبط بعالم الإنترنت والكومبيوتر المحمول (لابتوب)، وصار مكانًا للعمل، وراح يقدم، إلى جانب القهوة، السندويشات، والحلويات، والعصائر، والمناقيش، وقطع البيتزا، وحتى النراجيل. وعلى هذا النحو اختلطت الحداثة بالرثاثة في مكان واحد. وهذه هي تحولات مدينة بيروت التي صارت مهجعًا كبيرًا للنوم والعمل والأكل والنفايات والسيارات، ولا تحتاج إلا القليل من الثقافة، والكثير من المتع السريعة. ومن علائم خواء المدينة، خصوصًا منطقة رأس بيروت، تحوّل المقاهي أمكنة لتزجية الوقت، فانصرف روّادها عن إنتاج الثقافة والفنون والنقد إلى البطالة الإبداعية والعطالة الفكرية. وبهذا الوصف صار المقهى مكانًا لطقطقة السُبّحات وكركرة النراجيل، وأمست روائح الشواء تسود شارع الحمراء بدلًا من روائح العطور الجذابة والخلابة (مطعم بربر وروائحه ونفاياته)؛ إنها مدينة بلا مراحيض. وبيروت هذه التي أطلقت موجة الحداثة الشعرية على أيدي خمسة شعراء سوريين مهاجرين (يوسف الخال، وأدونيس، ونذير العظمة، وفؤاد رفقة، ثم محمد الماغوط)، ها هي تشهد، منذ مطالع التسعينيات، جنازة الحداثة نفسها. ولعل اختيار الكاتب رأس بيروت في تلك الحقبة يشير إلى قطيعة مع بيروت وتاريخها الثري وتحولاتها العجيبة؛ فلا تظهر في سياق سيرة المدينة مقاه كان لها شأن كبير في بلورة الاتجاهات الثقافية الطليعية، وحتى السياسية، مثل الهورس شو، والإكسبريس، والستراند، والإلدوارد، والدولتشي فيتا، والكافيه دو باري، والنغرسكو، وبلازا، والأنكل سام، وفيصل، والديوك أوف ويلنغتون، وحتى السيتي كافيه، علاوة على قصر البيكاديلي (المسرح والسينما وفيروز)، وجريدتي "النهار" و"السفير"، والنادي الثقافي العربي، ومجلات "شعر"، و"حوار"، و"مواقف"، و"الآداب"، و"الطريق"، و"دراسات عربية"، و"طبيبك"؛ إنها الذاكرة المنقرضة.
لا ذاكرة للمدينة في هذه الرواية، بل ذاكرة الروائي فحسب. لكن المدن استمرار وتراكم وتفاعل، ومراحل جديدة لا تطويها المراحل اللاحقة، بل تبني فوقها. أما القطيعة، أو الانقطاع، فمصدر ذلك الحروب، أو الطواعين، حيث يهجر الناس أماكنهم ويموتون، وقليل منهم يبقى أو يعود، فيأتي آخرون بلا ذاكرة، ويبدأون من جديد. والرواية، في نهاية المطاف، ابنة المدينة، مع أن عصر العولمة أزال الفوارق بين المدائن والأرياف، ومحا المسافات الفاصلة بينهما. ثم إن الرواية، في الأساس، ذات بنية شبكية ترصد الحياة الفردية والجماعية وصيرورتيهما، وترصد مصائر الناس وخيباتهم وآمالهم المجهضة. إنها تراجيديا الوجود وعبث الأقدار، وهو ما لا يمكن اكتشافه في حياة القرى البسيطة التي تدور الحياة فيها كالمواسم الزراعية؛ كل سنة مثل التي قبلها. الرواية، إذًا، مثل المدينة، عالم معقّد ينحو في تفصيلاته نحو الدراما، أو ينثني إلى عوالم ملحمية، حيث الأشخاص يواجهون أقدارهم وهم منغمرون بأرواحهم المعطوبة، وبالرجاء الخائب والآمال الميؤوس منها، وأستثني من ذلك الروايات التاريخية والبوليسية، وروايات البوح الحكائي، والبيت السعيد، وقصص ما قبل النوم، ولا أستثني الروايات المبنية على السيرة الذاتية أيضًا.

الوجوم وموت المهمشين
تدور وقائع الرواية وتفصيلاتها في شارع الحمراء ومتفرعاته، وتستعيد من أرصفته جانبًا من حياة المهمشين، أمثال علي العبد الله، الذي مات في الصقيع. وتقترض من زواريبه ملامح التناقض بين المدينة والريف، وكيف يكافح أبناء الأرياف في سبيل العيش والترقي الاجتماعي والشهرة، ويغرقون في ثلاثية الخبز والحشيش والجنس، على غرار القصيدة المشهورة لنزار قباني "خبز وحشيش وقمر"، التي نشرها في العدد الثالث من مجلة "الآداب" البيروتية في 1/ 3/ 1955.




لا تحفل الرواية بالغوص في دهاليز النفس البشرية واستخلاص خفاياها حتى الشائنة، ولا تميل إلى التأمل في لواعجها، وفي ما هو غائر في النفوس المختبئة خلف غلالاتها، ولا بالنبش في أعماق الفرد المهمّش وانكساراته وتقلباته وجروحه وتناقضاته. فشخصيات الرواية عاديون تمامًا يتدثرون بحياة شاقة: يتألمون، يكرهون، يفرحون، يهاجرون، يموتون، تحبل نساؤهم ويأتون إلى هذا العالم بأطفال يعيدون سيرة الكائن البشري. والوجوم في هذه الرواية أليف وطبيعي، فيما اللذائذ الفائرة قليلة، بل نادرة كأن لا هامش لهذه المدينة، بل مهمشون فحسب.
في سبعينيات القرن المنصرم، كان هامش المدينة يتسع لظواهر ثقافية هذيانية وانفصامية وجميلة، مثل عادل فاخوري وقصائده البصرية والإلكترونية المنظومة، وأمثال الشاعر عبد الأمير عبد الله، صاحب القهقهات الفريدة، وصفوان حيدر، وقبلهما هاني الزعبي، ومحمد كبة (من فلسطين)، وحيدر صالح، وغيلان، وآدم حاتم، وأبو روزا وولف (من العراق)، تمامًا كما اتسع عقد الستينيات للبوهيميين العراقيين، أمثال يونس البحري، وأحمد الصافي النجفي، وللشاعر اللبناني محمد كامل شعيب، العاملي الذي نظم 179 بيتًا في مديح الباذنجان، ثم قتل زوجته في نوبة جنون (وهي شقيقة حبيب صادق، وخالة محسن إبراهيم). ولكن محمد الحجيري اختار بيروت التسعينيات كما عرفها. وكانت بيروت خلت، بين 1982 و1992، من الكُتّاب والمفكرين والمثقفين العرب، ولم تُنتج المدينة خلال تلك الحقبة أي أعمال ذات شأن إلا في ما ندر. ومنذ عام 1992 فصاعدًا، حين دلف إليها الراوي، كانت عوامل الإبداع الثقافي قد راحت تتململ في بيروت مع عودة بعض المثقفين العرب إليها، وانجذابهم إلى المنابر الصحافية "الحرة" التي كانت توفرها لهم جرائد "السفير" و"النهار" و"الحياة"، ثم "المستقبل" لاحقًا. واللافت هو غياب الفكاهة في رواية محمد الحجيري، مع أن الفكاهة كانت تُصنع يوميًا في رأس بيروت على أيدي كثيرين، أمثال محمد عيتاني، وزهير السعداوي (مؤسس جمعية الندامى) ومنح الصلح، وسعيد فريحة، وإبراهيم سلامة، وهو أظرف صحافي عرفته الصحافة اللبنانية في عصرها الذهبي.

خارج المدينة وداخلها معًا
يمكن إيجاز الرواية بأنها قصة سمير عواد، وسارة عواد، وملحم الحسواني، وصالح عبس. إنها حكاية حب وزواج وطلاق وإجهاض. سمير عوّاد المتسكع والبوهيمي وجامع الكتب الذي هجر قريته وقطع صلته بعائلته، وراح يفتش عن عالم جديد تصنعه حرائق الشبان اللاهثين وراء النساء ولقمة العيش والمجد الأدبي. أحب سمير عواد سارة عواد، لكنه تزوج هالة العاصي في نهاية المطاف، وتزوجت سارة بدورها ملحم الحسواني، الذي قُتل بعدما تحوّل إلى الدين والجهاد في سبيل الله، ثم تزوجت صالح عبس الذي كرهته حتى العمق. إنها قصة حب تحدث في كل يوم في زوايا المدينة: اثنان يلتقيان ويكرران اللقاءات. تبوح له بأوجاعها ويبوح لها بأشجانه. يُحبها، لكنها تحب غيره. تريده صديقًا تتكئ عليه، ويريدها عشيقة تهصرها يداه في الليل. يفترقان، فيجن جنونه، ويروح يترصدها هنا وهناك. تعذبه هذه الحال، وفي نهاية الأمر يهجع ويستكين ويقرر الزواج.
هذه الحكاية، ببساطة، ليست سيرة مدينة، وليست سيرة شخص في شوارع المدينة، إنما هي شوط من أشواط العمر في المدينة. لكن المدينة هنا لا تحضر بمحمولاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتجارية، بل تحضر كأماكن خلفية مبعثرة، أو كميدان جغرافي تفرضه واقعية الرواية. والواقعية هنا تتجسد في أمكنة محددة، مثل مطعم عيسى للفول والحمص في منطقة جامعة بيروت العربية، ومطعم أبو حسن في محلة كراكاس، وحانة "شيه أندريه" في الحمراء، ومقهى المودكا، وفي أماكن قليلة أخرى تنتشر بين المقهى والحانة والبيت. ومن مظاهر الاتكاء على الواقعية في هذه الرواية الإفصاح عن الأسماء الصريحة لوضاح شرارة، وبسام حجار، وإلياس خوري، وعصام محفوظ، وعلي حرب، ونزيه خاطر، ومحمد العبد الله، وعباس بيضون. ومع ذلك، بل خلافًا لذلك، ينعطف الراوي إلى الكلام، بالأسماء الناقصة والموحية، على الرسام شمس (أَيكون هو نفسه محمد شمس الدين؟)، وعادل (عادل فاخوري)، وموسى (موسى وهبة)، وكذلك داود الأبيض (أَليسَ هو بول شاوول؟)، وبائع الجرائد نديم (نعيم)، علاوة على زينات بكار، وإيفانا شهابيان، اللتين توحيان بأنهما زينات بيطار، وإيفانا مرشليان.
لغة الرواية غير مليئة بالزخارف، أي أنها ليست مرصّعة، بل واقعية جدًا، فلا توريق، أو تزويق، وهذا أمر جيد. والرواية تتضمن جماليات سردية، لكنها قليلة الغوص في قيعان النفوس البشرية. ولعل محمد الحجيري تقصد إبقاء بعض شخصيات الرواية باهتة وبلا أبعاد (سهى جبران، ورنيم عباس، مثلًا)، فيما أخبرنا بما حلّ بهاروت الأرمني، وأيمن الصوّانة (أَيكون أيمن الأمين من قرية الصوانة؟)، لكنه لم يخبرنا بما حلّ بمهران السيد، وابن سارة عوّاد، والشاعرة براءة الكاشف، التي وصفها بـِ"الداعرة" الآتية من حلب. وفي أي حال، فهذه الرواية الجميلة تمزج الواقعية بقليل من التخيّل. ولا أجازف في الاستنتاج إذا قلت إن الرواية التي تخلط الواقع بالتخيّل تصبح مثل العسل الذي تناولت نحلاته سُكّرًا؛ أي أنه عسل بلا شك، وهو طيب الطعم، ومفيد إلى حد بعيد، لكنه ليس عسلًا صافيًا مثل أعسال السدر في اليمن، بل مثل الأعسال الفينيقية في لبنان. ومهما يكن الأمر، فهذه الرواية هي من النصوص الروائية القليلة التي أرادت صوغ جانب من الحياة اليومية لشبان هبطوا المدينة من أريافهم، ورغبوا في أن يجعلوا من حياتهم فيها ذات معنى، ومارسوا التمرد والتشرد واقتحام الأسوار العصية، وانتهاك البنية العازلة للمدينة. لكن هؤلاء ظلوا خارج أسوار المدينة، ولم يصبحوا جزءًا من نسيجها البشري، أو من روابطها الوشائجية. ولعل هذه الرواية الدافئة تستكشف تجربة محددة هي تجربة الكاتب محمد الحجيري بين أطلال بيروت في زمن الخواء الإبداعي والقحط المعرفي. وفضيلتها أنها رواية حقيقية في عصر روايات السوشيال ميديا، و "روايات" المقاهي والحانات والسرفيسات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.