}
عروض

"غزة تروي إبادتها": السير فوق الجثث... السير فوق التاريخ

دارين حوماني

3 سبتمبر 2024


الكتابة عن الموت قاسية، موتٌ ليس متعارفًا عليه في تراجيديات الجحيم الأرضي، هو موتٌ جماعي وفردي وبمقاسات متعدّدة وثّقه كتاب "غزة تروي إبادتها- قصص وشهادات" (312 صفحة) الذي بجهد بالغ من مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت وبدعم من حكومة دولة قطر، صدر في العشرين من شهر آب/ أغسطس 2024، حاولت فيه المؤسسة تقديم شهادات حيّة متواصلة من كائنات تؤجّل حياتها لما بعد الحرب، عن موت عايشوه، تنفّسوه وناموا معه، هي مشاهد مأخوذة من يوم قيامة كتب عنه المؤرخون القدامى والأساطير الدينية وروايات الأدب الديستوبي، وحيث كاميرا تغضّ البصر عن جثث وأشلاء يتعثّرون بها، الكاميرا هي عيون الرواة، لكن القلوب شاخصة على ألم يتعثّر أيضًا بين قطعة جسد وأخرى، على تلك الذكريات التي تُميت وتقطع خيط الرغبة بالاتصال مع الحياة، ذكريات ويوميات محمولة على الأكتاف هندسها لابشريون متوحّشون بلطخات من الأحمر حاولوا بتر أطرافها كما بتروا أقدام وأحلام أطفال غزة، فثمة حكايات لم تُقل، كما يقول مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية في فلسطين مجدي المالكي في ديباجة الكتاب "جزء من هذه القصص دُفن مع أصحابها".

وتبدو هذه النصوص/ الشهادات مثل رسائل مهرّبة من حقول القتل المفتوحة التي لا تزال تحيط بالرواة أنفسهم من آخر معسكر اعتقال مغلق على الأرض، كما يعبّر الشاعر غسان زقطان في مقدّمته للكتاب، ويضيف أنها "تبدو متعلّقة بما لم يُقل بعد... في الحكايات التي واصلت حدوثها دون توثيق، من الرغبة في قول كل شيء قبل فوات الأوان"، والأوان هو الموت هنا، ذلك الذي يلاحق أهل غزة بالتتابع. أما أكرم مسلّم الذي عمل على تحرير الكتاب مع عبد الرحمن أبو شمالة، فيستذكر طفلة عمرها أربعة أعوام وقد بُترت قدمها، يقول إنها لما "صحصحت" من تأثير البنج ورأت فراغ قدمها المبتورة، لم تسأل عنها، إنما سألت "هل تقبل بي الروضة هكذا بلا قدم يا أبي؟"، يكتب مسلّم "ستعرف الطفلة أن البتر ليس استثناء في عالم الأطفال الجديد الذي أنتجته قنابل الحداثة في غزة. فالبتر أشكال وأنواع ومستويات"، فإضافة إلى ندوب البتر الجسدية هناك ندوب البتر النفسية، وهناك "الخسارات التي لا يلتقطها موظف الإحصاء".

ينقسم الكتاب إلى قسمين، شهادات ونصوص كتبها شعراء وكتّاب وصحافيون، وشهادات حيّة من الشارع الغزّاوي استنادّا إلى مقابلات ميدانية أنجزها الباحثان الغزّاويان فاطمة بشير وأشرف أبو شرخ. وتكمن فرادة هذا الكتاب في سحب الجثث والأشلاء من على الطرقات إلى الورق، لتقول ما لم يقل بعد على مرّ التاريخ الإنساني؛ على أن أهمية نقلها إلى المرئي فيلميًا يعدّ خطوة تأريخية بصرية أكثر من ضرورية، لقوّة شحنات الألم فيها، وذلك بالتوازي مع أهمية نقل الكتاب إلى لغات العالم، لقوة ما تبثّه في المتلقي من تحريك للضمير الإنساني يعترف لغزّة بفرادة وجعها عن مدن الأرض جميعًا، وفرادة أهلها في الصبر والقهر بين أهل الأرض جميعًا، علّ الشعوب الغربية تتوقف عن تقديس السرديّات الهولوكوستية، وآخرها يوميات الفتاة الألمانية اليهودية آنا فرانك والتي استعادتها الصحافة الغربية في شهر آب/ أغسطس الفائت، وكل عام، كأشهر يوميات عن معسكر اعتقال أوشفيتز  كُتبت في أثناء الحرب العالمية الثانية قاطبة.

بسبب اكتظاظ مستشفى الشفاء وجدوا أنفسهم ينامون في قسم ثلاجات الموتى (موقع منظمة الصحة العالمية)


ما جدوى أن أقول شعرًا وأنا تحت الموت!

تستعيد الكاتبة دنيا الأمل إسماعيل ضخامة الموت والخسائر، والأيدي التي لا تزال ترتجف إلى الآن، وتطاير أشلاء الشهداء في المكان الذي كانت فيه: "جمعوها من سطح المنزل وممرّاته الخارجية الرفيعة، ومن تحت الأشجار الصغيرة البائسة في أكياس بلاستيكية سوداء كي لا يراها الصغار والنساء"، وفتاة بعينين زرقاوين "لن تكون بعد اليوم سوى خبر عابر في نشرة أخبار عابرة أمام أناس عابرين يذرفون دمعتين ويتحسّبون ثلاث مرات لا أكثر على العالم الظالم، ثم يمضون يومهم بلا اكتراث". أما هبة الأغا، الحكواتية والمدرّبة في مجال أدب الأطفال، فتحكي عن غزة مدينة الأيتام، مدينة الأرامل، مدينة الأشباح، ملجأ القطط والكلاب الخائفة، والسكان الذين يحملون رؤوسهم المقطوعة ويمشون، والطرق التي لا تصلح إلا لعربات الكارّو والمقابر الجماعية؛ وتكتب عن مراسلاتها للأطفال الذين كانت تدرّبهم، تقول "ظَلَّ الصغار يراسلونني بنصوصهم وأوجاعهم، وكيف مشت إحداهن على الركام فوجدت تحته مقبرة، وكيف نزح أحدهم عشر مرات، وكيف فجّروا بيت إحداهن واعتقلوا أباها، وأخرى قتلوا أباها، وكيف نام البيت على جسد إحداهن إلى الأبد، كانوا كثرًا وآلامهم أكثر. وكنتُ لا أزال أمًا بعيدة"، وتخبر أمها "لقد نجونا من الموت يا أمي، لكننا لم ننجُ من الحزن".

أسئلة الصغار وأفكارهم التي تكبرهم نقرأها أيضًا في نص الروائي يسري الغول، مستعيدًا حديثًا له مع صديقه عصام الذي قال له إن ابنه عبد الرحمن قبل استشهاده بـ"حديقة من الصواريخ"، سأله: "أبي، هل سنحتمل الرمل حين يدفننا الناس... وكيف سنصعد إلى الجنة وقد حاصرنا التراب والحجارة؟"، فيتذكر الكاتب ابنه أسامة وهو يسأله: "حين تقصفنا الطائرات يا أبي، هل سنلتقي مجدّدًا بعد الموت؟". وتحكي الشاعرة بتول أبو عقلين عن شارع ملعب فلسطين الذي لا ملعب فيه، والسوق الذي أصبح سوق رمال، وعن انتظارها الموت وإحساسها بقدومها "تمر سيارات الإسعاف حاملة مزيدًا من الشهداء والجرحى، كم أرغب أن أوقفها وأتوسلها أن تنتظر قليلًا لأني أشعر أن موتي سيكون في هذا الشارع". وتحت عنوان "الشعر يُطعم خبزًا و‘مناقيش‘ أيضًا" يكتب الشاعر جواد العقّاد عن مسودّاته الشعرية التي رآها تحترق في الفرن، تساهم في صنع الخبز والمناقيش، يقول العقّاد: "هذه الأوراق التي تشتعل هي جزء من العملية الشعرية... قد تكون هذه مقاربة عبثية، لكنها تأتي في مضمار بحث الشاعر عن جدوى الشعر!... فما جدوى أن أقول شعرًا وأنا تحت الموت!".

نص مؤثر آخر للكاتبة سما شتات التي استبدلت الكتابة بطشت الغسيل اليومي "حيث يتيح لك الغسيل ميزات متعددة... أدعك وأفرك القطعة جيدًا، أتأكد من عدم وجود أي بؤس على الأكمام... عملية الغسيل تمنحني شبيه ما منحتني إياه الكتابة"، ثم تحكي عن مدوّنتها التي يتابعها خمسة عشر قارئًا، وعن هذه الإبادة التي تمنحها فرصة جيدة وكبيرة للموت لكن أمها تسحبها من يدها كلما اقترب الموت وتذهب بها من شمال غزة لوسطها لجنوبها ثم لوسطها ثم "للجنوب الأكثر شمالًا". فيما تعلق ذاكرة الكاتبة إيفا أبو مريم بين ردم منزل أهلها الذي استلزم عرق آباء في بنائه على مرّ سنين، فيما استلزم خمس ثوانٍ ليُسوّى بالأرض تمامًا، آخذًا معه كل الذكريات، ما يدفع المرء للجنون، "ليس ما أخشاه هو ألّا أجد إيفا التي رزحت طويلًا تحت الحمل الثقيل حتى اختفت، ما أخشاه هو سؤال في ذهني: إن وجدتُها، هل سأكون قادرة على تمييزها، أم لا؟".

حكاية الكاتبة نهال الصفطاوي وهي الأم لطفلين، تبدأ من سفرها وحدها إلى رام الله قبل يومين من الحرب، بعد حصولها على تصريح من خلال عملها كمنسّقة في المشاريع التربوية بغزة: "لم أبلّغ إلا دائرتي المقرّبة، لأنني أحترم تلهّف كل الأهل بغزة والحرمان المتراكم لديهم من عدم تمكّنهم من السفر خارج هذا السجن". وفي رام الله علقت، وسمعت عن هدم منزلها الجديد الذي لا تزال وزوجها يدفعان أقساط أثاثه. تحكي عن معاناتها لأربعين يومًا، وهي عالقة لا يمكنها العودة: "هنا بلا أطفالي، عارية من دونهم، تنقصني يد وقدم وظهر وفرح"، إلى أن حصلت على موافقة للعودة. لكن رحلة العودة كانت سيرة موجعة قد لا تسقط في خانة اليوميات المنسية قبل وقت طويل، رحلة عبور وسط الجحيم، بعد تحقيق متكرر وانتظار وسرقة كل الممتلكات الشخصية، وتكبيل يدين وقدمين وتعصيب للعينين، والزجّ بهم في الباص بعنف، مقيّدين ومعصوبي العينين لثماني ساعات طوال رحلة الطريق إلى غزة، وعند الوصول، وبلا أي غرض شخصي معها سارت 6 كيلومترات حتى وصلت إلى زوجها وطفليها.

وفيما نهال الصفطاوي تريد العودة إلى غزة للقاء طفليها، رغم الجحيم، كانت الكاتبة هيا أبو نصر خائفة على فقدان المنحة الدراسية إلى ماليزيا وقد علقت قدماها في آخر يوم لها في حديقة منزلها في وداع لم تعتقد أنه سيكون الأخير. تتحدث أبو نصر عن ارتحال العائلة من مكان لآخر: "هناك تعلمت كيف يصير المرء جثة، فيتخلى عن وجوده"، وعن الإذلال من الانتظار في طوابير الحمام في المخيّمات، والإنهاك للوصول إلى المياه والمعلّبات والطحين، وإخلاء المخيّم تحت وابل من القذائف الإسرائيلية، وعن تجار الحروب والدم الذين كانوا يطلبون بما بين 8000 و15000 دولار لتهريب البشر عبر معبر رفح. وقصة خروجها لمصر تبدأ من عملية نصب تعرّضت لها عبر أحد الأشخاص الذي طلب عربونًا 1000 دولار فأخذهم واختفى، ثم حدوث عملية تنظيم الخروج عبر المعبر بـ5000 دولار من قبل شركات نظامية، فخرجت عبر تصريح المنحة الدراسية بعد أن دفعت المبلغ مضافًا إليه 2000 دولار لسيدة مصرية ساعدت بعملية إخراجها من غزة. وعند معبر رفح ودّعت أمها وأباها وكانت لا تزال في حالة من الإنكار "أن هذا الألم سينتهي، وأنني سأحلم بالغد من جديد".

يحكي موسى قنديل عن تقنيات تعذيب الأسرى


لماذا نحن من دون كل العالم موتنا سهل ومتقبّل؟

وتذكر الصحافية هدى بارود كيف حمل الحزن جدّها من قرية بيت دراس في أيار/ مايو 1948 نحو غزة، والحزن نفسه جعل والدها ينضم لصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد قتل الصهاينة أخيه وحرق جثته: "يبدو أننا كفلسطينيين نتوارث الحزن كما نتوارث اللجوء... خيّل إليّ مرة أن غزة تنجبنا بلا أب، فنأتي إلى الحياة نشبهها وحدها فقط، نسخًا مصغّرة عن مأساتها، وهي مأساة يمكنك تفكيكها وحشرها بنص أدبي". تستعيد بارود أحداث اليوم الأول من الحرب، وتعدّد من فقدتهم، أطفال أختها الأربعة، صديقاتها، خالها، 120 زميلًا صحافيًا، ومنزلها، وهي تشعر كم أنه مع كل موت أحدهم تشعر كم أن خساراتها أصبحت كثيرة، وتسأل "لماذا نعيش ونموت بأمر الاحتلال؟ لماذا نحن من دون كل العالم موتنا سهل ومتقبّل؟ كيف نسمح لأحد أن يقتلنا بالتقسيط 76 عامًا حتى اليوم؟!".

وتروي الكاتبة مجد ستوم متاهة النزوح ونوم أخيها في كفن والاستحمام في مغسلة الموتى. فبعد إصرار الأب على البقاء في المنزل، وجدت العائلة نفسها مضطرة للنزوح والبقاء في مستشفى الشفاء، وبسبب اكتظاظ المستشفى وجدوا أنفسهم ينامون في قسم ثلاجات الموتى، وحيث نام أبوها على باب خشبي متروك تفوح منه رائحة الدم، وعند الصباح كانوا مضطرين ليفسحوا مجالًا لجثث وقطع أشلاء الشهداء. وتستعيد ستوم مشهديات قصف الدبابات الإسرائيلية المستشفى. وفي اليوم التالي خرجوا، وخلال سيرهم إلى مكان آمن، ساروا فوق الجثث؛ "رأيت جثثًا تملأ الأرض، لفتت نظري جثة امرأة مع طفل ميت... كان أصعب موقف أمرّ به في حياتي، دعوتُ الله ألا أموت في الطريق. إن متّ لا أحد سيدفنني وسأبقى في الطريق تنهش الكلاب جثتي". ثم تحكي عن تجربة اللجوء في مدرسة "صبرا" التي تعرّضت للقصف أيضًا خلال تواجدهم فيها، ثم رحيلهم عنها تحت تهديد الدبابات.

"كان أمامنا البحر، ومن خلفنا خذلان هذا العالم اللعين الذي طوّقنا في سجن مفتوح ونفى أدميّتنا"- تقول مادلين الحلبي، وهي الباحثة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، حيث تمكنت من الحصول على تصريح يخوّلها مغادرة غزة إلى الضفة الغربية، وعند خروجها من حاجز "إيرز" تقول: "نظرتُ نحو غزة المكوّمة أمامي كقطعة واحدة، وبتّ أدرك ما معنى غزة وما المعنى الحقيقي للحصار والإغلاق". وتحكي عن إصرار أبيها على البقاء في منزلهم رغم القصف إلى أن اضطروا للنزوح إلى خيمة، وعند العودة إليه وجدوه مقصوفًا وغير صالح للسكن، بل وسرقه جنود الاحتلال الذين اتخذوه ثكنة عسكرية.

وتعدّد الصحافية فاطمة بشير أشكال الحصار الذي كانوا يعانونه قبل الحرب، من الكهرباء التي تأتي 8 ساعات في اليوم، والمياه الملوثة والشحيحة التي تصل لغزة، واستيلاء اليهود على بحر غزة، ومنعهم الصيادين من التقدم في البحر للصيد، وتسكير المعابر. ثم تكفر بمبادئ مساواة المرأة بالرجل: "مَن مِن نساء غزة تحتمل أن تحمل كيس حطب يصل وزنه إلى أكثر من 20 كغم على ظهرها وتمشي مسافات بعيدة؟"... وتسأل "هل سأدرك مع الوقت أنني كنت في حالة من حالات الثمن الذي دفعه الشعب، وكبش فدا لصراع بين الحرب والسياسة والجوع والبرد والحياة والموت؟". وتعدّد بشير خساراتها، أصدقاءها، مبنى الجامعة، مكتب العمل... كما تعدّد أحلام أصدقائها الشهداء الذين وضعت الحرب أحلامهم في كفن، وتقول: "إذا كنت تقرأ قصتي هذه ووصلت بين يديك، فلا تجهد عقلك بسؤالك المعتاد: كيف للمرء أن يمضي في الخوف تسعة أشهر يعدّها ساعة بعد ساعة".

ويتساءل عازف العود محمد الهباش إذا كان وقت الحرب المأساوية هو الوقت الملائم لمبادرة نشاط موسيقي للأطفال، وهو يدرك أن ما يحمله "ليس مجرّد آلة موسيقية، بل جسر يعبر عليه الأطفال نحو عالم من الأمل".

وتكتب الشاعرة أحلام بشارات نصًّا متجذّرًا في الألم يتفقّد ضحاياه الذين ماتوا والذين كانوا أحياء ولم يحيوا، ومما تقول فيه: "لا أريد أن أفسّر هذا الترابط بالقتل، مع كل تلك العلامات التي تجمعنا كموتى، كما لو أن قاتلًا كان يتعقّب الفلسطينيين منذ ستة وسبعين عامًا، وها هو في كل مرّة يحصل على عدد جديد من الضحايا"، وتحكي عن عشقها لغزة: "أتذكر غزة كما لو أنني أتذكر أحدًا أحببته في الماضي... أحب غزة. أنا عطشى لصباح وحيد أطل من نافذته على البحر. في يوم لا يعرف عنه أحد، لم يقتله الجنود فلا يصلح لنشرات الأخبار، ولا لتلقّي التعازي... امرأة تحلم بالعيش في مدينة ميتة على الشاشات، أمام العالم كله، لم يبق فيها حجر على حجر". وفي سردية تحمل جرعة واسعة من الحزن، تكتب: "ألتقي بحمار يحمل أثقالًا. أسأله: - ما هي حمولتك/ يرد: أحياء لم يحييوا. لا تصبح المدينة جميلة عندما تموت، تصبح المدينة جميلة عندما تحزن فقط...".

وإلى نص نثري شعري آخر بابه مفتوح على حزن تاريخي، يكتب الشاعر حيدر الغزالي "سيأتي موظف الإحصاء يكشف عن الشوارع والبيوت/ وبقلم جافّ يسجّل خسائرنا/ ويرحل/ دون أن يرى قلبي.../ أقف في طابور وكالة الغوث لتحديث بيانات العائلة... حديقة المدينة مقبرة/ أخيرًا جاء دوري، تلحظ الموظفة جبيني يتصبّب عرقًا: -منذ متى تقف هنا؟/ - من عام 1948". والغزالي حين يكتب نصّه كأنه يكتب تاريخًا وخسارات ببضع كلمات، إذ يقول: "بيتي عالم من تسعين مترًا، مسقوف بألواح الزينكو. تعلمت معه المشي نحو عالم يبتر أقدام الصغار، وتعلمت فيه الكتابة عن عالم يقتل الحقيقة... أنا هنا وحديث في البيت، جسدي رهن شظية صغيرة".

تحكي منى الغرباوي عن رحلة النزوح "كأنه يوم القيامة" (Getty)

    
الإعدام ميدانيًا

أما سرديات الكاتب محمد الفارّ فهي سرديات موجعة عن ارتحال أبناء غزة وما مرّوا به خلال ارتحالهم من مكان لآخر؛ عن رحلة أنيس وعائلته الذين ساروا فوق الجثث في طريق النزوح، وبين مصابين يصرخون للإسعاف دون أن يتمكن أحد من إنقاذهم بسبب قصف الطيران الحربي المتواصل؛ وعن حسن الناجي الوحيد من أسرته، الذي كان يقف بعيدًا عن البيت حين قصفه وعاد لانتشال 32 من عائلته وأهله، بمن فيهم زوجته وأبناؤه الأربعة؛ وعن الدكتور كمال الذي كان يشتري من السوق أغراضًا لعائلته ولما عاد كانوا قد قضوا جميعهم؛ وبسمة ابنة أنيس التي لم تجد سريرًا في المستشفى الأندونيسي وماتت على الأرض، ولم يستطع والدها دفنها في مقبرة، فدُفنت في باحة المستشفى. ويحكي الفارّ عن اقتحام الجنود الإسرائيليين المستشفى وإطلاقهم النار بشكل عشوائي، وبعد أن نادت الطائرات المسيرة على الناس للخروج، أُطلق النار على من تجرأ بالخروج، فسقط عدد منهم ثم جاءت الجرافات لتعيث في أرض المستشفى واقتلعت الأشجار وجرفت الأرض والمقبرة التي كان الناس قد دفنوا شهداءهم فيها داخل سور المستشفى. حكاية الإعدام ميدانيًا يخبرها الفارّ بعد إجبار الناس على الخروج من المستشفى وفصل الرجال عن النساء، وحيث قُتل العديد من الرجال والنساء، "وما حدث في المستشفى الأندونيسي سيتكرر في مستشفى كمال عدوان، وفي مستشفى اليمن السعيد، ومستشفى القدس، ومستشفى العودة، ومستشفى دار الشفاء، وفي المستشفى المعمداني". كما يحكي الفارّ قصة حسن ومرام، منذ أن كان يحبها، ثم خطبتها، ثم محاولة إخراجها من غزة، حيث كان مقيمًا في بلجيكا. مرام التي بقيت عالقة لساعات تحت ردم منزلهم عند قصفه، وبعد انتقالهم إلى مخيم جباليا، سيداهم جنود الاحتلال البيت المتواجدين فيه هي وعائلتها، ليسرد الفارّ هنا قصة أقل ما يمكن وصفها بأنها قصة قاتلة في الصميم، عن الجنود المتوتّرين الذين كانوا يطلقون النار يمينًا ويسارًا، ليُصاب اثنان من الموجودين في البيت، ولما تصرخ أم مرام قائلة بأنهم نساء وأطفال وعجّز، يرفع قائد الفرقة يده للجنود بالتوقف عن إطلاق النار، لكن رعب الجنود من المقاومة جعلهم يطلقون طلقات هستيرية صوب الخارج فيما انبطح ثلاثة آخرون عندما حطّ عصفور على الشباك، فابتسم منير، عم مرام، لمنظر الجنود المرعوبين من عصفور، عندها أمره الضابط أن يتقدّم خطوتين وأطلق عليه النار مباشرة في رأسه أمام النساء والأطفال ليُجبَر أفراد العائلة بعد ذلك على الخروج بدون أن يتمكنوا من دفنه.



مقابلات ميدانية 

"مشينا على لحم أولادنا وولاد بلدنا"

في المقابلات سنقرأ عن خسارات منى الغرباوي الكثيرة، "جدران البيت انهدّت علينا"، تجربة النزوح لمستشفى الشفاء مع 50 ألف آخرين ينامون فيها، قامت وابنتها بتوليد امرأة حامل وهما ليستا طبيبتين نسائيتين، ولم يجدوا ما يلفوا به المولود الجديد. تم اجتياح الشفاء، وعاشت تجربة الخروج من مستشفى الشفاء في "مشهد قيامي" مع أولادها وأحدهم مُقعد، ومن يتلفّت يتم تقنيصه فورًا، "مجرد ما يتم تجهيز الكلاشين كنا نموت من الخوف". وفي الشجاعية، تم تدمير المنزل فوق رؤوسهم، وكانت مع عشرين شخصًا فيه، خرجت تمشي فوق جثث الشهداء هي وابنتها، "كانت الحيوانات تأكل بأجسادهم، صرنا نخبّي عيون الأطفال، لا تشوفوا امشوا... لحدّ الآن منظر الست المتوفية بالأرض والكلب للي بينهش في جسد الشاب ما بيروح من مخيلتي". ثم إقامتهم في فندق مارينا، إلى أن طلب منه الجنود الخروج منه، "الرجال راحوا وما رجعوا... وحطونا كلنا بالحفرة"، ثم فجروا المبنى أمامنا، وفي رحلة النزوح الأخرى من منطقة الشفاء إلى منطقة أنصار "كأنه يوم القيامة، الشفاء محروقة والمباني مدمرة" ثم تضيف: "أجساد الناس الممزقة تمشي عليها أقدام أحبتهم وجيرانهم... جثث معجونة بالأرض... كانت الدبابات تمشي فوق الجثث... مشينا على لحم أولادنا وولاد بلدنا. غمضت عيون أولادي... بلادنا ترابها مسقي بالدم" حتى صارت أقصى أمنيات أهل غزة "جثة كاملة وقبر معروف المعالم".

ويحكي موسى قنديل كيف أحاط الجنود الإسرائيليون بمنزله وكان فيه 28 شخصًا، وكيف اعتقلوه وهو يفكر بزوجته وأطفاله، ويحكي عن تقنيات التعذيب: "ما أسمعه عن غوانتنامو هادا كان رفاهية"، تقييد الرجلين واليدين وتعصيب العينين لـ24 ساعة كاملة، والحرمان من استخدام المرحاض لأيام، واستخدام الكلاب المتوحشة، وسكب المياه الساخنة على الأسرى، وتكسير الأيدي والأرجل بالمطرقة. وعند الإفراج عنه بعد أكثر من شهرين على الاعتقال، عاد إلى بيته ليجد شنطة ابنته أروكيد: "الشنطة هاي كانت دائمًا معها في كل مكان، كنت متأكد لو اليهود طلعوهم من البيت راح تكون معاها، فعرفت أنهم جميعًا لا يزالون تحت الردم، وبدأنا بإخراج الجثث"، وأخذ قنديل يعدّ إخوته الشهداء وأبناءهم الذين تم انتشالهم، "جميع الشهداء للي كانوا بالقبو طلعوا بدون راس. كنت أجمع عظامهم وشعرهم وأحطّهم بكيس الموتى"، ثم يحكي كيف بدأ ينتشل أطفاله من تحت الردم تباعًا، "أول واحد يامن كان لابس آخر أواعي أحضرتلو إياها. بعدها بيوم طلعنا أروكيد... وبعدين كرمل وكانوا كلهم حوالي أمهم"... ثم يقول "فش إشي بيربطني بغزة هللأ، والمشكلة إنو كل حاجة بتفكرني فيهم، قاعد عل البحر بحاول أنسى، بس حتى مية البحر بتذكرني إني كنت آخذهم عل البحر".

يقول التاجر أبو محمد عن مجزرة الطحين: الشاحنات التي من المفترض أن تنقل طحينًا وخضارًا بدأت تنقل الجثث والمصابين (رويترز)


مجزرة الطحين

وحالة موسى قنديل هي حالة لينا قفّة التي خرجت من المنزل وبلحظة خروجها تم قصفه على رؤوس أطفالها الثلاثة وزوجها. ولينا قفّة بقيت على قيد الحياة لتحكي حكايتها، لكن ثمة عائلات كاملة شُطبت من السجل المدني لم يبقَ منها أحد، وهنا تروي أمل الدبّور قصة موت عائلة كاملة بلا ناجين. كما يروي التاجر أبو محمد كيف خسر ابنه الوحيد وأملاكه ومحلاته. ويسرد حكاية مجزرة الطحين كشاهد عليها، حيث حصل على تصريح لنقل مساعدات من الشمال للجنوب، وخلال الطريق كان حاجز الجنود الإسرائيليين يوقفونه، مرة يرمون ما يحمله من خضار على الأرض، ومرة يتهمونه بنقل مقاومين من حماس، ويهدّدونه ويوجّهون له الشتائم. وعن يوم المجزرة، يقول إنه لما وصل وتجارٌ آخرون بشاحناتهم المحمّلة بالطحين هجم الناس عليهم مثل الرمل، فبدأت الدبابات بإطلاق النيران عليهم، اختبأ أبو محمد تحت المقود فيما كانت الجثث تتساقط، ولما هدأ الوضع بدأ الشباب يسحبون المصابين وينقلونهم على كارات الحمير، والشاحنات التي من المفترض أن تنقل طحينًا وخضارًا بدأت تنقل الجثث والمصابين، وفي ذلك اليوم، أخذ الجنود التصريح الذي له، ولم يذهب للشمال بعد ذلك. يقول: "كل شي راح، ابني بيتي وشغلي، وبعيد عن بناتي، حاسس إني بكابوس"... "بالنسبة لأبو محمد فإن حياته قد انتهت حتى لو انتهت الحرب".

وإذا كان أبو محمد سائق الشاحنة المحمّلة بالطحين، فإن الخياط حمزة يحكي عن تجربته في انتظار شاحنة الطحين "فهو واحد من الأبطال الواقعيين لهذا الجزء من الفيلم التراجيدي الطويل"، يحكي كيف صارت الدبابة تطلق النار بشكل عشوائي، وكيف اختبأ في حفرة، ثم أخذ كيس طحين وفيما هو يذهب سقط أحدهم أمامه ثم سقط ثانٍ ثم سقط ثالث، وصار يدعس على المصابين والجثث، يقول: "كانت مجزرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بس خلص كل واحد كان يفكر بكيس الطحين للي ممكن ياخدو لولادو... هادا طحين مغموس بالدم". ويصف حمزة فرح الأطفال ورقصهم عند وصول كيس طحين للبيت "عنجد كأنو عرس"، ثم يقول يجب أن يكون اسم تلك المظلات التي تُسقط المعلبات "مذلات" وليس "مظلات".

وحكت رغد أبو عرجة "الحامل" كيف تم قصف العمارة التي كانت تقيم فيها مع عائلتها وأهلها، فاستشهد زوجها وأمها وأبوها وأحد إخوتها، "نجت أبو عرجة لكن في حروب الإبادة لا أحد ينجو تمامًا" وأولدت ابنتها لبنى في ظروف قاسية. أما آلاء نصار فتحكي كيف تم اعتقالها من أمام طفليها الصغيرين وزوجها، بعد عشرين يومًا من فقدها لكامل أهلها بقصف إسرائيلي. وتسرد ظروف الاعتقال القاسية وكيف استهزأ بها الجنود عندما أخبرتهم أن لديها أطفالًا، وكانوا يضربون أرجلها بالبساطير، وبقيت 11 يومًا مقيّدة اليدين والرجلين، ونقلوها من سجن لآخر ولمدة 45 يومًا تم تعذيبها، تقول: "أنا مش آلاء... وين المؤسسات التي بتتغنى بدفاعها عن حقوق المرأة والعنف؟ شوفوا وضع الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال...".

وتسرد دكتورة الإعلام فدوى الجعبري ليلة استهداف المنزل وهي بداخله مع عائلتها، وحكايتها مع مرض السرطان الذي نبت خلال الحرب وأجرت فحصًا ولم تتمكن من معرفة النتيجة بسبب النزوح لأكثر من شهرين عندما أخبرها الطبيب بتفشي المرض وضرورة العلاج. وثمة شهادة من مدرّب الخيول عبد الحميد شويخ، يخبر فيها كيف أن جنود الاحتلال سرقوا خيولًا، وكيف ماتت خيول أخرى بفعل الجوع والبرد والخوف؛ "الخيول بتخاف متل الإنسان... أصوات القصف كانت الخيول تخاف جدًا منها وتتوتر".

ثمة شهادات أخرى ليست أقل غرزًا للألم فينا، عن خسارة أم أشرف لزوجها بعد تدمير المنزل على رؤوسهم، واعتقال ابنها. والصياد أبو يزن شحيبر الذي خسر ابنه وأدوات صيده، وكانت زوجة ابنه حاملًا عند استشهاده، يقول عن أحفاده: "أكيد بس يكبروا بدن ينتقموا لأبوهم. أنا مش متصوّر كيف هدول اليهود بيشتغلوا. كيف القتل عندهم سهل؟! كيف حياتنا بتنمسح بضغطة زر بالطيارة". وشهادة المدرّس مصعب بعد تقطّع أشلاء أخيه، وموت "المدرسة"، وخسارة بيت العائلة، ومحاولته فتح صف في مدرسة تمتلئ غرفها باللاجئين "شيء من التعافي الشخصي، كأن الانخراط في مشروع مثمر مع الأطفال أعاد منح الحياة معنى بعد أن غلب عليها الموت". أما الصيدلي أحمد حلّس، فبعد تدمير محلاته وأدويته، افتتح صيدلية في الخيمة التي يعيش فيها، والصحافي محمد الحجار أعدموا جيرانه أمام عينيه وزوجته خلال نزوحهم من الشمال للجنوب، وحيث جمعا أثمن ما يملكانه في حقيبة الزوجة، وخلال النزوح اعتقلها الإسرائيليون بلا سبب، وأخذوا منها كل ما يملكانه، وبعد اعتقالها لم يسمحوا لها باللحاق بزوجها وطفليها إلى الجنوب، فاضطرت لأن تعود وحيدة للشمال.

كل شهادة في هذا الكتاب، وكل سرديّة، تصلح لتكون فيلم رعب مستقلّ بذاته، حيث الموتى لا يتركون أحدًا ينام، لكثرتهم ولتوزّع أشلائهم، والكلاب التي تنهشهم، إنهم يصنعون ضجيجًا في الرأس، وحيث الضحايا يعمّرون مدينة جديدة مقابرها مفتوحة، وسماؤها تقع على علوّ منخفض من الموت ومن الحزن التاريخي المتجدّد...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.