اختار الدكتور عزمي بشارة، مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن يعنون محاضرته الافتتاحية، في اليوم الثاني، للمؤتمر بـ "مقال في الحرية"، وأشار في البداية إلى أنه مع أن الأدب يستعير صورة الطير في تحليقه مقاوماً الجاذبية تعبيراً عن توق الإنسان لأن ينطلق "حرًا كالعصفور" ، إلا أن موضوع مقالتنا لا يعثر عليه في الطبيعة. وعلى الرغم من حلم الإنسان "بحرية الطيور" فإن الأخيرة ليست حرة خلافاً للبشر. هؤلاء يبحثون في النهاية عن حريتهم في مواضعها الأثيرة، النفس الإنسانية والمجتمع البشري المنظم. الحريّة معرَّفةٌ بالعقل والإرادة، مشروطةٌ بهما؛ ومن نافل القول، إنهما لا يتوافران في كائناتٍ لا تملك عقلا وإرادة. فلا حرية في الطبيعة. وأضيفُ إلى ذلك أنه لا حرية في الكائنات فوق الطبيعية".
ويلفت إلى أن الواقع اليومي للبشر يعرض صوراً أخرى غير "شعرية" لهذا الإنسان الحر المحلوم به، "فالشاشات تعرض له يومياً صور جحافل من البشر الراكبين مخاطر البحر في عز الشتاء، عائلات بكاملها تتعلق بقوارب مهترئة حشرت فيها بغية الوصول إلى بر الأمان على شاطئ ما في الشمال. يرومون الأمن والأمان. صحيح، ولكنهم يعرضون أنفسهم للموت ليس
ويشير بشارة، إلى أن الإنسان يكتسب الحريّة مع نمو الوعي والإرادة، وهو بهذا المعنى لا يولد حراً، وهو في مسعاه يناضل من أجل نيلها وتعلم ممارستها، ليس كفرد فقط، بل ضمن إطار المجتمع، وفي سياق المواطنة المتحققة.
ويسجل أن النهضويين العرب حاولوا "أن يزرعوا تصورات الحريّة الحديثة في التاريخ والفكر الإسلاميين بأثر رجعي، وذلك غالباً ليس نتيجة سوء فهم للتاريخ، بل كاستراتيجية في التعامل مع مجتمع تقليدي تسيطر عليه قوى محافظة عبر تأصيل مفاهيم حديثة في التراث الإسلامي، وللدقة تبيئتها، ولا سيما أنها متهمة بكونها "أفكارًا مستوردة". فقد اكتسبوها من مفكري القرنين الثامن والتاسع عشر الأوروبيين، وتعاملوا بانتقائية مع آخر تجلياتها كحريات شخصية ومدنية وسياسية. وللانتقائية وجهان: الأول: تجاهل الليبراليين العرب الأوائل تاريخيةَ هذه الأفكار في عملية تطبيقها جاهزةً على تاريخٍ آخر؛ والثاني: تأويل الإصلاحيين الإسلاميين الأفكار بشكل يتسق مع العقيدة الإسلامية في حالات، أو تأويل العقيدة بحيث تتسع لهذه الأفكار، وهذا على درجات مختلفة بالطبع. أما نقادهم المعاصرون فيعتبرونهم أسرى "فهم إسلامي" للحرية لا يتجاوزوه إلى الفهم الحديث لها.
تجنب الإسقاطات
لكنه ينبه إلى ضرورة الحذر من الإسقاطات، ومحاسبة الحضارة الإسلامية في الماضي بموجب مصطلحات أنتجت في حضارات أخرى وفي سياقات مختلفة، وهذا شكّل سقوطاً لعدد من الباحثين العرب الذين اهتموا بموضوعة الحرية. ويقيم بشارة تصنيفاً للحريات في عصرنا بين حريات شخصية ومدنية وسياسية، وتدخل حرية الفكر والإبداع بين المدني والسياسي، والنضال ما زال مستمراً لتحقيقها.
في أي إطار يمكن السعي للحريات وتحقيقها؟ يجيب بشارة عن هذا السؤال كالتالي "فقط في إطار الدولة يمكن السعي للحريات وتحقيقها وصونها كحقوق المواطنة ومنها: الحرية الشخصية التي يصبو إليها الفرد كي يختار نمط حياته ومهنته ومكان إقامته وعقيدته الدينية وغيرها، وحاجته لحماية حريته هذه، وكذلك الحريات المدنية المتمثلة بالاتحاد والاجتماع وحرية التعبير، والحرية السياسية التي تبدأ بالحريات المدنية وتنتهي بحقوق المشاركة السياسية في صناعة القرارات المتعلقة بمصيره ومصير مجتمعه.
أما خارج الدولة فتُحتوى السلطة السياسية في باطن الجماعة ذاتها، ولا حقوق فيها للفرد بل استحقاقات وواجبات تقابلها امتيازاتٌ مترتبةٌ على مكانته فيها. وفي هذه الحالة لا تتحقق شخصية الفرد إلا في الجماعة، التي ينتفي شعورُه بذاتِه من دونها. وغالباً ما لا يكون عقابه على فعل ارتكبه بسلب "حريته"، بل بإخراجه من الجماعة (حرمانه، إقصائه، نفيه). ولهذا يكون السجن، أي سلب حرية الإنسان في الحركة وسلب استقلاليته وحريته في اتخاذ قرارات كثيرة أخرى في حياته، هو عقاب الأفراد في الحالة المدنيّة؛ أما في حالة البداوة فالعقاب الأكبر هو النفي أو الإخراج من الجماعة. تتجسد الحريّة في حالة البداوة في الجماعة، أما الانتباذ خارجها فيعتبر عقاباً وليس تحررًا. فالفرد هنا لا يقوم بذاته. وعربياً، يمكن اعتبار أدب الصعاليك، حالة استثنائية في تحويل العقاب هذا إلى فضيلة عبر الانسياب في الطبيعة بدل الجماعة، ولا حرية في الطبيعة كما ذكرنا. ومن هنا ليست الفرديّة حريّةً في نظر البدوي. فالحريّة عنده تنطبق على الجماعة، وذاتيته لا تكمن في حريته الفردية بل في كونه عضواً في قبيلة حرة".
وبسط ملاحظات فلسفية عدة تتصل بالموضوع، منها أنه لا حرية وجودية أو انطولوجية خارج وجودها ذاته في العقل والإرادة، ومنهما تنتقل الحرية إلى الاجتماع كحريّات، وصعوبة الحديث عن الحريّة ونحن نتاج البيئة الطبيعية التي تتحكم قوانينها بسلوكياتنا والمفاتيح الوراثيّة التي تحدد شخصياتنا وتفضيلاتنا وخياراتنا؟
ويخلص إلا أن "الحريات هي في درجة التجريد الأبسط نفي للإكراه، إنها إطلاق قدرة الإنسان على الاختيار في مجال ما"، وساق الجدل الفلسفي الذي صاحب هذا المبحث منذ الدرس الفلسفي اليوناني مروراً بالمذاهب والمدارس الفلسفية.
ويؤكد بشارة، أنه "غالباً ما قابل الانشغال بالحرية فلسفياً ضمور في التنظير بشأن الحريات الجزئية وممارستها. وغالباً ما بُرِّر قمعُ الحريات الجزئية العينية بالانصياع لضرورات تحقيق مطلقات (الخير المطلق، العدل المطلق، الحرية المطلقة) تتوق إليها الفلسفة منذ أفلاطون، ولا سيما حين تبدو الفضيلة كظل للخير الإلهي المتموضع على قمة النظام الكوني، والحريّة البشريّة كصورة من صور الحريّة الإلهيّة المطلقة. وسبق أن بينا أنه ثمة تناقض بين مفهوم المطلق ومفهوم الحرية".
ويعرض لوجهة نظر هيغل في محاضراته في تاريخ الفلسفة، حيث جعل الحريّة جوهر الإنسان ليس في كيانه الملموس أو الاجتماعي التاريخي، بل في ماهيته، بمعنى أنّ الحريّة هي العنصر المكوّن لمفهوم الإنسان. والإنسان يكتشف ذلك ويتعرف عليه بالتدريج عبر تقدم تجليات العقل في التاريخ، حتى يلتقي الإنسان مع جوهره الكامن في الحرية".
وينتهي بشارة من هذا العرض إلى أنه "لا جديد في الحوار الفلسفي النظري حول الموضوع، ويمكن أن تأتي فلسفة الأخلاق والفلسفة السياسية بجديد في هذا السياق بطرح الأسئلة العملية في الظروف العينية التاريخية. ولذلك، ليست الحريّة قضيّة نظريّة فلسفية في الفكر الليبرالي، بل مسألة سياسة ومجتمع واقتصاد.
أسئلة كبرى
طرح بشارة مداخل عدة لمعالجة موضوعة الحرية، وجاءت على شكل أسئلة، منها: ما هو نوع الوعي اللازم لممارسة الحريات السياسية؟ وهل تشترط ممارستها بها، أم أن ممارسة الحرية هي شرط لتطور هذا الوعي؟ إذا وقعت المفاضلة بين الاستقرار وحفظ الحياة من جهة والحرية من جهة أخرى، فأيهما نختار؟ ووجاهة طرح السؤال الأخير من منظوره تتصل في مجتمعاتنا بدواعٍ معروفة تتعلق بالعنف الذي يواجَه به مطلب التغيير، أو باحتمال انهيار الهيئة الاجتماعية إلى مكوناتها نتيجة ضعف النظام، فتخير الأنظمة الحاكمة المحكومين بين الاستبداد والفوضى.
لكنه سؤال وهمي. فمن يعارض الحريات المدنية والسياسية لا يدّعي عادة تأييد الظلم، بل يقابل الحرية بقيمة أخرى مثل الوطنية وغيرها حين تتهم الحريات المدنية والسياسية بأنها مؤامرة خارجية.
ويمضي في تفسير ذلك: وحين يصبح مطلب الحريات مكلفاً إلى درجة الحرب الأهلية والفوضى تطرح علينا المفاضلة بين قيمة الحرية وقيمة الحياة. والحقيقة أنه لا توجد مفاضلة كهذه. فللظلم ثمن باهظ جداً على مستوى حياة الناس نفسها على المدى البعيد، فضلاً عن نوعية الحياة بذل العبودية على أنواعها، والمعاناة في ظل القمع والخوف من التعرض لعسف السلطة الحاكمة. ويمكن أن يواجَه الفردُ بهذه الخيارات حتى على مستوى ردعه عن التمسك بحريته الشخصية حينما يدرك الثمن الاجتماعي لممارستها في ظروف اجتماعية معينة، فقد تكون العزلة والحرمان وفقدان العائلة والأقارب والأصدقاء عواقب هذه الممارسة.
يؤكد بشارة، أن المستبدين وأنصارهم يتحججون في رفضهم تحقيق الحريات بـ "مخاطر الفوضى والفتن، ويؤكدون الاستقرار كقيمة، ولكنهم يعنون في الواقع استقرار نظام حكمهم وقبول الناس بواقع الظلم. ليست ثمة مفاضلة بين قيمة وأخرى هنا بل ابتزاز المحكومين بالتهديد بالفوضى والفتن التي يخشاها الناس أكثر من خشيتهم من الاستبداد".
ما الحل؟ يجيب بشارة "المسؤولية الملقاة على عاتق أي فاعل اجتماعي يسعى من أجل التغيير، فهي التأكد من توفر برنامج لنظام بديل للاستبداد يضمن الحريات، ومن واقعية هذا البرنامج. بعد ذلك يصبح القرار بشأن تقديم التضحية مسؤولية الفرد، وذلك بموجب مسلمات الحرية الأولى التي تمنحه مثل هذا الحق على نفسه وجسده".
إن المنطق حسب بشارة، يقول "تؤدي ممارسة الحريّة إلى أخطاء وربما حتى كوارث، ولكن لتصحيح المشاكل الناجمة عن استخدام الحريّة سوف نحتاج إلى حرية، مثلما أنّه لتصحيح أخطاء العقل نحتاج إلى عقل".
مدنية وسياسية