}

مكاني الأول.. شهادة خليل صويلح

ضفة ثالثة ـ خاص 10 مايو 2021
أمكنة مكاني الأول.. شهادة خليل صويلح
خليل صويلح

الفكرة الأساسية لهذه الزاوية هي ربط تجربة الكاتب، أو الشاعر، بمكانه الأول، أو أمكنته الأولى، والسؤال عن أثر المكان على تجربته.
في كل حلقة نستضيف كاتبًا يستعيد مكانه الأول في شهادة مسترسلة، أو على شكل إجابات عن الأسئلة والمفاتيح التالية، من دون التقيّد بها حرفيًا:
كيف تتذكر مكانك الأول؟
هل لعب المكان دورًا في كونك أصبحت كاتبًا؟
هل هنالك أمكنة أخرى تركت أثرًا في تجربتك؟
هنا شهادة الكاتب والروائي السوري خليل صويلح.

                                                                                                                                                             (حسين بن حمزة)



خليل صويلح: اقتفاء أثر الأسلاف

بعض كتب وروايات خليل صويلح 


لا أعرف من أي صحراء انحدرت الأسرة إلى ضفاف نهر الخابور، على الأرجح من تخوم الحدود العراقية، لكنني أذكر جيدًا بيت الشعر الذي رُفعت أعمدته إلى جانب بيت طيني قيد البناء. أتذكّر جموع النساء اللاتي كنّ يجلبن أعواد الزّل والصفصاف لسقف البيت إلى أن اتخذ شكله النهائي بغرفتين وصالون يفصل بينهما، بالإضافة إلى غرفة جانبية هي ديوان الضيوف. كنّا ننام في غرفة واحدة، عدا الأب الذي كان ينام في الغرفة المقابلة. لاحقًا، سيتحوّل هذا البيت إلى متاهة من الغرف المتجاورة على نحوٍ عشوائي: مطبخ، غرفة النار التي يتوسطها موقد لغلي قدر الحليب، مستودع الحبوب، حظيرة أغنام. كان باب البيت مفتوحًا على جهة القبلة، ككل البيوت الأخرى، وكنّا نقضي حوائجنا في العراء، أو في حقول القطن المتاخمة للبيوت!



لن أمكث طويلًا في هذا البيت، إذ انتقلت إلى بيت جدّي لأمي على بعد ثلاث قرى، لعدم وجود مدرسة في القرية التي ولدتُ فيها. حدث ذلك فجأة، بناء على نصيحة من وليّ عابر كان يزور والدي سنويًا لمباركة البيت، موصيًا إياه بضرورة التحاقي بمدرسة. في اليوم التالي، كنت أمتطي دراجة هوائية يقودها شاب كلّفه والدي بهذه المهمة المقدّسة، وسأنخرط في حياة مختلفة وسط حشد من الخالات في بيت ضخم أقرب إلى طراز القصور القديمة، ولن أعود إلى بيت الأهل إلا في العطل المدرسية، طوال دراستي المرحلة الابتدائية. ستتكفّل جدتي بتدبير شؤوني، وسأنصت إلى حكاياتها قرب موقد الحليب قبل أن أغرق في نومٍ مضطرب. في غرفة جدتي الواسعة، بنوافذها المفتوحة على جهتين، النوافذ التي كنت أنتظر مجيء الغزال منها كي يروي عطشي ليلًا. كنت أوقظ جدتي إثر كابوس ما، على الأرجح بتأثير أفعى بسبعة رؤوس خارجة من وكر حكايات الجدّة، فتجيبني من جوف النوم "نم.. نم، سيأتي الغزال حاملًا قربة ماء ويرويك". كنت أنتظر وأنتظر من دون أن يأتي الغزال، ثم أغفو. الغريب أنني حين أستيقظ في صباح اليوم التالي، لا أشعر بالعطش، فهل أتى الغزال حقًا؟
في الصيف، أعود إلى بيت أهلي على الدراجة الهوائية نفسها، وكأنني غريب، أو ضيف، بفراش مستقل عن بقية الأشقاء، قبل أن أستقل بغرفة في متاهة الغرف الطارئة، سنةً وراء أخرى، مقاومًا ضجر الصيف الملتهب بشغف القراءة، والسباحة في نهر الخابور، بعد أن خضعت إلى دورة مرتجلة لتعلّم السباحة، على يد ميكنسيان مضخة الماء: أن تطوف فوق الماء بقربة منفوخة، ثم سيفكّ المدرب بغتة الخيوط التي تربط القربة، بعد تمارين متواصلة، تاركًا إياك تتخبّط بين الأمواج إلى أن تعبر النهر إلى الضفة الأخرى بنجاح. في تلك القرية الطينية المضجرة، كانت القراءة عزاءً سحريًّا لفتى هزيل وخجول ومحزون مثلي، لا يستطيع أن يركب حمارًا من دون مساعدة، أو أن يركض حافيًا وراء شاحنة تعبر الطريق الترابي بالمصادفة، كما يفعل أقراني. ولكن أين الكتب؟ سأكتشف خزانة خشب صغيرة في ديوان العم. أتذكّر كتب جورجي زيدان التاريخية ثم "حياة الحيوان الكبرى" لشهاب الدين الدميري، كان الكتاب أشبه بأنطولوجيا ضخمة لأسماء وطبائع الحيوان والطير. هذا الكتاب سيلهمني بعد خمسين عامًا تقريبًا، ببناء روايتي "عزلة الحلزون"، لجهة أسماء الشخصيات وطبائعها وسلوكياتها البهيمية، أو شفافية أصحاب أسماء الطير ومكابداتهم في مواجهة القسوة البدوية في صحراء غارقة في الدم. هكذا سأغلق القوس على كتاب قديم كنت أظن بأنني لن أعود إليه ثانيةً، مثلما سأطوي مشهديات المكان الأول في روايتي "سيأتيك الغزال".



ولاحقًا، أيضًا، كنتُ ذلك الفتى النحيل الذي يذهب إلى مكتبة المركز الثقافي في ناحية صغيرة عند حدود الصحراء، أثناء الفرصة بين حصتين دراسيتين، لاستعارة كتابٍ ما، مدفوعًا بغريزة الاكتشاف وحسب.
في الظهيرة، أعبرُ جسرًا خشبيًا متهالكًا على دراجة هوائية عائدًا إلى قرية صحراوية، أتأبط كنوزي. أقرأ بنهمٍ، وسط ثغاء أغنام حول المعلف.

***

كان فيلم "الحياة اليومية في قرية سورية"، للمخرج الراحل عمر أميرلاي، أحد أكثر الأشرطة التي هزّتني بعنف، لتقودني باكرًا إلى منعطف آخر في فهم معنى أن تكتب نصّك الشخصي. شريط تسجيلي بالأبيض والأسود تدور وقائعه في قرية طينية عند الحدود الفاصلة بين مدينتي دير الزور والحسكة، وتاليًا فإن هذه القرية لا تبعد كثيرًا عن قريتي، ولا تختلف عنها بيئيًا، أو بؤسًا، أو عزلة. حين شاهدت الفيلم في أحد الأندية السينمائية، أصابتني قشعريرة، فهؤلاء البشر أعرفهم جيدًا، أو أعرف ما يشبههم. حين اقتحمت الكاميرا الغرفة الطينية التي كانت مدرسة بعلم ممزّق يرفرف فوق سطحها، واصطدمت بوجوه التلاميذ بسحناتهم الشاحبة، كدت أن أرى صورتي، فقد درست الابتدائية في مدرسة طينية مشابهة، وكنت سأجيب مثلما أجاب هؤلاء التلاميذ بخصوص وجبة الإفطار: خبز وشاي. لا كما كان المعلم يردّد وفقًا لوسيلة إيضاح معلّقة على الحائط تحمل رسومًا لمفردات وجبة الفطور: "بيضتان مسلوقتان وكوب من الحليب"! أجل كنت من التلاميذ الذين لم يجدوا على مائدة الفطور غير الخبز والشاي، ولكنهم سيرددون نشيد العلم في زمهرير الشتاء بكامل حناجرهم. حينها، أقصد بعد مشاهدتي هذا الشريط، أدركت أنني تركت نصّي الأصلي خلفي، على بعد ألف كيلومتر، مهاجرًا إلى دمشق للعمل في الصحافة، لافظًا أسلافي خارجًا، لأغرق في قراءات أخرى، على أهميتها إلا أن ما كان ينقصها ذلك البريق المحلي والموروث الأصلي للبيئة الأولى. علّمني الفيلم بأن النص الحقيقي هو الذي يقطن في الجوار، عن المفردات التي أعرفها جيدًا، أو تلك التي عشتها عن كثب. الآن، حين أستعيد مسار رواياتي التي تدور وقائعها في دمشق غالبًا، أجد خطًا سريًّا يجذبني إلى صحراء كتلك التي ولدت فيها، إلى لحظة رملية، أو إلى لحظة نخوة بدوية تخص شخصية ما، لعله الخيط الذي لم ينقطع مع بيئتي الأولى، البيئة التي سأكتشف سحرها كلما التفتُ إلى الخلف، مقتفيًا آثار الأسلاف.

***

أظنُّ بأنني لم أتخلّص إلى اليوم من بقايا استنشاق رائحة ثاني أكسيد الكربون التي كانت تنبعث من مصباح الكاز في غرفتي الأولى. أحاول أن أستعيد صورة القارئ منبطحًا، وهو يلتهم سطور كتابٍ ما، على ضوء شحيح، حتى ليلٍ متأخر، بصحبة كؤوس الشاي الأسود، فوق بساطٍ مزخرف من الصوف الملوّن، في قرية طينية تهجع في الظلام والسكون والعزلة، عدا نباح كلاب متقطّع ضدّ أشباح لا مرئية. ثمّ، في هجير الصيف الملتهب نهارًا، بمحاذاة شباك مفتوح على نسيم الهواء الغربي، ومقطع من حقل قطن يحاذي النهر. على بعد أمتار، كان كلب أسود يضطجع في فيئ الجدار المقابل يلهث من حرّ الظهيرة، وربما يحاول أن يفسّر عبثًا منظر القارئ، وهو يتأبط كتابه، وهل سيلقي بهذه الوليمة الغامضة التي تشبه رغيفًا من الخبز نحوه؟ إذ كنت ألاحظ استنفاره، مع حركة يدي كلما طويت صفحة من الكتاب، قبل أن يعود خائبًا إلى وضعيته السابقة.



اليوم، ينبغي أن أقتفي سجلّي كقارئ، تبعًا لتاريخ وسيلة الإضاءة: مصباح كاز، أم مصباح يد يعمل على البطارية، أم لمبة كهرباء تتدلى بشريط معدني مبطّن من سقف غرفة مستأجرة في المدينة، أم شمعة في فترة انقطاع التيار الكهربائي، أم كلوب إلى جانب السرير، أو فوق منضدة خشبية متهالكة، أم شاشة كمبيوتر؟ أشتاق إلى غرفتي في مسقط الرأس، وكتبي الجامعية الأولى التي غطاها غبار النسيان، من دون أن يتخلّى عنها أبي بعد أن انتقل للسكن في غرفتي في غيابي، وقد أضاف إلى موجوداتها سجادة صلاته فقط، تلك التي يفرشها فوق بساط الصوف نفسه، البساط الذي كنت أستلقي فوقه في نوبات القراءة المجنونة، أنا الذي لم أصلِّ يومًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.