(*) أيّ الأفكار راودتك فور وقوع هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)؟ وهل كان لذلك وقع على رؤيتك إلى الحرب الدائرة في غزة؟
لقد قامت الحرب سنة 1947 ولا تزال في حلقات مختلفة. أعتقد أن الهجوم الفلسطيني في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ليس إلّا جزءًا من سيرورة طويلة الأمد من الاستعمار ومن مقاومة هذا الاستعمار. فخاصة ومنذ 2000، قررت إسرائيل، سواء الحكومة أو الرأي العام، بعدم تنفيذ عملية أوسلو للسلام، وانخرطت في عملية سحق وحشيّ للانتفاضة الثانية، حيث اتّسم احتلال الضفة الغربية وحصار غيتو غزة بأبغض الممارسات وأبشعها (حيث مثّل عدد الشهداء الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين وفقًا لإحصاءات الأمم المتحدة، أعلى نسبة، ناهزت 21 مرة من عدد القتلى الإسرائيليين، إضافة إلى عمليات نزع ملكية الأراضي ومصادرتها، وتوسيع المستوطنات غير المشروعة وتزايد امتدادها.... إلخ). في ظل بشاعة الاحتلال لما نتوقع أن تكون المقاومة الفلسطينية جميلة؟ بل يعدّ هذا التوقّع أضغاث أحلام سوسيولوجيا. ولكن بصفتي باحثا اجتماعيا يفكر في مسؤوليته الاجتماعية والأخلاقية، تقتضي الضرورة منّي اتخاذ موقف.
لقد استخدم البعض تاريخ العنف الإسرائيلي في المنطقة لتبرئة حماس. واعتبر آخرون أن مطالبة الفلسطينيين بالتوازن الأخلاقي المعرّضة حياتهم للخطر أمر مجحف. ولكن ربما يعود إحجام البعض عن إصدار أحكام أخلاقية على تصرفات حماس إلى غياب إدراكهم لكيفية تصرّفهم أو تفاعلهم في حالة عيشهم في سجن كبير كغزة في ظل نفس الظروف المروعة. وفي نهاية المطاف، أعتقد أنّه يجب إدانة أي هجوم لا يميز بين المدنيين والمقاتلين. ولكنني لا أدين حتما حق المستعمَر في مقاومة المستعمرين بالوسائل العنيفة.
(*) رفضت جامعة أوسلو مؤخرًا تنفيذ المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل بينما أدانت في الآن ذاته جميع انتهاكات القانون الدولي وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار ووقف الهجمات ضد المدنيين في قطاع غزة وإسرائيل. هلّا أبديت لنا آراءك حول هذه المواقف؟
- أناشد الباحثين والمؤسّسات الأكاديميّة التحلّي بأسمى مسؤولياتهم الاجتماعية والأخلاقيّة. وأنا مؤمن بالواجب الأخلاقي في الاستجابة للمقاطعة المؤسّسيّة لأي مؤسّسة ذات علاقة بقوى استعماريّة واستبداديّة شرط أن لا يتمّ ذلك على المستوى الفردي. ولكنّي أدعو إلى مقاطعة لا المؤسّسات الإسرائيليّة فحسب بل أيضاً مقاطعة الجامعات والأقسام المرتبطة بأنظمة استبدادية عربية كذلك. إذ ما فتئت فكرة المقاطعة تستعمل في البلدان الديمقراطيّة الليبراليّة لكن تحجم هذه البلدان وباسم الحرّيات الأكاديميّة حين يتعلّق الأمر بالحالة الإسرائيليّة. وما فتئت المؤسّسات الأوروبيّة تأتي هذا الإحجام إذ لا يمكن التغافل عن مقاطعة المؤسّسات الروسيّة عقب اجتياح أوكرانيا وقبله مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. أستحضر في هذا السياق زميلا فلسطينيًا من الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء كان من المفترض أن يشارك في ورشة أكاديمية في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا سنة 2008 حيث تمّ إلغاء الدعوة فجأة قبل يومين من موعد أعمال الورشة إذ تزامن ذلك مع فوز حماس في الانتخابات، بسبب تمويل الإتّحاد الأوروبّي لورشة العمل. أمّا في جامعتي، الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، فيستحيل دعوة أي متحدث خارجي أو حتى حضور (مسجّل مسبق) لحديث عبر منصّة زووم Zoom بدون عمليات فحص وتدقيق باستخدام قاعدة بيانات وزارة الخارجية الأميركية، حيث يشكّل ذلك شرطًا للحصول على بعض التمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID. ولو أن قاعدة البيانات هذه لا تميز بسبب أفكار نقدية لأميركا، ولكن يستحيل دعوة علماء أعضاء في جامعة حكومية إيرانية.
أعتقد اليوم، ووفقا للمحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وتوصيف الأمم المتحدة للحرب على غزة بكونها إبادة جماعية (على الأقل بلسان فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة الأممية المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة)، أن مقاطعة المؤسّسات الإسرائيلية هي ضرورة أخلاقية. وبالفعل اعتبرت منظمة العفو الدولية (أمنستي) وهيومن رايتس ووتش، وكذلك جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم ويش دين (Yesh Din) خلال سنتي 2021 و2022، إسرائيل دولة الفصل عنصري.
لقد انتهيت للتوّ من قراءة كتاب رائع من تأليف باحثة إسرائيلية مايا ويند (Maya Wind)، الموسوم بـ أبراج العاج والصلب: كيف تنكر الجامعات الإسرائيلية الحرية الفلسطينية (Towers of Ivory and Steel: How Israeli Universities Deny Palestinian Freedom). يُبيّن هذا الكتاب بوضوح لا العنصرية البنيوية للدولة الإسرائيلية حيث يتم كتابة عدم المساواة العرقية في القانون فقط بل كيفيّة تشابك الجامعات الإسرائيلية مع أنظمة القمع الإسرائيلية. حيث تقيم جامعة تل أبيب العديد من الشراكات مع الجيش الإسرائيلي: من تدريب للجنود، والسماح للضباط العسكريين بالتدريس في الجامعة، وتوفير التكنولوجيا، وأخلاقيات حالات القتل الخارجة عن سيطرة النظام القضائي، وعن القانون... إلخ. وتسوق ويند مثالًا برنامج الإجازة "Erez" إيريز المرموق الخاص بضباط الوحدات العسكرية القتالية. حيث يتضمن شهادة جامعية مزدوجة التخصص: أولاً برنامج أكاديمي يركز على «مجالات الاهتمام» العسكرية، وبرنامج آخر في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية والتجارة أو الهندسة. ويوضّح الجيش في برنامج إيريز، أن "التدريب العسكري والأكاديمي متشابكان"، حيث يتم تحويل الطلاب العسكريين المبتدئين "من مدنيين إلى مقاتلين من النخبة". وتنحو الجامعات الإسرائيلية الثماني الأخرى المنحى ذاته (اثنتان منها في الضفة الغربية المحتلة)، مقدّمة بذلك الخبرة والبنية التحتية والتقنيات التي تم تطويرها في الجامعات الإسرائيلية ومن خلالها لدعم المشاريع الإقليمية والديموغرافية والعسكرية الإسرائيلية. ويتعاون الإسرائيليون في العلوم الإنسانية والاجتماعية في علم الآثار الاستعماري (سرقة القطع الأثرية من الأراضي الفلسطينية)، والدراسات القانونية، ودراسات الشرق الأوسط، والتدريب لصالح الدّولة البوليسيّة.
ولكن علينا الاعتراف في الوقت ذاته أنّ الأكاديميا الإسرائيليّة قد ضمت بعض الأساتذة الشجعان الذين تجرّؤا على مواجهة السلطة بالحقيقة. يحضرني الآن أسماء مثل ليف غرينبرغ Lev Grinberg وأورن يفتحئيل Oren Yiftachel وآخرين خرجوا منها مثل إيلان بابيه ونيف غوردون من بين آخرين.
بالنظر إلى كتابي الذي شاركت في تأليفه مع اثنين من الباحثين الإسرائيليين، عدي أوفير وميخال جيفوني، الموسوم قوة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة (The Power of Inclusive Exclusion: Anatomy of Israeli Rule in the Occupied Palestinian Territories) (وقد ترجم للعربية ليصدره مركز دراسات الوحدة العربية)، من المثير إدراك أن معظم المساهمين الإسرائيليين في الكتاب لم يطيقوا الاستمرار في الأكاديميا الإسرائيلية لتعرّضهم للمضايقات وهم الآن خارج هذا البلد العنصري. فلا القمع الذي انكوت به الأستاذة نادرة شلهوب كيفوركيان في الجامعة العبريّة والتي تمّ تجميد عقدها واعتقلتها الشرطة الإسرائيلية واستجوبتها، إلّا واحدة من عديد القصص التي باغت المسامع ليس فقط منذ 7 أكتوبر ولكن قبل ذلك بكثير.
(*) يتعلّق هذا بالمقاطعة، لكن ماذا عن العنصرين الاثنين الأخريين المتضمنين في BDS (حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات)؟
- تصيبني الدهشة الشديدة أن معظم الهبات والأوقاف المقدّمة للجامعات هي الآن جزء من صناديق التحوط لأصحاب الملايين اللاهفين الذين يهتمّون بتكديس مكاسبهم، وغالبًا ما يتهافتون وراء استثمارات مربحة في صناعات الأسلحة والتبغ في الولايات المتحدة وفي العديد من البلدان الأخرى. يا له من تناقض صارخ: نعلم طلابنا ما يسمى بـ "الفنون الليبرالية" بينما نموّل مركب الأسلحة/التبغ - العسكري - الاستبدادي – الاستعماري هذا؟ يتوجّب علينا تقديم الحجّة ذاتها للتخلص من الصناعة الإسرائيلية ونحن نعلم تمامًا من خلال العديد من الدراسات إلى أي مدى تتّسم بتواطئها مع المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية الاستعمارية والعسكرية للفصل العنصري ومقاطعتتها.
(*) قد يجادل البعض بأنّ حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) شكل من معاداة السامية...
- الصراع الفلسطيني الإسرائيلي صراع استعماري، حتى لو اعتبره البعض كونه قوميات متنافسة في السياق المأساوي لما بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى في مثل هذه الرؤية، تقوم إحدى الجماعات القومية بنزع ملكية جماعة قومية أخرى.
تعدّ الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وغزة، وفقا للقانون الدولي، أراضي محتلة. ثمّة محتلّ يأتي ممارسات استعمارية وفصلاً عنصريًا يوميّا، وثمّة مقاومة ضد تلك الممارسات. أعتقد أنّ الحديث عن كراهية اليهود أو معاداة السامية أمر غير منطقي. إذ تثير مادية الإبادة الجماعية والصور الرسومية قيد التحضير غضب أي شخص يؤمن بالإنسانية. فمعاداة السامية اليوم، بوصفها موضوعًا، توقف الحوار والنقاش. فأنا لم أسمع قطّ عن الآراء المعادية لجنوب أفريقيا أو المناهضة لأفريقيا حين دعا الناس إلى مقاطعة أكاديمية واقتصادية لجنوب أفريقيا خلال نظام الفصل العنصري. وأنا متأكد من مقاطعة الأوساط الأكاديمية الأوروبية للمؤسسات الروسية الآن ولم يمرّ على مسمعي القول إن هذا معاد للإثنية الروسية. ومع ذلك، فإن معاداة السامية قويّة في بعض أجزاء من العالم، لكن أن تخلط بينها وبين معاداة الصهيونية أو نقد الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية فهذا أمر غاية في التضليل.
(*) قد يجادل البعض كذلك بأن شعار ''فلسطين حرّة من النهر إلى البحر" معاد للساميّة.
- هذا بالتأكيد تفسير سيء لكيفية استخدام معظم النشطاء لهذا الشعار. لقد شاهدت في مظاهرات أوروبية وأميركية العديد من اللافتات والمقابلات مع المتظاهرين توضح جليّا أنها دعوة لدولة ديمقراطية وعلمانية لجميع مواطنيها، ويعني هذا أنه وبغض النظر عما يجب تسميته: فلسطين/ إسرائيل أو أي اسم ثالث. فحتى موسى أبو مرزوق، وهو من قيادات حماس الرئيسية، أوضح في مقابلة مؤخرًا أن حل الدولة الواحدة يعني تعايش قاطني فلسطين التاريخية -رجل واحد وصوت واحد-، بغض النظر عن دين الفرد. يعدّ اختيار هذا الشعار ردة فعل على الممارسات الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية اليومية تحت سياسة 'من النهر إلى البحر'. ولنتذكّر أن لدى حزب نتنياهو نفسه، الليكود، هذا الشعار في برنامجه الرئيسي. والأسوأ من ذلك أن النهر في برنامجه ليس نهر الأردن بل نهر الفرات.
لا تزال ذكرى المحرقة حية في أوروبا، وأنا أدرك أن هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، دون تمييز بين المدنيين والمقاتلين، أعاد بعض الذكريات بشكل صادق. لكن على الجيل القديم أيضًا أن يفهم لماذا يعكس الشباب، بشعارهم الراديكالي هذا، تجربتهم كبشر وهم شهود عيان على كيفيّة قتل الجيش الإسرائيلي للنساء والأطفال وعلى تجويعهم وتدمير لمدارسهم ولجامعاتهم في غزة – وهو ما يطلق عليه بعض العلماء "الإبادة التعليميّة المتعمّدة" scholasticide. ومع ذلك، يجب أن أعترف أن الشباب لا يشاهدون نفس المواد الإخباريّة غالبًا: فقط قارن بين دويتشه فيله -المؤسسة الإعلامية الألمانية DW News وفرانس 24 من جهة مع قناة الجزيرة. ولهذا السبب، يتوجّب علينا إنشاء مساحة حوار داخل الجامعات حتّى يتسنّى لمجموعات مختلفة من الطلبة الاطلاع على عرض حجج مختلفة.
(*) كيف تردّ على القائلين بأنّ المقاطعة المؤسّسيّة مماثلة لعملية إلغاء ثقافة الآخرين؟
- تعدّ مقاطعة الأفراد في معظم الأحيان مجال التدخّل لثقافة الإلغاء (على سبيل المثال، عدم دعوة المتحدث في جامعة، وفرض إزالة التوصيف المهني لإكاديمي). بينما تستهدف المقاطعة المؤسسية تواطؤ المؤسسات ذات القوة القمعية النشطة. وهذا طبيعي، حيث يعترف المجتمع الدولي بأنّ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية انتهاك للقانون الدولي، شأنه في ذلك شأن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وينبغي فهم المقاطعة المؤسسية على أنها الملاذ الأخير للمقاومة السلمية. وبهذا المعنى، فلا وجود لإلغاء الثقافة الإسرائيلية بل تقوّض المقاطعة المركب الجامعي- العسكري. ولم تمنعني الدعوة إلى مثل هذه المقاطعة من المشاركة في تحرير كتاب مع إسرائيليين. من خلال القيام بذلك، أود أن أدعو الباحثين الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء لقراءة بعضهم البعض: فلا مجال لتكميم الأصوات أو تلجيمها أو إلغائها.
(*) هل بإمكان المجتمعات الوقوف على الحياد في مثل هذه الوضعيات؟
- إنّه صمت التواطؤ. مثّلت الجامعات ولعقود خلت، موقعًا للاحتجاجات وللمناقشات المفتوحة والخلافات حول السياسات التي تفرضها السلطات المهيمنة، كما كانت عليه الحال من حرب الفيتنام إلى الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وقد كانت مساحة لحرية التعبير لا تعمل إلا في وجود خطاب مضاد قوي. لذلك أنا ضد أي محاولة لإلغاء ثقافة الآخرين، سواء كانت مرتبطة بالقضايا السياسية أو الاجتماعية أو العرقية والجنسانية.
(*) لقد صغت مفهوم الإبادة المكانيّة spacio-cide. ماذا يعني المصطلح؟ وما رأيك في الاهتمام والوعي (أو انعدامه) فيما يتعلق بالوضع في فلسطين قبل هجمات 7 أكتوبر؟
- لقد عشت في فلسطين المحتلّة خلال الفترة الممتدة من 1999 إلى 2004 في أوج الانتفاضة الثانية وقمت حينها بصياغة مصطلح "الإبادة المكانيّة" (spacio-cide)، ولمّا كان اهتمامي منصبًا على مسألة اللاجئين الفلسطينين وعلم إجتماع السياسي للصراع، فلقد نظرت إلى طبيعة المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي آنذاك بأنه إبادة مكانية (مقابل الإبادة الجماعية للإثنية- genocidal) من حيث استهدافه للأرض سعيا إلى طرد الفلسطينيين. وباستهدافها للفضاء الذي يسكنه الشعب الفلسطيني تفرض هذه السياسة النقل القسري للساكنة الفلسطينية وتجعل تهجيرهم مسألة لا مفر منها. وقد اعتبرت أنّ الإبادة المكانية أيديولوجيا متعمّدة تقوم على أساس منطق موحد يمكن تلخيصه بـ"أرض أكثر لليهود وعدد سكان أقلّ للفلسطينيين". وهي عمليّة ديناميكيّة في تفاعل مع السياق المتغير، والذي يشمل أعمال المقاومة الفلسطينية. فالإبادة المكانية هي تتويج لإبادات "cides" مختلفة، حتّى تصبح أرض فلسطين غير صالحة للعيش من خلال القيود المفروضة على تنقل الفلسطينيين، وقتل القادة الفلسطينيين (poli-cide)، وسرقة المياه الجوفية شديدة الضرورة للزراعة الفلسطينية وتقويض "القدرة الاقتصادية المحتملة للفلسطينيين" (econom-cide). أبيّن من خلال الوصف والتشكيك في جوانب مختلفة من الأجهزة العسكرية والقضائية والمدنية الإسرائيلية، أن مشروع الإبادة المكانيّة المتعمّدة spacio-cidal غدا قيد الإمكان من خلال نظام يقام على ثلاثة مبادئ: الاستعمار (مصادرة المزيد من الأراضي)، والفصل (بين الأراضي الإسرائيلية والأراضي الفلسطينية)، وحالة الاستثناء التي تتوسط بين هذين المبدأين المتناقضين ظاهريّا. ولقد تحوّل المشروع الاستعماري الإسرائيلي راهنا من كونه إبادة مكانيّة إلى إبادة جماعية.
(*) سؤال أخير، يتطلع إلى المستقبل. كيف ترى مستقبل فلسطين/إسرائيل (سؤال كبير، أعرف ذلك)؟ هل أنت إيجابي وهل يحدوك الأمل؟ هل لديك "سيناريو حلم"؟
- أعتقد هنا بصفتي باحثًا إجتماعيًا كان ولا يزال شاهدًا على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعلى مدى دمويته أنّه من العسير تصوّر حل الدولة الواحدة من فوره. لكن يمكن أن يكون حلّ الدولتين خطوة أولى نحو بناء ديمقراطيّة لبيراليّة متعددة الجنسيات في الفضاء: فلسطين-إسرائيل. وهذا يعني إنشاء مجلسين: أحدهما يعكس مبدأ 'رجل واحد، صوت واحد' في التعامل مع المسائل المتعلقة بجميع المواطنين وفي المجلس الثاني تناقش مجموعتان قوميتان (اليهود والعرب) قضاياهما اليومية المتعلقة بالاستقلال الذاتي. لقد طوّرت زميلتي السوسيولوجية الإسرائيلية، جولي كوبر Julie Cooper، بعض الأفكار المثيرة للاهتمام في هذا الاتجاه. ومع ذلك، فإن هذا الطرح يعكس روح وثيقة حيفا لعام 2007، التي شارك في كتابتها نديم روحانا ونادرة شلهوب كيفوركيان وآخرون ووقعه العديد من العلماء والناشطين الفلسطينيين. ولكن بشكل أكثر إلحاحًا، يجب وقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية الحالية في غزة. يجب أن نسمح للأجيال الجديدة، طلابنا، في جميع أنحاء العالم بالتعبير عن غضبهم من تواطؤ الأحزاب السياسية السائدة والعديد من إدارات الجامعات في هذه الحرب. بلغة رنا سكرية، يعكس كفاحهم خيالًا أمميًا مناهضًا للاستعمار في العالم الثالث. هذه التعبئة هي الأمل... أتمنى لها طول البقاء.