}

"قصر العظم" في حماة الذي يزخرفه الشعر

علاء زريفة 23 أبريل 2022
آثار "قصر العظم" في حماة الذي يزخرفه الشعر
زخارف ومقرنصات قبة قصر العظم في حماة

يصنف فيليب حتي "قصر العظم" في مدينة حماة في وسط سورية بأنه أحد روائع الآثار المقصودة على نهر العاصي، ومن أجمل الأوابد العمرانية في العصر العثماني، والذي يعد مقصدًا رئيسيًا لزوار المدينة، لجماله المنقطع النظير، وإعجابًا بزخارفه وشهرته ومميزاته الفنية، وأهميته الأثرية والتاريخية. ورغم كل ذلك، يشير كل من عبد الرحيم المصري، وكامل شحادة، في كتابهما "قصر العظم في حماة" إلى أن "حظه من البحث والتأليف كان ضئيلًا، إذ أشار إليه الباحثون والمؤرخون إشارات خاطفة لا تدفع غلة ولا تشفي صدرًا".
يشغل القصر اليوم مقر متحف حماة، وهو درة فريدة في تاج العمارة الإسلامية، مشرفًا على نهر العاصي بقبته السامقة، ويرى الناظر من خلاله، ومن فوق سطوحه، كثيرًا من أوابد حماة الأثرية، كالقلعة، والجامع النوري، وحمام السلطان، وقاعة آل الكيلاني، والزاوية الكيلانية، فضلًا عن بعض أحياء المدينة وبساتينها وحدائقها العامة.



موقع القصر



يقع القصر في قلب مدينة حماة، تحديدًا في أقصى الجناح الشرقي من حي الباشورة على مسافة 100 متر من شارع أبي الفداء، في بقعة ذات قيمة تاريخية أثرية في السوق الأسفل، تتميز بتعدد مبانيها التاريخية. وهي خمس قاعات (لآل قرناص) من العهد الأيوبي المملوكي قرب مسجد أبي ذر، وحمام الزين، فضلًا عن القبة المبارزية، والمدرسة الصهيونية، والمدرسة الافتخارية، والمدرسة النوريّة، والتربة العمرية، ودير قرما. ويشرف القصر على نهر العاصي بقبته السامقة، ويجري النهر من تحته، وكأنه شارع مستقيم جميل تشدو حوله النواعير بتعبيرها العذب وجرسها الرطب.



تاريخ القصر
بُدئ بعمارة القصر سنة 1740م، على يد أسعد باشا العظم، فأنشأ القاعة الكبرى (قاعة الذهب) في الطبقة العلوية، والإسطبل مستودع العلف في الطبقة الأرضية، وفقًا لما يورده أحمد وصفي زكريا في كتابه "جولة أثرية في بعض البلاد الشامية".




ويتابع أحمد وصفي زكريا قائلًا "رمم نصوح باشا العظم القاعة الكبرى سنة 1780م، وانقلب القصر من مقر لحكم المتسلم إلى مكان خاص بالحريم يدعى "الحرملك". وابتنى نصوح باشا قسمًا ثانيًا خاصًا بالرجال والضيوف يسمى "السلاملك"". ثم "أكمل أحمد مؤيد باشا العظم عمل سابقيه فأنشأ في الطبقة الأرضية من الحرملك قبوًا ملحقًا بالإسطبل واقعًا في جنوبه، وشيد فوقه جناحًا مناظرًا للقاعة الكبرى يتألف من غرف بعضها مزخرف منقوش سنة 1834م".
وفي سنة 1830م، أنشأ أحمد مؤيد باشا إيوانًا بديعًا وعدة غرف وفسقية كبرى مثمنة الشكل في الطبقة الأرضية من الحرملك، فضلًا عن حمام باسمه "حمام المؤيدية"، وفقًا لميخائيل بريك في "تاريخ الشام". واستمرت ملكية القصر بين آل العظم بعد أحمد باشا إلى أولاده وأحفاده حتى عام 1920م، وتخوفًا من وضعه تحت يد الفرنسيين، كما حدث مع قصر العظم في دمشق، سارعت هيئة أمناء دار العلم والتربية الأهلية في حماة إلى شرائه، فاشترته من السيد ناصح المؤيد العظم بمبلغ 5000 ليرة ذهبية تبرع الملك فيصل بألف جنيه منها، وفقًا لمحمد راغب الطباخ في كتابه "أعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء".
وبقي القصر مقرًا للمدرسة حتى عام 1956م، عندما نجحت في استملاكه المديرية العامة للآثار والمتاحف، وجعله متحفًا إقليميًا لمدينة حماة ومحافظتها، وصدر في ذلك مرسوم رقم /305/ تاريخ 22/ 9/ 1956م، كما يرد في كتاب "قصر العظم في حماة" لكامل شحادة، وعبد الرحيم المصري. ويتابع المؤرخان القول "وقد قامت المديرية بعد ذلك بترميمه ترميمًا فنيًا واسع النطاق، ولاسيما القاعة الكبرى "قاعة الذهب"، وعهد بهذا العمل إلى الفنان نادر أوضه باشي، واستمر العمل بين عامي (1960 ـ 1964م)، فعاد للقصر بهاؤه".


أقسام القصر وخصائصه المعمارية
يعد القصر مثالًا للبيت العربي الكامل؛ إذ يتألف من أربعة أقسام (الحرملك أي القسم الخاص بالحريم، السلاملك وهو القسم الخاص بالرجال والضيفان، الحمام، والإسطبل). أما الحرملك فيقع في الجناح الجنوبي، ويشترك مع السلاملك في مدخل خارجي واحد.




ويتألف من طبقتين، أرضية وهي عبارة عن دهليز طويل متعرج ما إن يجتازه الزائر حتى تنبسط أمامه باحة فسيحة، تتوسطها شجرة مانوليا، وأشجار الحمضيات، وبحرة مثمنة الشكل يتدفق إليها ماء العاصي من ناعورتي المأمورية والجعبرية، وتحيط بها غرف عادية، ربما كانت مخصصة للخدم، كما يورد أبو الفرج العش في مقالة عن الدور الأثرية الخاصة في دمشق في مجلة الحوليات السورية.
أجمل ما في الطبقة الأرضية إيوان كبير ذو سقف حجري معقود تتدلى من وسطه دلاية نجمية، ويستند مع قوسه إلى تيجان مزخرفة، فضلًا عن قصيدة شعرية تشير إلى بناء البحرة وسباعها المعدنية. وتتقدم دكة الإيوان المرتفعة عتبة مفروشة بالرخام والحجر الملون المرصوف رصفًا هندسيًا. وأما الطبقة العلوية فيصعد لها الزائر بدرج حجري مسقوف، وفي هذه الطبقة باحة سماوية تتوسطها بحرة مثمنة تحيط بها الغرف من جميع الجوانب، أجملها على الإطلاق القاعة الكبرى، وهي مسبوقة برواق كبير محمول على أربعة أعمدة أسطوانية من الرخام والغرانيت.
وفي غربي الرواق دكة مربعة، تتوسطها فسقية جميلة، فرشت جميعها بالرخام والحجارة الملونة على شكل هندسي بديع. أول ما يصل الزائر يلاحظ في واجهة القاعة أسلوب التناظر والتنوع، ولطائف من النحت ودقائقه في الأبواب، أو النوافذ، أو رصف الرخام والحجارة الملونة، أو في الكوات العلوية التزيينية التي بلغت حد الخصب في الزخرفة والنقش البارزين، كما يصف أبو الفرج العش في كتابه "آثارنا".
بالنسبة للسلاملك، فهو يقع في الجناح الشمالي من القصر، وكان يشترك مع الحرملك بمدخل خارجي واحد، ثم غدا له مدخل خاص من الغرب، بعد أن ضمت غرفة مدخله السابق إلى حمام المؤيدية، ويتألف كذلك من طبقتين: أرضية ربما كانت مخصصة للخدم، تضم غرفتين لهما مدخل مشترك تزينه شمسية في أعلاه. أمامهما باحة سماوية مرصوفة بالرخام والحجارة الملونة، تتوسطها فسقية مثمنة الأضلاع. والطبقة العلوية تتألف من قسمين متعارضين جنوبي وشمالي، الجنوبي يحتوي على غرفتين تتجهان غربًا إحداهما عادية صغيرة، والثانية كبيرة مزخرفة بشكل بديع يتقدمها رواق مزدوج ذو سقفٍ خشبي محمول على صفين من الأعمدة الحجرية والأسطوانية الأمامية. أبرز ما يلمحه الزائر فوق بابها بيتان من الشعر يؤرخان بناء السلاملك، وهما:
في رياض إن تأملت بناها/ فتراها نزهة للناظرين
كتب السعد على أبوابها/ ادخلوها بسلام آمنين.. 1195 هجرية
والقسم الشمالي أيضًا أمامه رواق محمول على أعمدة أسطوانية من الحجر الكلسي ذات تيجان عربية، يتألف من ثلاث غرف تعلو واجهاتها ثماني شمسيات غنية بنقوشها المخرمة. والغرفة الثالثة في شرقه ثرية بالزخارف والنقوش أول ما يصادفه الزائر خيط زخرفي منحوت يحف بداخلها، تعلوه لوحة رخامية، نقش فيها بيتان من الشعر، يصفان الغرفة ويؤرخان بناءها، وهما:
روضة حسن حكت غرفة/ وبابها من كل شكلٍ عجيب
فليكتب السعد على بابها/ نصر من الله وفتح قريب.. 1195 هجرية
أما الحمام المسمى بالمؤيدية فهو بناء حجري صغير الحجم يتألف من ثلاثة أقسام؛ أولًا البراني: غرفة ذات سقف حجري يأتي ماؤها من ناعورة الجعبرية. وثانيًا الوسطاني، وهو عبارة عن غرفتين وسطيتين، إحداهما ذات فسقية رخامية صغيرة، وسقف بيضي الشكل، وثانيتهما ذات سقف ثلث كري، تتخللهما منافذ زجاجية للإضاءة. وأخيرًا الجواني، ويتألف من غرفتين للاستحمام، إحداهما ذات سقف ثلث كري، والأخرى ذات سقف مقبب مستطيل.




آخر أقسام القصر هو الإسطبل الذي يقع في الطبقة الأرضية من الحرملك، ويتألف من قسمين: جنوبي اتخذ مربطًا للخيل له باب خاص غير باب القصر يتجه نحو الجنوب، في جداره الشمالي ستة معالف، وشمالي اتخذ مستودعًا للعلف.


قاعة الذهب





تقع القاعة في الطبقة العلوية من السلاملك، وهي مخصصة للضيفان والزوار، ويذكر عبد الرحمن المصري في كتابه "متحف مدينة حماة": "تعد هذه القاعة من أجمل القاعات الأثرية، إن لم تكن أجملها في الشرق العربي، من حيث زخارفها، وأسباب الإبداع فيها، وتجلي لطائف فن النحت ودقائقه وخيوطه الزخرفية. ويبرز جليًا الأسلوب العربي القائم على مبدأي التناظر والتنويع، سواء أكان في زخرفة الأبواب والنوافذ والكوات العلوية، أو في رصف الرخام والحجارة الملونة".
والقاعة من الداخل تتألف من عتبة تتوسطها فسقية جميلة، وتعلوها قبة سامقة، وتحيط بها ثلاث طرزات عالية تلحق بها غرفتان من الشرق والغرب. وفي العتبة زخارف عربية من الرخام والحجارة الزاهية التي تمثل لوحة فنية رائعة تعلوها زخارف ذهبية تتضمن البسملة، وآية الكرسي، وآية أدخلوها بسلام آمنين.
وترتفع القبة عن العتبة، وتضم بين حناياها زوايا حجرية غنية بالمقرنصات والمتدليات. وتزدان بست عشرة شمسية جصية مخرمة ملونة تنساب منها إلى الداخل أشعة الشمس ملونة ملطفة. وتتوسط العتبة فسقية جميلة من الرخام والحجارة الملونة يرتفع في وسطها تاج نافوري رخامي بديع متقن النحت، يتألف من ثلاث وخمسين فوارة يفور منها الماء محدثًا شبكة بلورية رائعة تتكسر عليها أشعة الشمس الوهاجة.
الطرز الشمالي المقابل لباب القاعة يتميز بزخرفته العالية وكسوة جدرانه الرخامية، وبزخارفه الكتابية. وتروع الزائر نوافذ الجدران الخشبية وتذهيباتها الجميلة. وبين الطرز وشرفته قوس تتعاشق قطعه الرخامية والحجرية الملونة، وتتشكل زخارف هندسية تتضمن بعض الزخارف النباتية، وتتموضع فوق القوس لوحة مستطيلة من البلاطات الخزفية القاشانية الزرقاء البديعة. وإذا ما انتقلنا إلى الطرزين الشرقي والغربي من القاعة نجد التناظر في كل شيء، في النوافذ الخشبية والشمسيات الجصية، وفي الزخارف المذهبة والملونة التي تتصف بالرقة والرشاقة. وهي في الغالب هندسية تحوي عناصر نباتية وكتابية من الشعر العربي، ولا تقل الغرفتان الداخليتان الملحقتان بالقاعة جمالًا عنها.


القصر الذي يزخرفه الشعر






في معرض الكلام عن هذا القصر البديع، لا نغفل ذكر أهم ما يميزه عن سواه، بما يحتويه من تزيينات كتابية، منها آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، إضافة لحكم بليغة، ولكن للشعر العربي فيها النصيب الأوفى، والذي نقش بعضه في الطبقة الأرضية، ومعظمه في الطبقة العلوية. وعلى سبيل المثال، القصيدة التي نقشت على صدر الجدار الجنوبي للإيوان مؤرخة بحساب الجمل تاريخ البحرة الكبرى، وتقول في مطلعها:
بمبادي بركة حسنت مزاجا / فلم تبرح لظمآن علاجا
وتتموضع كتابات الطبقة العليا في القاعة الكبرى، وإحدى الغرف المقابلة لها. وتتألف كتابات هذه الغرفة من قصيدتين. نقشت الأولى فوق نوافذها، ونقشت الثانية في إطار سقفها.
ومطلع القصيدة الأولى:
بين باب النقا ونجم الزهور/ أشرقت غرفة الهنا والحبور
حار منها العاصي فعاد طيعًا/ جاريًا دائمًا بغير فتور
والقصيدة الثانية هي للشافعي مطلعها:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل/ وقل الفصل وجانب من هزل
ونقشت على شرفة الطرز الشمالي للقاعة أبيات مطلعها:
يا ربوع التقى ودار الوزارة/ لا برحت من زمان مجارة
قد حويت شهمًا ربيب المعالي/ سحب كفيه بالعطا مدرارة
ويقرأ الزائر في البلاطة المربعة الخزفية القاشانية، قصيدة مؤرخة بناء القصر ومشيدة ببانيه أسعد باشا، ومطلعها:
ما لاح في التاريخ نقش بالبها/ ها جازها بجناب همة أسعد
وثمة أبيات للبوصيري في إطار سقف الغرفة الشرقية، مطلعها:
كيف ترقى رقيك الأنبياء/ يا سماء ما طاولتها سماء
وغير ذلك كثير من النقوش الشعرية التي تزين أرجاء القصر التي تشعر الزائر وكأنه دخل في عالم باذخ من الفن والجمال.


الوضع الحالي للقصر
التقيت في أثناء زيارتي للقصر بالمشرفة عليه، السيدة نور السواس، التي صرحت قائلة: "إن حركة السياحة إلى القصر شأنه شأن عموم الأماكن الأثرية في سورية قد تأثرت بشدة نتيجة الحرب المستمرة في البلاد منذ عشر سنوات، وأغلب الزيارات تضم الدارسين وطلاب المدارس من المدينة وما حولها".
وتضيف السواس: "تعرض القصر خلال فترة أحداث الثمانينيات لضرر شديد لا سيما قسم الحرملك، الذي أعيد ترميمه على سنوات عدة استمرت حتى مطلع التسعينيات، وهو يشغل اليوم متحف الصناعات الحرفية في المدينة، بعد أن بقي حتى منتصف السبعينيات متحف المدينة الرئيسي، والذي يضم العديد من اللقى الأثرية النادرة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.