اليونسكو: أضرار جسيمة لحقت بقلعة حلب
سحرت هذه المدينة القديمة كلّ من زارها، من باحثين ورحالة وتجار وسياح، وظلّت مُحافظةً على تفوقها ومركزها التجاري على الرغم مما مرّ عليها من أحداث جسام، حيث لم تتوقف رغبة القوى المتصارعة منذ القدم على بسط السيطرة عليها، وكانت كلّ حرب تنتهي بإزهاق أرواح كثير من سكانها، وتدمير أجزاء كبيرة من معالمها، فكان أن تعرّضت لهجمات وحصار من قبل الملك المغولي هولاكو عام 1259م، حيث اقتحم جيشه المدينة، وعاث فيها فسادًا وقتلًا، ودمر في عام 1260م قلعتها، مع كلّ أسوار المدينة ومساجدها. حاصرها بعد ذلك سلطان التتار تيمورلنك في عام 1400م، وأحرق المدينة، وقتل أعدادًا كبيرة من أهلها. وفي السنوات الأخيرة، تضرّرت المدينة ومعالمها الأثرية والتاريخية بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بسبب الحرب المتواصلة في سورية منذ عام 2012م.
وقبل ذلك كلّه، في عام 1138م، ضرب زلزال مرعب مدينة حلب، لتتحوّل إلى أنقاض. ورغم العدد الكبير من الحروب والصراعات والكوارث الطبيعية التي حلّت بها إلّا أنّ الحياة كانت تعود إلى المدينة في كلّ مرّة، لتصبح حلب التي عرفناها قبل عام 2010م.
أمّا الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا، وشمال سورية، في السادس من فبراير/ شباط الماضي، فكان من أشدّ الكوارث المتتالية التي عرفتها حلب منذ مطلع القرن العشرين، ففي معظم أحياء حلب القديمة، وصولًا إلى قلعتها التاريخية، تسبب الزلزال، وعشرات الهزات الارتدادية، بخسائر مادية وصل بعضها إلى درجة الخطورة، ليس فقط في حلب، وإنما في مدن اللاذقية، وطرطوس، وإدلب، وحماة، وحمص.
"المديرية العامّة للآثار والمتاحف" في سورية نشرت تقريرًا مفصلًا عن الأضرار التي طالت القلعة بشكل أساسي، وهي من أكبر القلاع في العالم، وأكثرها تحصينًا. وتتراوح هذه الأضرار ما بين المتوسطة وفوق المتوسطة في البرج المتقدّم، وهو باب القلعة الرئيسي، مع هبوط في سقف القوس الحامل للمدخل، وحدث تصدع في البلاط، وسقطت حجارة من القنطرة، كما حدثت تصدعات في الأسوار الدفاعية في الاتجاهات كافة، وفي واجهات مئذنة الجامع الأيوبي، إلى جانب انهيار مداميك في واجهات صحن الجامع، وانهيارات في مدخل البرج المملوكي، وأجزاء من الجدار الجنوبي للثكنة العثمانية، وتصدع سقف وواجهة البرج المملوكي، وتشقق مدخل قاعة العرش، وانهيار كبير لصومعة الطاحونة العثمانية. وتعرّض متحف قلعة حلب كذلك لتصدعات وتشققات في كثير من العناصر الإنشائية.
وفي مدينة حلب القديمة، التي تُعدُّ أقدم مستوطنة بشرية موجودة حاليًا في العالم، وواحدة من أكبر المراكز الدينية في العالم القديم، والمدرجة في "قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) للتراث العالمي" المعرّض للخطر منذ عام 2013م، سجّلت انهيارات وتصدعات في مبانٍ سكنية خاصّة، وأضرار إنشائية بالغة، منها سقوط سقوف وجدران وأجزاء من واجهات ضمن أحياء عدة، منها حي العقبة التاريخي، والجلوم، وجادة الخندق، وباب أنطاكية، وفي كامل المدينة سقطت مآذن بعض الجوامع التاريخية.
وفي السابع من فبراير/ شباط الماضي، أعلنت اليونسكو أنّ موقعًا مدرجًا على قائمة التراث العالمي في سورية تعرّض لأضرار جراء الزلزال المدّمر.
وطالت تداعيات الزلزال إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم في المنطقة المعروفة باسم "الهلال الخصيب"، التي شهدت ظهور حضارات مختلفة من الحثيين إلى العثمانيين. وخلّف هذا التاريخ الغني وراءه مجموعة من المواقع التاريخية والأثرية، يعود عدد منها إلى آلاف السنين، وتُعدُّ مراكز جذب رئيسية للسياح.
وقالت المنظمة إنها "قلقة بشكل خاصّ" بشأن مدينة حلب القديمة، المدرجة في "قائمة التراث العالمي" المعرّض للخطر منذ 2013 بسبب الحرب في سورية. وأضافت: "لوحظت أضرار جسيمة في القلعة. وانهار البرج الغربي لسور المدينة القديمة، وأصبح عدد من المباني في منطقة الأسواق في حالة ضعف".
حلب... كاليفورنيا الشرق الأوسط
"حلبا، حلبو، حلائب، حلوان، حلباس، أرمانوس، روسوس، باروا، وبيروا"، كما كان يطلق عليك السلوقيون، كلّ هذه الأسماء حملتها مدينة حلب في العصور الغابرة، وكذلك "الشهباء"، كما يخبرنا الشاعر والكاتب الحلبي الدكتور عبد الحميد ديوان، مؤلّف كتاب "حلب في رحاب التاريخ والأدب" (الهيئة العامّة السورية للكتاب، دمشق ـ 2010م).
يقول المؤلّف في مقدّمة كتابه عن أصل التسمية: "عُرفت باسم حلب منذ أقدم العصور، ولكن هذا الاسم حُرّفَ في بعض الأحيان نتيجة لوجود أمم حكمت هذه المدينة، فأطلقت عليها أسماء تناسب لغتها، فسماها السومريون والأموريون (حلائب)، ويعني في اللغة الأمورية القديمة الحديد والصلب، أو النحاس، الذي كان يأتيها من الأناضول. أمّا الحثيون والميتانيون فقد دعوها (حلبا، أو حلباس)، ودعاها الآشوريون اسم (حلبو ـ وحلوان)، وهي قريبة من كلمة في معناها إلى الكرمة التي اشتهرت بها حلب والمناطق المحيطة بها. وكان نبيذ (حاليبون) معروفًا في العصور الوسطى.
وقد وصفت حلب (بالشهباء) وكما تقول الأسطورة فإنّ سبب إطلاق صفة الشهباء عليها أنّ أبا الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام أقام في حلب مدة من الزمن، وكان يملك قطيعًا من البقر، وفيه بقرة تلفت النظر بخوارها، وبلونها المرقش، وكان يحلبها كلّ مساء، وكان أهل حلب ينتظرونه بقولهم: "إبراهيم حَلبَ الشّهباءَ".
أمّا المقولة الثانية فقد ذكر بعضهم أنّ صفة الشهباء اُطلقت عليها لأنّ أرضها ولون البناء (أبيض) وأشهب، فجاءت الصفة نسبة إلى لون الأرض، والبناء، وهذه المقولة أقرب للحقيقة من الأولى، ولعل مظهر المدينة الأبيض واللون الرمادي اللامع الذي يبدو من بعيد يجعل من هذه التسمية أقرب انطباقًا إلى الواقع. ومنهم من يقول إنّ العرب قد عربوا كلمة حلبا السريانية، والتي تعني البيضاء، فقالوا حلب، ونعتوها بمعناها، فقالوا: "حلب الشهباء، وجرت الألسنة على ذلك"".
ويذكر الكاتب البريطاني روان مور، في تقرير له نشرته صحيفة "الغارديان"، في أغسطس/ آب 2020م، "إنّ مركز حلب كان أعجوبة؛ إذ كان تجسيدًا للثروة المادية والثقافية، التي جعلت من سورية ذات يوم واحدة من أكثر البلدان حظًا وتحضرًا على وجه الأرض. فهي شبيهة بكاليفورنيا الشرق الأوسط، بمناخها وأرضها الخصبة وجمالها المادي، وموقعها بين البحر الأبيض المتوسط وطريق الحرير إلى الشرق".
وشبَّه مدير متحف الفن الإسلامي في برلين، ستيفان ويبر، حلب ببرشلونة، أو فلورنسا، قائلًا: "لقد تميّزت المدينة بالتعدّدية الدينية، وتراثها غير المادي وموسيقاها ومطبخها".
وتقوم المدينة وضواحيها الواسعة على ثماني تلال صغيرة ذات ارتفاعات متباينة، بالإضافة إلى الأودية التي تتخلّلها، فهي تشغل مساحة واسعة من الأرض المنبسطة، وتشكّل كلّها دورة تقارب مسافتها سبعة أميال، وهي محاطة بسور قديم، وكانت في الماضي محصَّنة بخندق واسع عميق. ويوجد حاليًا في المدينة تسعة أبواب، ويمكن رؤية قلعة حلب من مسافة بعيدة، وتوفّر الجوامع والمآذن والقباب الكثيرة مشهدًا رائعًا، أمّا أسطح البيوت المستوية المبنية على التلال فتمنح مشهدًا ذا مصاطب متتالية تتخلّلها أشجار الحور والسرو، وتتربع القلعة فوق كلّ ذلك، بشكل يهيمن على الجميع، وهي تُدخل شيئًا من الرهبة من ذلك البعد.
القلعة
تُعدُّ قلعة حلب من أضخم قلاع العالم وأكثرها تحصينًا على الإطلاق، ولا يعرف تاريخ بنائها لقدمها، وهي تتميّز بضخامتها، وتقوم على رابية مرتفعة تشرف على المدينة من جميع جهاتها، ويرتفع سطحها عن مستوى أرض المدينة نحو 38 مترًا، أمّـا أبعادها من الأعلى فتصل إلى (275×375) مترًا، ومن الأسفل، حيث الخندق (350×550) مترًا، ويبلغ عرض خندقها المحيط بها (30) مترًا، بعمق (22) مترًا، وكان يُملأ بالماء أحيانًا لأغراض دفاعية. كُسيت منحدراتها بالحجارة الضخمة المنحوتة المدعمة بأجزاء أعمدة دائرية كأنها الأسافين ليصعب تسلقها، ولحماية المنحدرات من التفتت.
ويحيط بالقلعة المهيبة المنظر سور شبه دائري، وعدد من الأبراج التي تعود لحضارات مختلفة، والصعود إليها يتم بواسطة درج، أو مدرج ضخم يمر عبر بوابة مرتفعة في الوسط، ومقام على قناطر تتدرج في الارتفاع حتى البوابة الرئيسة للقلعة، وقد بُنيت أسوارها على تلٍ، إلى جانب الأسواق، وهي شبكة ضخمة من الأزقة والشوارع المغطاة والمساحات التي تجمع بين المنتجات والمبادلات التجارية وحرفية البناء، حيث يسطع بريق العمارة العريقة وسط الحركة والفوضى.
أمّا الدخول إلى القلعة فيكون من بوابة ضخمة من خلال برج دفاعي مستطيل الشكل، ينتهي بالمدخل الكبير للقلعة، ويتكون من دهليز ينتهي بباب ضخم من الحديد المطرّق، تعلوه فتحات للمرامي والمحارق، ويعود إلى عصر خليل بن قلاوون الذي جدّده ورمّمه. وتعلو الباب قنطرة حجرية عليها نحت ممتدّ على طولها يمثّل ثعبانين برأس تنين.
وبعد اجتياز هذا المدخل نصل إلى دهليز آخر في جدرانه الثلاثة أواوين ضخمة، وفي إيوانه الشمالي باب يتصل بدرج يؤدي إلى قاعة الدفاع، وللقلعة باب رابع خشبي يعلوه ساكف عليه نحت أسدين متقابلين. وبعد اجتياز الباب نمر بمصاطب مرتفعة تتخلّلها غرف ومستودعات. ثمّ نصل إلى ممر القلعة الداخلي تتخلّله مجموعة من المباني والحوانيت، وثمّة درج يؤدي إلى القصر الملكي.
وإذا ما تابعنا المسير، فإننا سنصل إلى مسجد إبراهيم الخليل، الذي أنشأه الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي عام 536هـ/ 1179م. وعلى مدخل المسجد، وعلى جدرانه كتابات تأريخية. ويلي هذا المسجد بناء آخر هو مسجد ذو مئذنة مربعة عالية، أنشئت في عصر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي. وليس بعيدًا عن هذا المسجد الذي رُمّم مؤخرًا، تقوم ثكنة عسكرية أنشئت في عصر إبراهيم باشا المصري عام 1252هـ/ 1834م. وفي وسط هذه الرابية قاعة كبيرة، نصل إليها من خلال سبعين درجة تحت السطح، كانت تستعمل مستودعًا للحبوب والعلف. ومن القصور التي ما زالت قائمة، قصر يوسف الثاني حفيد غازي، مزين مدخله بمقرنصات جميلة، وأمامه ساحة مرصوفة بأحجار صغيرة ملونة ذات رسم هندسي بديع.
ونتجه من القصر إلى قاعة العرش، ندخلها من بوابة ذات أحجار ملونة، تعلوها مقرنصات، تحتها كتابة تأريخية. ولقد شيدت القاعة في العصر الأيوبي على برجين حول المدخل الخارجي، ثمّ أكملت ورُمّمت في العصر المملوكي. ثمّ أضيفت إليها في عام 1960م زخارف أثرية خشبية وحجرية. ومن أجمل نوافذ هذه القاعة، نافذة كبيرة ذات شباك مزخرف بصيغ عربية، ومن خلاله تُرى مدينة حلب مترامية الأطراف عند مدخل القلعة، ولقد زخرفت واجهات القاعة الخارجية بزخارف هندسية حجرية وبأشرطة من الكتابات العربية من أبلغها "قل كلٌّ على شاكلته". وتحت قاعة العرش هذه، قاعة الدفاع، وتخترق جدرانها كُوى لرمي السهام، وفتحات لسكب السوائل المحرقة على المداهمين والمُحاصرين.
ونلمح في القلعة، ومنذ المدخل الرئيسي، كيف يقودنا الدرج إلى الممالك القديمة، لا سيما أوّل نصّ كتابي ـ يعود إلى القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد ـ عثر عليه في مدينة (أور)، وفيه ورد اسم حلب باسم (أرمان)، وذلك عندما استطاع دخولها الملك (نرام سن) حفيد سرغون الأكادي مؤسّس أوّل إمبراطورية في العالم، وظفر بها، حيث لم يكن في قدرة ملك من الملوك أن يكتسح أرمان وإيبلا.
ويقول المؤرّخون، وأبرزهم المستشرق والمؤرّخ الفرنسي جان سوفاجيه (1901 ـ 1950)م، بأنّ معظم بناء القلعة شُيّد في القرنين الثالث عشر والسادس عشر. ومع أنها كانت عصية على كلّ من حاول فتحها عنوة، أمثال كسرى ملك الفرس، ونقفور ملك الروم، اللذين دمرا المدينة في عامي 540م، و962م، فقد فتحها العرب على يد (داحس) الذي تسلق سفحها وفاجأ الحراس ودحرهم. وكما لم تستسلم يومًا للفرس، أو الروم، فإنها لم تستسلم لهولاكو إلّا بعد أن طمأن حراسها على حياتهم، ولكنّه لم يلبث ـ كعادة المحتلّين ـ أن نكث بوعده ونكّل بهم. وبعد زلزالي 1139م، و1157م، قام نور الدين الشهيد بترميمها، كما قام الظاهر غازي بحفر خندقها وتحصينها بأبواب الحديد المطرّق، وبتشييد المسجد الأكبر فيها.
وبعد الخراب الذي لحق بالقلعة على أيدي هولاكو وتيمورلنك قام الظاهر بيبرس، ومن بعده المماليك، بترميمها، كما قام الأمير (جكم) ببناء برجي الخندق الجنوبي والشمالي، وقاعة العرش، حتى السقف أكمله السلطان المؤيد شيخ عام 1417م، وجدّده بعد انهياره السلطان قايتباي ليتحول في أيام السلطان قانصوه الغوري إلى تسع قباب. وبعد الزلزال الذي ضربها عام 1822م، بنى فيها إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا في أثناء حملته على سورية ثكنة عسكرية. ويشير المستشرق الألماني إرنست هرتسفلد إلى وجود 44 كتابة عربية، 26 منها منقوشة على أسوار وجدران وأبراج القلعة الخارجية، والباقي داخل أبنيتها المدنية والدينية.
ويجمع المعماريون في علم التراث على أنّ القلعة تمثّل واحدًا من أبرز نماذج العمارة العسكرية في الشرق الأوسط. ويعود بناؤها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر ميلادي (القرنان السادس والسابع هجري)، وشارك عدد من المهندسين المعماريين والبنائين والحرفيين في هذا البناء مع توثيق دور رئيسي للمهندس المعماري الرئيسي ثابت بن شقويق في عهد نور الدين زنكي الذي قتل في أثناء انهيار كتلة المدخل العلوي للقلعة في عام 1204م.
ورغم كلّ ما شهدته قلعة حلب، فإنها ستبقى من أجمل وأبدع القلاع في العالم وأكبرها، وستتناقل الأجيال جيلًا بعد جيل تاريخها الحافل بالأحداث الجسام والأهوال، وكانت منطلقا وقاعدة لكثير من الحكام والسلاطين والملوك والقادة، وشهدت أهم أحداث الشرق الأوسط من عصر الآراميين وحتى يومنا هذا.