}

ناصر عطا الله: نعاند المقتلة في غزة بالأمل

أوس يعقوب 13 نوفمبر 2024

 

في مدينة دمشق عام 1967 ولد الشاعر والكاتب الفلسطينيّ ناصر عطا الله، لعائلة مهجّرة من قرية يازور قضاء يافا، ودرس الابتدائيّة فيها وباقي المراحل الدراسيّة في محافظة طرطوس الساحليّة. وهو حاصل على شهادة بكالوريوس سياحة دوليّة من بولندا، وعند عودته إلى أرض الوطن - قطاع غزّة- عام 1994، التحق بـجامعة القدس المفتوحة مستكملاً مسيرته التعليميّة، لينال فيها شهادة بكالوريوس تربيّة إسلاميّة.

عطا الله، عضو الأمانة العامّة لاتّحاد كتّاب وأدباء فلسطين منذ عام 2018، وعضو نقابة الصحفيّين الفلسطينيّين ونقابة الصحفيّين العرب والاتّحاد الدوليّ للصحافيّين.

صدرت له المجموعات الشعريّة: "هل يكفي الورد"؛ "ما قاله الغريب"؛ "هذا ما يشغلني"؛ "أرملة الغياب"؛ و"رماد للظّلال". إضافة إلى الكتب التالية: "حرية مؤقتة" (سيرة مكان)؛ "صيهد العمر" (نص)؛ "شيليا وحلم الجرمق" بالاشتراك مع الأديبة الجزائريّة نور الشمس نعيمي (رسائل مشتركة بين غزّة وباتنة). ويصدر له قريبًا كتاب "ظلٌ ثانٍ" (سيرة ذاتيّة)، ومجموعة شعريّة بعنوان "نارائيل".

نال الشاعر ناصر  عطا الله العديد من الجوائز الأدبيّة، نذكر منها: "جائزة القلم الحرّ" من مصر عام 2019، و"جائزة المربد الشعريّ" من البصرة في العراق عام 2024.

في هذا الحوار يتحدّث عطا الله عن مجموعته الشعريّة الأخيرة "رماد للظّلال"، التي صدرت هذا العام في خضمّ المقتلة الصهيونيّة في قطاع غزّة، عن "دار رافلون" في القاهرة، كما يسلّط الضوء على جوانب من سيرته الأدبيّة منذ صِبَاهُ، وكيف أباد جيش الاحتلال مكتبته الخاصّة ما جعله يشعر بفقد عظيم الشأن لا يفارقه البتّة.

(*) كيف يقدّم الشاعر والكاتب ناصر عطا الله نفسه لقرّاء "ضفة ثالثة"؟

شاعر من مواليد نكسة حزيران، ولدت في دمشق لعائلة فلسطينيّة هجّرت من يافا عام 1948، ونزحت من غزّة إلى دمشق لتكون مسقط رأسي ومهبط الصبا، علمتني الشام الشعر وحب الحياة، والإرادة، وعند عودتي إلى وطني فلسطين وتحديدًا إلى قطاع غزة أيقنت أنّ عصافير الشعر قد تعبت من التستر خلف الإقصاء والانشغالات الباردة، فكانت أوّل مجموعة شعريّة لي بعنوان "هل يكفي الورد" عام 2002 لتخرج من أقفاصي متتالية الكتابة للتعبير عني وما يشغلني.

(*) حدّثنا عن مجموعتك الشعريّة "رماد للظّلال"، التي صدرت ونحن نشهد أبشع إبادة ممنهجة وشاملة يرتكبها جيش الاحتلال الصهيونيّ في قطاع غزّة، منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. ولماذا أصدرتها في هذا التوقيت بالذات؟

تفجّرت لغة القهر في "رماد للظّلال" فمع كلّ غارة صهيونيّة تنبت من بين الشقوق والردم صيحات مكبوتة ومخنوقة، ليس من السهل ترويضها لحفاف اللغة، بل جهود مضنية احتجتها لصياغة ما يجول بي من غضب وقهر وإحساس بالخذلان لذا سمّيتها بـ "رماد للظّلال"، نموت بالخفاء المعلن، ونعل الزمن يتخطّى رقابنا بدون أن يتحرّك ساكن بأهل الدعاء والرجاء في محاريب التواكل.

وكان صدورها في خضمّ المقتلة لكي لا أبقى في أودية الموت والعجز بدون حنجرة، أو صدى صوت، حتّى أشعر أنّني أرتكب الحياة استثناءً شعريًّا غير مهادن، أصدرتها لكي اُسمع الدنيا أصوات الشهداء بعد دفنهم دون جنازات، ولا أكاليل وداع، بل بعد أن أصبحت أشعارهم حبر دخان في سحب عاليّات، كان لا بدّ من حفر أسمائهم في القصائد، وتمديد أسرة خلودهم في الصفوف الحبريّة، وفتح بيوت عزاء دائمة في ميادين الحرف، كان لا بدّ من إصدار "رماد للظّلال" حتّى أعرّي المعاجم وأنفض عنها بلادتها، ولتخرج الصور المؤلمة من قباب الأسى في المدن الخراب.



(*) جاء إهداء المجموعة للشاعر الشهيد سليم النفار، الذي قتل مع عائلته إثر قصف صهيونيّ على منزلهم في "حيّ النصر" بمدينة غزّة، في السابع من كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، وبقيت جثثهم تحت الأنقاض نحو أسبوع، ما الذي تحتفظ به من صداقة الشاعر؟ وما الذي تعنيه لك تجربته الشعريّة؟

سليم النفار لم يكن مجرّد شاعر بالنسبة لي بل رفيق درب وصاحب ملازم، تشابه في سيرة حياتي، فهو من يافا وأنا كذلك، ووالده الشهيد رفيق والدي الشهيد، ومنفاه في اللاذقيّة لم يكن بعيدًا عن منفاي في طرطوس حيث أمواج البحر كانت رسولنا إلى الوطن، وزادت علاقتي به رفقة وصداقة في غزّة حيث كنّا على زمالة دائمة في اتّحاد كتّاب فلسطين، وفي أمانتها العامّة، لذا كان استشهاده مع أسرته وشقيقه وأسرته فاجعة من العيار الثقيل لم يرتدّ لي طرف حزنها حتّى الآن.

(*) كتبت نصوص هذه المجموعة في زمن المقتلة المستمرّة، وبعد أن حالت ظروف الحرب بينك وبين العودة إلى القطاع المحاصر المنكوب؛ يومها قلت: "للقصائد عيون ولو من دم وشظايا... جعلتها نداءات للضمير البشريّ أن يتدخّل لوقفها وإنصاف شعبنا بعدالة ولو متأخّرة". ما جدوى الشعر في زمن الحرب؟ وهل تنقذنا الكتابة بشكلٍ أو بآخر من كلّ هذا القتل والدمار والخراب والنهب والتهجير واسع النطاق...؟

الشعر بئري غير المعطّلة، أشغل فيه حواسي وأرتب هواجسي وقلقي وفق قاموسي الخاصّ، بالشعر أواجه الاكتئاب المجرور على حبال القلق والتوتّر والمخاوف والبعد عن الأهل، وساعة كتابتي هي ساعة سعي في نهر إلى نفسي نحو الأهل ومركبتي الآمنة خواطري التي تصبح أمامي كفراشات تخرجني من ضيق النفس إلى براح الممكن. لذا لا أبتعد عن الشعر ولا أستطيع ذلك، رغم لغات الوحشة، والقتل والإبادة، والاصطدام بلحظة السقوط القريبة جدًا من الاستسلام وإعلان الهزيمة، بالكتابة أطرد كلّ هذه الخواتيم السوداويّة، وأبني قناطر شعريّة توصلني إلى الماضي الجميل فأدخل المدن المزهرة من غير غبش الحرب ومعاول الدمار الطائرة.


(*) همجيّة الاحتلال وجرائمه الإباديّة لم تقتصر على البشر والحجر والشجر فقط، وإنّما طاولت كلّ شيء بما في ذلك الكتب والمكتبات الخاصّة والعامّة، ماذا عن مكتبتك التي جمعت كتبها على مدار نحو خمسين سنة، والتي استقرّ أمرها في منزلك في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزّة، الذي غادرته قبل أيّام من الحرب لحضور مؤتمر أدبيّ في دمشق، على أمل العودة إليه قريبًا وهو ما لم يحدث جراء العدوان الصهيونيّ؟

ما أزال أتتبّع مكتبتي الحاضنة والبستان وكأنّها موجودة، ولأنّني لم ألمس رماد الكتب بيدي، أعاند الحاصل بالأمل وسكر الماضي، وأحيانًا أصدق أنّ مكتبتي لم تعد موجودة، استشهدت والناجون قلّة، حبسهم غبار القذائف وتمّ ركنهم في زاوية باردة ومهدّدة بالحريق مرّة أخرى، فأجد نفسي حزينًا دون مناديل، وجافًا كقش آب، وغير متزنٍ لدرجة أنّني أطلب من أولادي في خانيونس نبش الركام وإخراج الكتاب الفلاني لأنّني بحاجته، فتأتي الأجوبة كالصاعقة: "حُرق" هنا تلوح مشارب الندب فأدخلها بانكسار مشدود الألم.

خسرت مكتبتي وشهادات التقدير التي حصلت عليها خلال مسيرتي الأدبيّة، وصور كثيرة لمحطّات وصلتها ولم أنزل من قطار الرحلة بعد.

ومكتبتي كانت تكويني الخاصّ، وكينونتي المنفردة، التي جعلت لي عالمًا خاصًّا أشكّله حسب رغباتي ومقياس زماني، وموازين وجداني، وبها كنت الكاتب والمتلقّي والموعود والواعد، وصاحب نفسي بلا منازع.

(*) يقول الشاعر والباحث الفلسطينيّ الدكتور أحمد برقاوي: "ثلاثة صواعق تفجّر العبقريّة الشعريّة لدى الرجل: المرأة والألم والاعتداد بالذات، ولنهر العبقريّة الشعريّة بعد أن يجري حياة أخرى". ما تعليقك، وماذا عنك؟

حقيقة أنا مع شاعرنا الكبير الدكتور أحمد برقاوي، ويُدخل شاعريّتي موافقًا عليها في صاعقة الألم، التي ولدت على رنة إبرتها بفقدان الوطن، وتفجير أسئلة الوجود الملحّة والمالحة على الجرح المفتوح، وأخذت الشعر على مدارسه المختلفة كرفيق متلوّن في صحبة الدرب الشائك ليهدي بي وأهتدي به إلى مسرح التعبير عن الذات الخاصّة، والذات الوطنيّة، والتنادي على الأمل رغم وحشة الواقع، وخشونة المسار.

نعم الألم كان دافعي للانطلاق أدبيًّا.

(*) بالعودة إلى بداياتك، كيف كان جوّ البيت الذي تفتقده اليوم؟

ليس أجمل من البيت وأصعب المتاعب الطريق إليه إذا كان المدى فوضوي المزاج يشكّله مجرمون، قتلة، يعيقون الوصول إليه بالجثث والدمار والدبابات وتهديد الحياة، وعندما كان البيت متاحًا كان الأمن النفسيّ دافعا قويا لمواصلة الحياة بوضع طبيعي، لمّة العائلة، واحتضان الأطفال، ومتابعة شؤون الأسرة عن قرب لتدبير وتسهيل حياتهم، كلّ هذا كان يبعث السكينة في النفس، ويجعل الكتابة أكثر جمالًا وصفاء.

وكان إلهام الوحي إلى الشعر والكتابة أكثر حيوية وأقل وطأة على اللغة والصور الإبداعية، كما كان مطرح الأحلام، ومنزل الهدوء، ومعتمر الطواف على بشارات الغد، البيت قرار النفس، والروح، واعتماد الرغبات الخضر في مسيرة العمر القادم، فيه تطير الأخبار على تيجان الأولاد بالفوز والنجاح، والنضوج، وفيه ابتسامات الأهل ومدّ ومداد الموائد الطيّبات، وفيه اغماضات الأعين فوق وسائد الريش الأبيض، وعرش الملكات المتخيّلة في حسنهنّ أمام الزمن وفيه، والبيت رياض الأزاهير، ومربع النسائم، وستر المعايب وخجل النفس من تجاوزاتها، ولا شيء أكثر وجعًا من ذكريات البيوت إذا غابت عن الضلوع.

(*) أين ومتى شعرت بالتحوّل الحقيقيّ في تجربتك الشعريّة؟ وهل هناك عوامل محددة دفعتك إلى الشعر؟

في الشام كانت البداية، وأوّل أساتذتي كان نزار قباني، واكبت مراهقتي على عربة أشعاره في صفقة ترضية لتهويمات المستحيل وتقريبه من الممكن، وهنا كانت التجربة خجولة في رسائلي لصاحبات الدراسة والجيرة والمصادفات التي جمعتني بالحسان، فكتبت عن رغباتي كناسك يرمي خيوط صلواته نحو السماء، وكنت أحشو فقدي وحرماني الوطن بمخيال رصين على ضفاف الغصّة، وغالبًا كنت أسمع أم كلثوم لكي أتدرب بلا تدبر على تنشيط المشاعر.

وعن دوافع كتابة الشعر وأكثرها قوّة هو الحرمان من الوطن، والفقد غير المبرّر لأشياء كثيرة حلّت محلّ الضروريّ والطبيعيّ لأيّ إنسان يعيش في وطنه وينشغل بتدبير شؤون حياته، وتحقيق طموحه، وكتعويض عن الوطن كان لا بدّ من حنجرة تمتلئ بأدوات النداء، والتعجب، والأسئلة، ومنها جاء الشعر كطائر يشبه الخيل له سرج والريح وقوده، لكي أعبر من خلاله عن دواخلي، ومن ثمّ هموم شعبي، ووضع مطالبات محقّة بتصحيح مسار تاريخيّ، حرفه وانتهكه المحتلّ لفلسطين.

الشعر مقاومة

(*) متى تولد قصيدتك؟ وهل تتغيّر اللغة لديك بتغيّر هدفك أو مرادك من النصّ الذي تكتبه؟

معجمي يتعرّض لزيادات مع متابعتي للقراءة والاستفادة من تجارب المتقدّمين من الأدباء والكتّاب وأصحاب الفكر، وتوسعة الوعي في مدارج العمر، ومع البحث والربط بين القديم المصطلحيّ المعاش، والجديد المكتشف تتّسع بقعة اللغة تحت الأضواء.

ومحض قصدي في القراءة خلق المصادفات الجميلة ومطاردة غزلان المصلح في بساتين المعرفة، سعيًا لتطوير القصيدة، وحشوها ببهاء اللغة، وتسليحها بموسيقى الحياة.

(*) كيف تصف مزاجك الشعريّ الحاليّ بعيدًا عن غزّة؟ أتلحق به أم تخطّط له؟

فوضوي بقدر الأحداث الدمويّة، وكثيرًا ما أخشى على نفسي وقصيدتي في النزول المتعجّل عن جبل الأمل إلى قيعان اليأس، ولأنّ يقيني أنّ الشعر مقاومة، أتمسّك بلحظة الفرار من السقوط المباغت والتخلّي عن أسلحة المواجهة والعاديّات أملًا، هنا أتوقّف عن الكتابة وأدخل تحت ماء الصبر، والسكون يعيد لي توازني، ورجعة متوازنة للتمسّك بمقبض الثبات، وبث روح التفاؤل، والنصر، وتحقيق الأماني الخاصّة انتصارات.

(*) ما الذي قدّمته أنتَ وأبناء جيلك من إضافة للشعر الفلسطينيّ؟ وما هي ملامح تجربتك الشعريّة في سياقها المحلّيّ والعربيّ؟

الردّ هنا يجيب عليه النقّاد، أو الرفاق، وعن تجربتي المتواضعة في الشعر يحسنني منهج التجريب، والبوح عندما أواجه الجمهور السامع أو القارئ لكي أكتشف صدى كلماتي في أفهامهم، ورعشة أحاسيسهم في عباراتي، وبالفعل التراكميّ أجد نفسي مقبولًا مع الكثير من الأمنيات التي وعدت نفسي الأدبيّة بها ولكن العمر سبقني دون تحقيقها.

من أبناء جيلي هناك من له بصمة واضحة في المشهد الشعريّ والأدبيّ وأعتز بصحبتهم ورفقتهم في درب الكتابة الإبداعيّة، وكان الشاعر أحمد دحبور رحمه الله أوّل من شجعني لمواصلة البناء في أرض الشعر، وهو أوّل من أجاز لي مجموعتي الشعريّة الأولى "هل يكفي الورد" عام 2003، بل قرّر طباعتها ضمن سلسلة الإبداع الأولى في وزارة الثقافة الفلسطينيّة.

ومن رفاق الدرب الأدبيّ الشاعر المتوكل طه، والشاعر الشهيد سليم النفار، ومعهما تابعت الحالة الصحّيّة للقصيدة العربيّة، وتطوّراتها وفق معطيات الواقع، وتحوّلات الحداثة.

(*) ماذا يمكن أن تخبرنا عن نصوصك الجديدة؟ وما هو كتابك القادم؟

نصوصي الجديدة لا تختلف كثيرًا عن سابقاتها، حنجرتها مجروحة وملحها كثير في مواسم الألم، ومع تعمّق النفس بهمومها باتت النصوص إنقاذيّة للتخفيف وليست جماليّة بالمعنى التجريديّ للجمال.

آخر ما قدّمته للطباعة مجموعة شعريّة بعنوان "نارائيل"، وهي مجموعة نصوص مبتكرة تتكلّم بلسان النّار التي تجرأت على الخيمة والطفولة والمرأة والحياة في غزّة بزمن المقتلة الدائرة، وفيها تساؤلات تكشف عن عمق الألم وقيعان القلق في النفس.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.