للاذّقية رمزها الشهير: امرأة عارية جالسة على صخرة. ومن أوابدها بقايا هيكل باخوس، وقوس النصر، وسواهما كثير. وقد تواتر الاهتمام بتاريخها من أبنائها. وكان الرائد لذلك جبرائيل سعادة (1922 ـ 1997)، ومن كتبه "المختصر في تاريخ اللاذقية"، وهاشم عثمان صاحب "تاريخ اللاذقية"، وياسر صاري صاحب "صفحات من تاريخ اللاذقية"، وخالد فتاحي صاحب "موضوعات تاريخية عن اللاذقية"، وسامر خالد صاحب "الجوهرة الذهبية في تاريخ اللاذقية"...

آثار الحقب في لاذقية العرب
لكنّ للمجهول كتابًا مجهولًا هو "آثار الحقب في لاذقية العرب" لصاحبه الياس الصالح (1839 ـ 1885). وقد صدرت طبعة جديدة من الكتاب عام 2013، وكان صاحبه ذو الأصل الفلسطيني قد شرع بتأليفه عام 1873م. وممّا يؤثّل فيه للاذقية ـ وهو كثير وموغل في القدم ـ قدوم المتنبي إليها شابًا، وصِلته بأمرائها التنوخيين. وقد رثى المتنبي أمير اللاذقية التنوخي محمد بن إسحاق بقصيده مطلعها: "إنّي لأعلم واللبيب خبير/ أن الحياة وإن مرحت غرورُ". ومن القصيدة: "خرجوا به ولكلّ باكٍ خلفه/ صعقات موسى يوم دكّ الطُّورُ/ وحفيف أجنحة الملائك حوله/ وعيون أهل اللاذقية صُوْرُ". كما مدح المتنبي الحسين بن إسحاق التنوخي، ومن ذلك قوله: "لك الخير، غير رام من غيرك الغنى/ وغيري بغير اللاذقية لاحقُ". ومن مديحه لعلي بن إبراهيم التنوخي قوله: "أحادٌ أم سداس في أحاد/ ليلتنا المنوطة بالتنادي/ وحام بها الهلاك على أناس/ لهم في اللاذقية بغيُ عاد". لكن اللافت أن إلياس صالح تجاهل زيارة أبي العلاء المعري للاذقية ونزوله في دير الفاروس، الذي جرى تدميره على عهد تيمورلنك، كما يذهب إلياس صالح، بينما يذهب غيره إلى أن الزلزال هو ما دمّر هذا الدير الشهير الذي لا يزال يحمل اسمه أحد أحياء اللاذقية. وقد جرى على الألسن قول المعري: "في اللاذقية فتنة/ ما بين أحمد والمسيح/ هذا بناقوسٍ يدقّ/ وذا بمئذنة يصيح/ كلٌّ يعظّم دينه/ يا ليت شعري ما الصحيح". وفي رواية: "في اللاذقية ضجّة". كما ذكر المعري اللاذقية في "رسالة الغفران" في قصة الكاتب الذي جرحته سكين الأقلام، فتفلَ المتنبي على الجرح فبرئ، "فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون: هو كمحيي الأموات". وذكر المعري أيضًا أن المتنبي استخفى عند رجل في اللاذقية، أو في غيرها من السواحل، ثم أراد الانتقال إلى موضع آخر، فخرج ومعه الرجل ليلًا، ولقيهما كلب، فنبحهما ثم انصرف، فقال المتنبي للرجل وهو عائد: "إنك ستجد ذلك الكلب قد مات". وهذا ما كان. ويذكر إلياس صالح زيارة ابن بطوطة للاذقية، وقوله فيها: "ثم سافرت الى مدينة اللاذقية، وهي مدينة عتيقة على ساحل البحر، يزعمون أنها مدينة الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبًا".

ويشير ابن بطوطة الى دير الفاروس (أو الفاروص)، ويصفه بأنه أعظم دير بالشام ومصر. وعن اللاذقية في زمن الصليبيين الذين استولوا على المدينة ثمانين سنة، يذكر إلياس صالح أن اثنتين وعشرين سفينة فلمنكية قرصانية هاجمتها ونهبتها وقتلت من سكانها، كما هاجمها بعد ذلك القرصان غنيمردي بولون، فاستظهر عليه أهل اللاذقية وأسروه حتى أطلقه ملك القدس الصليبي، فانضمّ بسفائنه ورجاله إلى الصليبيين. وقد استعاد صلاح الدين الأيوبي اللاذقية بلا قتال، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين فحصّنها.

الزلازل والأوبئة
ليس أكثر من الزلازل التي ضربت اللاذقية، وأحدثها ما كان في شهر شباط/ فبراير الماضي. وقد أرّخ إلياس صالح لزلازل كثيرة ومروعة، منها زلزال عام 856 م. الذي هلك فيه بشر كثير، وقيل إنهم بلغوا خمسةً وأربعين ألفًا، كما خُسف الجبل الأقرع وسقط في البحر، فمات أهل اللاذقية من ذلك، وتوالت الزلازل من عام 1157م، إلى عام 1170م، إلى زلزال الساعة الثالثة من نهار الثلاثاء 15 نيسان/ أبريل 1796، في السنة السابعة لجلوس السلطان سليم العثماني على تخت القسطنطينية، حيث سُمعت "أصوات مفزعة كالرّعد القاصف في جوف الأرض، فهدمت أكثر منازل المدينة، وقتل كثيرون تحت الردم، وكثيرون سقط فوقهم الردم فبقوا تحته حتى كشف عنهم وأخرجوا سالمين، ومنهم من كسرت وتعطلت بعض جوارحهم، وأما عدد الذين ماتوا تحت الردم فلم يُضبط مقداره. أما الذين سلموا فهربوا إلى البراري والبساتين، وصنعوا لهم خيامًا ومظلات أقاموا تحتها شهرًا. ونقل صيادو السمك الذين كانوا عند مصب النهر الكبير وقت حدوث الزلزلة أن مياه النهر غارت وقتئذ. وحكى غيرهم أن الأرض في بعض الأماكن كانت تنشقّ وتنفتح كالوديان ثم تنطبق. وبعضهم رأوا السواقي والينابيع نشفت، ثم خرج منها ماء أحمر كالدم. أما معظم الخراب فقد كان في الأماكن الواقعة في وسط المدينة إلى طرفها الغربي، على أن الأماكن التي لم تسقط تزعزعت، واضطر أصحابها إلى هدمها وبنائها مجددًا، فكانت الرزيئة فيها عامة، وأصبحت المدينة وسكانها في أسوأ حال".
يترجم إلياس صالح مما كتب مسيو بوجلاد السائح الفرنسي، الذي زار اللاذقية سنة 1831م، أن مدينة سلوقس ـ اللاذقية ـ قائمة في أرض بركانية "والظاهر أنها تتزلزل بلا انقطاع، حتى أنه يصعب عليها أن تثبت متمكنة، وهي لا تنتهي من الاشتغال في النهوض من سقطة خراباتها. وقد كانت زلزلة سنة 1822 مشؤومة على هذه المدينة بنوع الخصوص، لأن انتفاضها قلب حارات منها برمتها". وبعد خمسين سنة، في نهار 22 مارس/ آذار وقع زلزال آخر، وورد في (التلغراف)، أن ثلث مدينة انطاكية قد تخرّب. وعاد الزلزال إلى اللاذقية في السادس عشر من أبريل/ نيسان من السنة نفسها 1872م، ليلة عيد الفصح الشرقي، في نحو الساعة الرابعة ليلًا، فخرج الناس إلى البراري، ونصبوا الخيام أربعين يومًا، على الرغم من أنه لم يهدم هذه المرة من المدينة إلا جدار واحد.
أما الأوبئة، فيذكر إلياس صالح أن الطاعون قد فتك باللاذقية سنه 1828، وممّن مات به الشيخ محمد المغربي "وكان عند المسلمين بمنزلة وليّ عظيم"، وله حتى اليوم جامع كبير على تلّة حيّ القلعة، وقد ولد في سوس التونسية، ثم حلّ في حلب، فلم تقبل تعاليمه، ومثلها إدلب من بعدها، فجاء الى اللاذقية حيث لاقى قبولًا. وقيل إنه كثيرًا ما أخبر عن أمور قبل حدوثها، فحدثت كما قال، ونقرأ: "فعدّ المسلمون له ذلك من الكرامات، واعتقدوا به الولاية، ورفعوا منزلته إلى الغاية، وصاروا يعتبرون أقواله وأوامره ونواهيه كوحي. ومن جملة تعاليمه أن مال ودم وعرض النصيرية حلال. ومنه نشأ هذا الاعتقاد عند مسلمي اللاذقية". ويضيف إلياس صالح "أنه لما مات المغربي ازدحم المسلمون على تملئة أوعيتهم من غسالته، وجعلوا ينضحون بها أجسادهم تبرّكًا، فأصابت عدوى الطاعون كثيرين منهم وماتوا". أما وباء الهواء الأصفر (الكوليرا) فقد انتشر في سورية عام 1848، وبلغ اللاذقية وأقام فيها ثلاثة أشهر. وفي عام 1865 عاد الوباء نفسه قادمًا من الحجاز عن طريق "القطر المصري"، وعمّ سورية إلى اللاذقية، على الرغم من أن عددًا من الهاربين من مصر كانوا في اللاذقية. وبعد ثمانية أعوام فقط انتشر الهواء الأصفر في حماة بدايةً، ثم في دمشق وانطاكية في شهر أيار/ مايو، وتردد أن امرأة مصابة من قرية الحفة قدمت إلى اللاذقية ففشا فيها الوباء.

النصارى والنصيرية أو الدين والمذهب والطائفة
بلغة زمانه، يؤرخ إلياس صالح للمسيحيين في اللاذقية باسم النصارى، وللعلويين في ريفها باسم النصيرية. ومن ذلك في فترة سيطرة إبراهيم باشا على سورية، أنه ساوى بين عموم الأهالي، ورفع الذل والقيود عن النصارى، وهو ما أزعج المسلمين في اللاذقية، كما يكتب إلياس صالح، فتواصلوا سرًا مع سكان الجبال، وكان أن خلع الطاعة المسلمون ـ أي سكان المدينة ـ والنصيرية ـ أي سكان الريف، وارتاع النصارى جراء ذلك: لكن إبراهيم باشا أرسل العساكر المصرية، ومعهم أمراء من جبل لبنان، ففرّ النصيرية، وغنمت العساكر مواشيهم وغلاّتهم، وأحرقت بعض قراهم. ثم التقى النصيرية بالعساكر، فهزموهم، فأنجد العساكر الأميرُ جهجاه على رأس ألفي مقاتل، وهزم النصيرية، وحرق نحو ثلاثين قرية. وعند نهر السن ـ قرب بانياس حاليًا ـ تجدد القتال، فأرسل الأمير بشير الشهابي نجدة لبنانية للعساكر المصرية، لكنهم هزموا. وعندما استسلم بعض أهالي مقاطعة القرداحة، هاجمهم العساكر، ونقرأ: "فانهزم النصيرية إلى الجبال، فنهب العسكر قراهم وأحرقوها، ثم صعدوا إلى الشعرا، وأحرقوا نحو 50 قرية، ثم رجعت العساكر اللبنانية إلى بلادها".

قبل ذلك، وفي سنة 1744م، يكتب إلياس صالح أن أهالي الجبال النصيرية أعلنوا العصيان على الحكومة، فلم يتمكنوا من بيع محصول التبغ، فعلقوه في سقوف البيوت. وفي الشتاء أوقدوا كالعادة داخل البيوت، فالتصق الدخان بالتبغ، فاسودّ لونه. وفي السنة التالية تصالحت الجبال مع الحكومة ومع المدينة، فاشترى التجار الدخان الأسود بالبخس، وأرسلوه كالعادة إلى دمياط "فوافق طعمه ورائحته مذاق المصريين، وراجت سوقه عندهم، وجدّ طلبه"، فأشار تجار اللاذقية على أهالي الجبال بتدخين التبغ الذي صار يعرف بالجبلي، أو الأبو ريحة.
"في عام 1814، تولى المتسلم اللاذقية، ولبث فيها طويلًا، وتضاعف في أيامه ذلّ النصارى، وقد أمرهم أنّ يلبسوا السواد المحض من العمامة إلى الحذاء، على أنه لم يكن يبلصهم، أو يعذبهم، وكان عادلًا في الحكم"، فكيف اجتمع العدل مع الإلزام باللباس الأسود؟ على أن هذا يظل أهون مما يرويه إلياس صالح من أنه كان يحمى صدر النحاس حتى يصير كالجمر، ثم يجلس عليه النصراني المقصود بلصه وتعذيبه، ويوقع كعبان على صدغيه ويشدان حتى تبرز عيناه، ويُوضع ثدي المرأة تحت طبقة صندوق ويُغلق ثم يقفل عليه، وما شاكل ذلك من العذابات القاسية البربرية التي تقشعرّ لها الأبدان.
شر البلية الذي يضحك ما يرويه إلياس صالح من أن رجلًا من القرداحة دخل إلى (مقتاية) في منطقة المهالبة، وقطف خيارة، فقتله صاحبها، فهاج أهالي ساحل بني علي تضامنًا مع المهالبة، بينما تضامن أهالي جبل بني علي مع القرداحة، ووقعت معارك وسقط قتلى، وكان ذلك سنة 1854. وفي السنة نفسها جمع صقر فاضل مقدم قرية البودي في جبل بني علي مع مشايخ القرداحة نحو ثلاثمئة رجل، ودخلوا اللاذقية ليلًا، وهاجموا دار الحكومة، وكسروا باب السجن وأخرجوا من لهم فيه. وبالطبع، ردت الحكومة بنحو ألفي مقاتل من المدينة وسوارها، لكن المتمردين هزموهم، ثم هُزموا، وهكذا كانت الأمور تسير، ليس من سنة أو عقد إلى سنة أو عقد، بل من قرن إلى قرن، وأختم بما كتب إلياس صالح عن سنة 1874 التي قسا شتاؤها، وقلّ فيها وارد الحبوب من ولاية حلب، فارتفعت الأسعار في اللاذقية.
وبسبب طمع التجار وتصديرهم غلال المدينة، فرغت من القمح، وكثر موت المواشي في الجبال من شدة البرد وقلة المرعى، حتى صار النصيرية يقتاتون النبات، ونزح منهم كثيرون إلى السواحل، ونقرأ: "وكثيرون منهم كانوا يسوقون أولادهم كقطيع الغنم إلى أسواق جبلة (لعدم تمكنهم من أن يبيعوهم في اللاذقية) ويعرضونهم للبيع، وكانت الفتاة تباع بمئتي قرش فنازلًا. ولأجل التخلص من مسؤولية الحكومة كان البيع يتم بموجب حجة شرعية مضمونها أن أبا الفتاة، أو عمها، أو أحد أقاربها، أجرها لمدة ثلاثين سنة بمبلغ كذا وكذا". ولمن يريد أن يستزيد من هذا المجهول ـ أو المعلوم الذي صيّره طيّه مجهولًا ـ من تاريخ اللاذقية، سيجد في "آثار الحقب في لاذقية العرب" زيادة وزيادة.