}

المثقف على ضفاف الطوفان

نبيل سليمان 15 أبريل 2024
استعادات المثقف على ضفاف الطوفان
متظاهرون يحملون لافتة "عولمة الانتفاضة" في مانشستر(15/3/2023/Getty)

تخرج هذه (المقالة) من المفكرة المنسية، مبدلةً عنوانها الذي كان (على هامش الانتفاضة) ومعلنةً نسب الفقرة الأولى إلى عام 2001، والفقرة الثانية إلى عام 2002، كي يصح نسبها المأمول إلى عام 2023 وإلى عام 2024، من زمن طوفان الأقصى.

1 ــ ابحثوا عن هذا السر ــ كوبنهاجن 20/ 11/ 2001
من أجل المساهمة المرجوة للمثقف العربي في الصراع العربي الإسرائيلي، ينبغي ألا نؤخذ بالقول المطلق للمثقف، أو للمثقف العربي، أي إن علينا التدقيق في هذه الشملة العريضة التي تتعنون بالمثقف، لنميز بين مثقف ومثقف. فللاستبداد مثقفه، مثقفوه، وقد يكون واحدهم وزيرًا، أو على رأس جهاز قامع، أو مبدعًا لأيديولوجيا وديماغوجيا النظام. ومثل هذا المثقف ينظّر ويبرر ويرود لنظامه في مجرى الصراع العربي الإسرائيلي، فقد يتغنى بخيار الدولتين، واستراتيجية السلام، وانتفاء خيارِ الحرب، وحتمية الخيار الأميركي العولمي و... وقد يتغنى مثقف النظام بالانتفاضة، وبالكفاح حتى آخر شهيد فلسطيني، ليس من أجل تحرير فلسطين، بل من أجل ديمومة النظام. ولئن كان مثقف النظام يؤدي دوره بامتياز حتى عهد قريب، فالحق أن الانتفاضة قد أربكته وأحرجته، فتراجع داعية التطبيع بقدر ما انتفخت أوداج داعية التحرير.
وتحت الشملة العريضة التي تتعنون بالمثقف، ثمة أيضًا المثقف المنتظر لدور في وليمة الأنظمة، والساعي إلى الوليمة بانتهازية ماكرة، أو ساذجة، مهما اختلفت الأنظمة، ومهما كانت طبيعة الوليمة. ولمثل هذا المثقف فسحة أكبر من سالفه في حفلة الزار من أجل الانتفاضة.
وهذه الفسحة تكبر أمام المثقف الذي يجترّ خطاب المعارضة العربية المتكلس، وأمام المثقف الذي أناخته عقود الهزائم والقمع، ليبقى المثقف النقدي الذي لا يؤخذ بالرطانات الأيديولوجية، أو الديماغوجية، ولا بحفلة الزار، ولا بالثقافة المقاومة الموسمية، ومنها الأدب المقاوم الموسمي.




هذا المثقف النقدي موجود هنا وهناك وهنالك، من قلب فلسطين إلى أية ظلمة عربية، وقد يمضي به الأمر إلى الاستشهاد.
لكن سبيل الاستشهاد، أو سبيل العمل المقاوم المسلّح، أو المدني، ليس السبيل الوحيد للمثقف النقدي، بل لعله أولًا وآخرًا في ما ينتج من الثقافة النقدية. وفي الأدب المقاوم من هذه الثقافة النقدية، دالت معادلات الرصاصة أولًا، أو الكلمة الرصاصة، أو في البدء كانت الكلمة، لتحل محلها إبداعات أخرى، وبالتالي فالأمر أمر إبداعات لا معادلات. وفي الإبداعات المقاومة، ومنها الأدب المقاوم، ومثلما كان من قبل، سيكون من بعد، للقصيدة وللرواية وللوحة وللأغنية وللبحث... ما تقوله للصواريخ، شأنها شأن التعليم تحت الحصار، أو شأن اختراق الحواجز المكهربة للثكنات الإسرائيلية. وبالتأكيد، ليس من قول القصيدة، أو البحث السوسيولوجي في حالة العميل الفلسطيني، أو في حالة جلاد المستبد... ليس من ذلك الشعارية الصارخة الجوفاء، ولا وزن الكلمة بالدم، ولا أن تكون الكلمة أضعف الإيمان في ميدان الجهاد، بل إن تكون الكلمة نقدية، أي مبدعة، شأنها شأن النسيج المعقد للإبداع المقاوم. وليس كل ذلك بالجواب الجامع المانع على سؤال المساهمة الثقافية في الصراع العربي الإسرائيلي، فالجواب ما فتئ ينكتب طوال قرن، وسيظل ينكتب حتى تحرير فلسطين، وأية ظلمة عربية. وبقدر ما تحقق من الجواب أمس واليوم، يبقى للجواب سره المبدع الذي يودعه شهيد لشهيد.

2 ــ نهتك العتمات ونمضي إلى فلسطين ــ اللاذقية 31/ 1/ 2001
لسوء حظ مثقف النظام العربي أنه لم يبق له ما يفعله منذ تمخض جبل القمة العربية في بيروت فولد فأرًا. وشأن هذا المثقف شأن نظامه: حتى العورة هو غير قادر على سترها بورقة توت، بعدما هتك شارون وبوش العورات جميعًا.
في ما مضى، كان هذا المثقف ــ بحسب الفرع الذي يتبع من فروع النظام العتيد ــ ينفخ في بوق المنجزات التي لا تعدّ ولا تحصى، وفي شمائل الحاكم التي تعلو به إلى أعلى علّيين. وكان المثقف إياه يصفع المواطن والمثقف الآخر الذي يتجرأ على الشكوى من فساد، أو قمع، أو تفريط بفلسطين، أو... يصفعه بالتخوين، أو بالتآمر، أو بالغباء، أو... أو أولوية القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني على أي أمر، فشكرًا لشارون وبوش اللذين تفضلا فعرّيا هذا المثقف كما عرّيا سيده ــ أي عبدهما ــ ويا للشماتة.
في المقابل، للمثقف الآخر الذي لم يرتهن يومًا لنظام، كثير مما يفعله، وإن بدا هذا الكثير أقل القليل في هذا الزمن الشاروني العاصف.
من الحق أن النظام العربي قد حاصر هذا المثقف، كما حاصر المواطنين، في الزاوية المعتمة الضيقة المغلّلة. ولكن الشوارع بدأت تمتلئ بالمتظاهرين، فلينخرطْ المثقف غير المرتهن للنظام في أية مظاهرة تهتف لفلسطين، لعله يتعود على صوته العالي المنسي، وعلى أصوات الناس العالية المكبوتة. وليجربْ هذا المثقف أن يغمس قلمه في الحبر الفلسطيني السائل، لعله يخرج من القوقعة التي طال حبسه، أو انزواؤه فيها، ومن الرطانة التي طال اللجوء إليها والتلطي خلفها، ولعل اللغة تستضيء بالنور الفلسطيني. والمثقف، إذًا، في هذه الأيام، يكتب قصيدة، أو مقالة، أو يشرع في رواية، أو مسرحية، أو يرسم لوحة، أو يساهم في ندوة، أو يلقي محاضرة، أو يحدث جيرانه وأسرته عن فلسطين. هكذا، ببساطة، وبجلاء: فلسطين، لأن فلسطين هذه الأيام تعني أكثر من أي يوم مضى، وإلى أن تقوم قيامة التحرير من الشارونات الصهيونية والعربية والعولمية، تعني تبرعًا بعشر ليرات، أي جنيه، أي خمسة دولارات ــ أو تعني عصاة من شرطة مكافحة المظاهرات، أو هتكًا للنهابين والمزاودين، أو إضرابًا عن الطعام من أجل من يرزحون في السجون العربية، أو الإسرائيلية. ليخبطْ، إذًا، من يخبط على جنبيه، ويندب العجز عن أي فعل ثقافي، أو غير ثقافي، في حمأة الانتفاضة. وليمض المثقف الآخر إلى الحدود المغلقة، حتى لو صرعته عليها رصاصة صهيونية، أو رصاصة عربية، فهذه الأيام هي السانحة التي افتقدها طويلًا المثقف الآخر كي يستعيد شرف الفكر والأدب والفن والبحث، شرف الثقافة التي قوامها الحرية والحضارة وسائر القيم الإنسانية النبيلة التي كرستها البشرية عبر التاريخ. ولعل الخطوة المتواضعة الأولى والممكنة من ذلك كله أن تكون بتوافد مثقفين إلى سياج رفح، أو سياج شبعا، أو سياج القنيطرة، أو سياج نهر الأردن، كي يتقدموا بصدورهم العارية، وإبداعاتهم، إلى فلسطين، كما تقدم ساراماغو، وسونيكا، و...

وهذا أوان الشدّ فاشتدي زِيَمْ.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024
آراء
1 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.