في مدينة الشمس مخيمٌ للاجئينَ الفلسطينيينَ يحمل اسم "مخيم الجليل" بعد أن رفض اللاجئونَ إليه اسمَه القديم "مخيم ويفيل" المتعلّق باسم الضابط البريطاني أرشيبالد ويفِيل وثكنتِهِ العسكريّة. وكيف لا يكون مخيمًا للجليل وكل سكّانه، تقريبًا، ممن هُجِّروا من مدنهِم وقراهُم في الجليل؛ من لُوبيا، وصفّورية، والمْجيدل، والفراضيّة، وحطّين، وسَعْسع، وسحْماتا، وشَفاعمرو وغيْرها؟
بأجسادِهم على امتداد الزّمان، يعزف البعلبكيّون لحنَ سهولهم. فوق بؤْرةٍ زاهيةٍ من بلاد الشام أقام الكنعانيّون الفينيقيّون منذُ آلاف السنين مدينة الشمس كي تبقى وَتزدهر. لا رقصَ مثل رقصاتِ الناس في بعلبك... لا مِهرجان مثل مِهرجاناتها.
إنها بعلبك الطازجة مثل حليب الّلبا... المعتّقة مثل كأسِ خمرٍ في يد بعل أو باخوس (أو ديونيسوس، أو باكوس)... بعلبك التي غنّت لها فيروز من أشعار الأخويْن وألحانهما: "بعلبك أنا شمعة على دراجك... وردة على سياجك... أنا نقطة زيت بسراجك... بعلبك يا قصة عز علياني... بالبال حلياني... يا معمّرة بقلوب واغناني... هوْن نِحنا هوْن... لوين بدنا نروح... يا قلب مشبّك بحجارة بعلبك... هالدهر عا سنين العمر... هوْن نحنا هوْن وضوّ القمر مشلوح... على أهلنا الحلوين... عا بيوت غرقانين بالعطر بغمار الزهر... هوْن رح نبقى نسعد ونشقى... نزرع السجرة وحَدّا الغنيّة... وللدِّني نحكي حكاية إلهيّة... وبعلبك بهالدّهر مضْويّة... عا إسم هالسهرات مِسمية... بعلبك أنا شمعة على ادراجِك... وردة على سياجِك... أنا نقطة زيت بسراجِك... بعلبك... ما دام رح تبئي تا تسعدي وتِشئي... ضلك يا حلوة هوْن صوتك رفيق الزهر... صوتك عا مرّ الدهر يتنزّه بهالكوْن... وبتمرقي عا كل سهريّة... عالأرض غنيّة...".
فيروز التي أهدتكِ يا حصّة الشعراء وقبلةَ العاشقين (بضمِّ القاف وكسرِها)، وأهدت عاصي موّالَكِ وموّالَها: "طلّيت عا بعلبك بعد عشرين سني... إسأل إذا شافكَ حدا تي يدلّني... لا تقول مَنَّك هوْن بعده عالدّراج خْيالَك... وبعدا طايرة فيك الدِّنِي... لوَّح منديلِك لوّح... لوّح مشتاء... تفاح خدودك لوّح صار بدّه دْوُاء... لمّا عا بعلبك جينا جينا والخيل... الخيل البيضا تْحيينا من ميْل لميْل...".
الليطاني غربها يعزّز في أعماقها روح الإِباء... النهر الصّامد في مكانه ظهرًا للمقاومين... الجاري نحوَ مستقبل الأرْزيين... يلقي عليها في كل يومٍ السلام مانحًا قلبَها مفتاح المحبّة وقبسًا من صيحة الحسين "هيهات منّا الذلّة"... البقاع حضنها يُدندن في عروقها أغاني الأرض والإنسان... يُحيطها الوادي فتُنادي على شادي قَبْلَ الضياعِ في النّسيان...
شمال شرقِها بيروت الفينيقية الكنعانية (بيريت) صفيّة أدونيس... غنيّة الآبار... باذخةُ الصّنوْبر... لِجوبيتَر في رحابها نصيب... يلمّ حولَها بركاتِ الريح... يتسيّد آلهة الرومان... يقبضُ على كلِّ عُقابٍ ضال... يضطجعُ تحتَ سنديانةِ الأُمنيات... يمنحها بعد البرق الرّعد فيزهرُ الوردُ في ربوعها لِيتبادلُ العشّاق الأرجوانيّ مِنه...
تاريخٌ عريق
هي منبعُ النّهريْن العاصي والليطاني... يعود تاريخها إلى أكثرِ من خمسة آلاف عام عندما كانت موطن الإله (إل، أو أيل) وهو أبو الآلهة عند الكنعانيين الفينيقيين... وكما هي حال عدد غير قليل من بلاد الهلال الخصيب ومدنهِ من العراق إلى كل حواضر بلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين والأردن)، فقد ارتبطت بعلبك ردحًا من الزمن بِـ"بعل هَدَد" أو "أَدَد" الذي انتشرت عبادته بين شعوب المنطقة من شمالها إلى ساحلها مرورًا بدمشق وحتى بلاد الرافدين.
وقد كان هدد إلهًا للعواصف والأمطار (الطقس) إذ تذكر الأساطير القديمة أنه كان يتجوّل على متن عربته في السماء ويجلدُ الغَمام بالسّوط لتتساقطَ منها الأمطار بينما كان ثورُه يزمجرُ مسببًا صوت الرعد الذي يهزّ أركان الدنيا. ومن آلهتِها، إلى ذلك، "عزيز" أحد الآلهة الشمسية. وقبل أن تنغمس بَعْلَبَكُّ في الحضارة الرومانية، وتصبح حاضرة كبرى من حواضر روما، وتزخر نواحيها بالمعابد والساحات والمدرجات والأعمدة، وتصبحُ معتقداتها الدينية/ الأسطورية مرتبطة بِآلهة مثل جوبيتر وفينوس وباخوس، فإن المدينة كانت حاضرةً من حواضر الكنعانيين في نسختيْهم الفنيقية والأوغاريتية، وكانت موْئلًا من موائل الإله أتْرعتا على سبيل المثال، إله الخصب عند الأنباط بحسب تمثالٍ له اُكتشف في خربة التنّور، وما الأنباط في نهاية المطاف إلا تمثلًا آخر من تمثلات الحضارة الكنعانية التي امتدت في الزمان والمكان.
حتى اسمك يا بعلبك فإن لِبعل فيه نصيب... وأمّا تلُّكِ فهو ضاربٌ في التاريخ القديم... ناهضٌ من أحلام اللبنانيين أجمعين... كنت في عين الإسكندر الأكبر وقادته الذين جاءوا من بعده... ومخالفًا لِبلينوس الأكبر، رآكِ بطليموس تستحقين أن تكوني واحدة من حلف المدن الرومانية العشرة... حتى أن سجلات القرن السادس الميلادي التي وثّقها جون مالالاس الأنطاكي، أدرجتكِ ضمن عجائب الدنيا في ذلك الزمان... أبو عبيدة عامر بن الجراح ناله من خيرك نصيب، وهو، لو تذكرين، كاتب عهد الأمان لك ولفرسانكِ ورومكِ وعربكِ... في عهد الأمويين كانت بعلبك حصنًا ومعقلًا... وفي عهد العباسيين دانت كما كلُّ الحواضرِ حوْلها لإمارةِ عَبدُ الله بن عَلِيُّ بن عَبدِ الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلِب الهاشِميُّ القُرشيّ... وعانت كما عانت باقي الحواضر من صراع الدويْلات (الدُّول الطولونية، الإخشيديّة، الحمدانية، المملوكية وغيرها وغيرها)... أولى إماراتها الوطنية كانت "إمارة آل حرفوش" التي امتدت من 1480 وحتى 1866... وهي عائلة تعود أصولها إلى الخُزاعيين العراقيين...
عُرف عنهم "البأسُ والفروسيّة" كما يورد السيد محسن الأمين في أعيانِه... حول الوجه الشيعيّ لِمدينة بعلبك يرى الباحث الكنديّ ستيفان وينتر، الأستاذ المشارك في قسم التاريخ في جامعة الكيبيك المونترياليّة، أنه وجهٌ متجذّر وأن حضورَهم ضاربٌ في تاريخ المدينة... يقول وينتر في هذا السياق: "إن التاريخ بصفة عامة، وتاريخ لبنان بصفة خاصة، لا يمكن حجبَهُ أو تعديلهُ أو تبديلهُ إلى الأبد، فلا بد أن يسطعَ نورُ الحقيقةِ يومًا".
بعيدةٌ كنتِ يا بعلبك عن الفتن ما ظهر منها وما بطن... إذ لعب الحرافشة الذين تولّوا أمركِ قرونًا طوالًا دورًا نبيهًا في إبعادكِ عنها، وتجنيبكِ شرورَها... فيا لأيام المير (أي الأمير) علي... والمير يونس... والمير حسين... والمير قاسم بن حيدر... وطبعًا الأمير خنجر بن ملحم الحرفوش البعلبكي الخزاعي.
ولمن يسأل من أين أتى الحرافشة بمنهج العيش المشترك وأدبيّات التسامح في لبنان على وجه العموم، وفي بعلبك على وجه الخصوص، فعليه أن يعود إلى سيرة الإمام الحافظ إمام بيروت وسائر الشَّام والمغرب والأندلُس أبو عمرو عبدُ الرحمٰن بن عمرو بن يُحمد الأوزاعي (707-774)، ابن مدينة الشمس، حامي أهل جبل لبنان من بطش أبي جعفر المنصور.
آثاركِ يا زهرة البقاع تدلُّ عليكِ... صخوركِ مجازيةُ المعنى في صلابةِ أبنائكِ... فُخّارُكِ فَخَارُكِ... أثارُك أشعلت الحنين داخل خلجاتِ ابنكِ شاعر القُطريْن خليل مطران (1872-1949) الذي ظلّ، حتى مرتقى الأنفاس، يتنقّل بين مصر ولبنان، فأنشد متنسّكًا إليكِ يقول: "إيهِ آثارَ "بَعْلَبَكَّ" سلامٌ... بَعْدَ طولِ النَّوى وَبُعدِ المَزارِ".
جغرافيا مدهشة
إلى الشمال من سهل البقاع... وبِما يحضن طريق خط القطار الحجازيّ العثمانيّ... وبِما يحيطُها من شرقها ومن غربها من سلسلةِ جبالٍ عاتيةُ التّضاريس... تتربّع بعلبك فوق مساحة شموخ لا تخفى على العَيان... هي على الطريق بين دمشق... وثمة عائلات على جانبي الحدود بين البقاع وبين سورية تربطهم روابط قربى ومُصاهرة... وثمّة معبر هناك يربط بين مدينة حمص السورية (خصوصًا مدينة القصير) وقرى القاع اللبنانية التابعة لناحيةِ بعلبك، وهذا المعبر يحمل اسم "معبر جوسية"، وهو معبرٌ حيوي تجاريًا واجتماعيًا، ولأهميتِهِ عناوينُ أخرى... حديثًا، وتحديدًا في عام 2022، اُفتتح بين حمص وبعلبك الهرمل معبرٌ جديد هو "معبر مطربا" الذي أدّى إلى زيادة الحركة التجارية والسياحية بين سورية ولبنان. طبعًا لا يخلو الأمر من معابرَ خارج القانون، ومن أحب أن يستزيد حوْلها فعليه بمشاهدة مسلسل "الهيبة" بأجزائه الخمس.
جغرافيا مدهشةٌ ليست بعيدةً عنها فلسطين... قريبةٌ من سورية... جبل الشيخ الذي يمكن رؤيته من الأردن قريب منها قرب القلب من نبضِه... يربضُ هناك جنوب شرقِها إذ يمكن أن يصله البعلبكيّ مرورًا من وادي التيْم الطويل الخصيب الذي يصل إلى سفوح الجبل الغربية... ممتدًّا من "راشيا الوادي" البقاعيّة إلى ضيعة "مرج الزهور" النبطيّة وحتى "حاصبيا" و"كوكبا" النبطيّتيْن أيضًا. ولأننا ذكرنا "وادي التيْم" فلا بد أن نعرّج على قامةٍ من قاماتهِ الأمير فخر الدين المعني الذي غنّت له فيروز "يا قمر مشْغرة يا بدر وادي التيْم"، وللأمير أدوار نبيلة وأيادٍ بيضاء في حقن دماء الوادي، وإعمارِهِ وتوشيحِهِ بروحٍ وطنيةٍ جامِعة.
بعلبك يا يُنْبوع "رأس العين" جنوب شرق قلعتكِ الرّاسخة... يا دُغل الغابة حيث الذئب الذي لا يخشاه الفدائيون... حيث زهر البيلسان يغري شاعرًا يتقن قهوتكِ وخمركِ وارتداء عباءة تاريخكِ المعتّق أن يؤكد وينفي في اللحظة نفسها قصة أغنية شجية من طراز "وحدن" بصوت فيروز الطالع من غرف السماء... حيث انتظار الثلج مثل صراخ الوحشة وحِداء الوقت... وحيث طلال حيدر ما يزال يتغنّى بشجركِ العالي... حيث أنتِ، بالعبقِ الذي تتنفّسينه، والأَوابِد التي تحْتضنيها، مهرجان لا ينتهي... منذ أبدع صبري الشريف بإخراجِ أوّل ظهورٍ لِفيروز فوق عتبات مهرجانكِ السنويّ... وصولًا إلى وقوف كل قامات الفن العربيّ والعالمي، تقريبًا، فوق مسرحكِ المحمّل عنفوانَ أبنائكِ الجبّارين... تُتقنينَ خلال أيام المهرجان إضاءةَ قناديل مجدِك... خَلْطَ الكرمةِ مع مشمش الأسبوعِ القصير كي تترُكي المُشتاق يعود من جديد... كي لا يتشاوفَ العنبُ على زهر اللوز... ولا يستأثرُ الكرزُ بالصيتِ ظالمًا تفّاح الحقول... ففي بعلبك الهرمل حقلٌ يمتدُّ ولا ينتهي... قمحٌ يستعيد أيام الأساطير... أما التّبغ والقنّب الهنديّ فلأنّ المزاج هناك عالٍ، والتوت لا يموت... والدّراق يشعِّلُ الأشواق... وطالما أتينا على (طاري) القمح البقاعيّ (بنوعيْه القاسي للحلويّات والبُرغل، والطريّ للخُبز) فلا بد من الإشارة إلى أنه ما يزال ينتظر إنصافًا رسميًّا، ويأملُ حكمةً إدارية، فهو قمحٌ وفيرٌ منذُ مجدِ الكنعانيين... ويتساءلُ المتابعُ في هذا السياق باستغرابٍ: كيف تعجز وزارة زراعةٍ يتوالى عليها وزراء ينتمون للمكوّن المجتمعيّ الأكبر في الهرمل عن ابتكار حلول ناجعةً لِحاضنتهِم وَأهل بيتهِم؟! وعلى سيرة الحاضنة، ولكي أنهي مقالي من حيث ابتدأتُه، فإن العدو الصهيوني، ومنذ انتقاله للعدوان على لبنان بعد عام من عدوانه على قطاع غزّة، يستهدف أكثر ما يستهدف الحاضنة الشعبية للمقاومة اللبنانية، جاهلًا، كعادتِه، حجمَ مناعتِها، ضاربًا عِرض الحائط بكل الأعراف الدولية والقِيَم الأخلاقية... ومن كل هذا وذاك كان لبعلبك نصيب... إنه النصيب الذي واجهته وتواجهه هليوبوليس في كلِّ مرّة تعربد على شعبها فيها مقاتلاتُ العدو الجويّة الخسيسة المتوارية خلف غيمِ السماء...
بعاداتِها البدوّية... بسهلِها... بجرودِها... بما يقولون إنه (نَبْتٌ مزاجيٌّ) يملأ أراضيها... بشعرائِها... بفتوّاتِها... بشيوخِ ضياعِها... بمعابِدها... بأوابدِها... بقهوتِها العربيّة... بقصبِ النّاي في حشرجاتِ رُعاتِها... تتجلّى بَعْلَبَكُّ بوصفها بعضَ تغنّي صباح بِها: "قعلة كبيرة وألبا كبير وبيساع الدنيي كِلّا... اشتأنا عليك كتير كتير وحلّا نرجعلك حلّا..." إلى أن تغنّي من كلمات موريس عواد وألحان وليد غليمة: "سافرنا وابْرمنا الكوْن... ورُحنا وجِينا وبعدِك هوْن... ويا اللي اتعدّوا عا دارِك... اتحطم ألْبُن ع حجارِك... وانتِ تشعّي فوْء الناس... وأرضِك حارِسها الله".