لا أدري لمَ حين أتحدّث مع صديق، أو صديقة، عن الطبخ والأطباق والبهارات تنزلق بي مخيلتي دومًا إلى صورة مطبخ الكتابة، مقارنًا بين مهارة الطباخ وأسلوب الكاتب الشخصي. أتصوّر دومًا أن للكلمات والعبارات والنصوص مذاقًا ونكهة خاصة، نتحسس فيها بلسان مخيلتنا تلاوين وذبذبات مداراتها. كما لا أدري لماذا أتخيّل دومًا أن الكاتب الجيد المبهر لا بد أن يكون طباخًا مُجيدًا للطّهو، أو على الأقل ذواقًا. ثمة وصفات للأطباق يمكن لأي واحد أن "يتأولها" على مزاجه، بيد أن ليس ثمة وصفات للتفلسف، أو للترجمة، أو للكتابة الروائية والشعرية، بالرغم من أن ورشات التدريب على الكتابة (كما على التشكيل) انتشرت كثيرًا في العقود الأخيرة.
ملذات سُفْرة الكتابة
من قراءتي الأولى لـ"ألف ليلة وليلة" في يفاعتي، ما زلت أتذكر عبارات من قبيل "نزول السفرة (أو السماط) المليئة بما لذ وطاب من الأطعمة"، وتوالي الأطباق التي كانت تسيل لعابي، أنا الذي لم يكن الطعام في بيته في الغالب سوى أطباق بسيطة يشحّ فيها اللحم إلا في أيام الأعياد. كنت أتابع بنهم قراءة الحكايات لأنها أيضًا كانت تملأ خيال بطني بألذ وأندر ما يمكن أن يشبع فضولي الغذائي. كنت ألتهم تلك اللحظات بحيث أن ما علق بذاكرتي هو أن "ألف ليلة وليلة" هي حكايات شهوات البطن والفرج. والحقيقة أن إعادة قراءتي لليالي جعلتني أكتشف أن شهوة الطعام كانت تسبق أحيانًا شهوة الجماع (الليلة 17، مثلًا). بل إن هذا التواشج بين شهوة البطن وشهوة الفرج يكون محلًا للاختبار في حكاية "عزيز وعزيزة"، إذ إن ابنة دليلة مثلًا (الليلة 112) لكي تقدّر منزلة حبها في قلبه، تضع له الأطعمة في البستان، وتراقبه خلسة لتقف على أيّهما يشغل كيانه: معدته أمْ قلبه: "فلما وصلتُ الى ذلك المكان واطمأنت نفسي بالوصال، اشتهت نفسي الأكل فتقدمت الى السفرة وكشفت الغطاء، فوجدت في وسطها طبقًا من الصيني وفيه أربع دجاجات محمرة ومتبّلة بالبهارات، وحول ذلك الطبق أربع زبادي، واحدة حلوى، والأخرى حب رمان، والثالثة بتلاوة، والرابعة قطائف". وهكذا لا يمكن إلا أن نلاحظ في هذا النص المؤسس أن الأطعمة بتفاصيلها كانت تعبر عن شغف عالم المترفين بتلاوينها ونكهها، مقابل عالم الندرة والفقر. وهو ما لا يبدو غريبًا، فالعصر العباسي كان عصر الاهتمام بالمأكولات والمشروبات، إذ إننا نجد صدى لهذا الترف في كتابات ابن النديم، والمسعودي، وبالأخص لدى البغدادي: "كتاب الطبيخ ومعجم المآكل الدمشقية". ولم يكن لمحقق هذه الرائعة إلا أن ينصاع للرغبة في التذوق الحسي لتلك الأطعمة، بعد أن تذوقها لغةً ووصفًا، إذ يقول: "جربت بعض الأطعمة التي وصفها الكتاب فوجدتها نفيسة جدًا، وإني لا أستبعد عودة كثير من هذه الألوان المهجورة إلى مطابخنا ومطاعمنا فنتذوقها كما تذوقها أجدادنا المترَفون" (ص 10).
هذا التواشج بين الشهوات نجد له أيضًا أصلًا في كتاب المأدبة (أو الوليمة)، الذي يصوغ فيه أفلاطون تصوره الفلسفي للحب والإيروس والفضيلة، في حواريات حكائية يبلور فيها تصوره لأصل الذكر والأنثى في الأندروجين (الكائن الوحّاد). والمأدبة هنا تأتي فضاء للقاء بعد الحرب. وليس من الغريب في السياق نفسه أن يربط الدين بين شهوات البطن والفرج بالأخص في حال الصيام، بالرغم من أن عالم الثقافة دأب على الفصل بين شهوات البطن وشهوات الفكر والخيال.
يرتبط الطعام بالضيافة كما بحلول الغريب. والضيافة كما الغريب هما المجاز الأكثر تعبيرًا اليوم عن الترجمة باعتبارها ضيافة. كما يرتبط، من ضمن الأبعاد الاجتماعية الكثيرة التي تسمه، بالهوية. فإذا كان هيغل يرمز لألمانيا وللفكر الألماني فإن الكسكس يرمز للمغرب الكبير. وليس من الغريب أن حرب الأطعمة تغدو أحيانًا أشد ضراوة من الحرب الفعلية، كما وقع بين مغاربة المغرب، ومغاربة الجزائر، حول الأحقية في التباهي بهذه الأكلة التي صارت اليوم عالمية!
ثمة تواشج آخر بين الثقافة (الكتابة) والزراعة تحتفظ لنا به ذاكرة اللغة، يمكن اعتباره أُسًّا لعلاقة الكتابة بالطبيخ. يُقال بأن المرأة في العصور البدائية هي التي اكتشفت الزراعة، فصارت بذلك في المتخيل الجماعي المجاز الأمثل للأرض. والكتابة في طابعها الأنثوي هذا مرتبطة بالحرث، ولو أن المتخيل الذكوري سطا على الأمر فحول فحولته إلى عملية حرث. في اللغة العربية، يُعبَّر عن مفهوم الثقافة بمفهوم الأدب. والأصل في ذلك أن "الكريم إذا أدَب" فذلك يعني في العربية أن يدعو الناس إلى مأدبة، وإذا أدُب فذلك يعني أنه ظريف وأديب ومتصف بمحاسن الأخلاق. وإذا كانت اللغة العربية تقربنا هنا أكثر من علاقة الأدب (الثقافة) بالطبيخ والأكل، فإن اللغات اللاتينية تحتفظ بهذه العلاقة الأصلية الحميمة بين الزراعة (agriculture) والثقافة (culture). أليست الثقافة بهذا المعنى حصاد الفكر والكتابة والعلم والأدب؟
مطبخ الكتابة... مطبخ الفكر
كلود ليفي ستراوس : "لا يكفي أن يكون طعام ما طيّبَ المأكل، بل عليه أن يكون قبل ذلك قابلًا للتفكير والفكر" |
عُرف عن كتاب كثيرين، من قبيل بلزاك، وألكسندر دوما، ولعهم بفنون الأكل، بحيث أن كثيرًا من رواياتهم تتضمن وصفًا دقيقًا للأطعمة يمتد على صفحات طويلة. وهذا الاهتمام كان يقدم للقراء لحظات يتلاقى فيها الذوق بالرفاهية، بالتقاليد الغذائية. إنها أشبه بالأنشودات الملحمية الكلاسيكية التي تؤجج الرغبة وتمتّع العين برهافة اللغة ودقتها وتلاوينها. بل إن بلزاك يسير بعيدًا حين يرى أن الجنس البشري يمتح معينه الفلسفي من الطبيخ. فالأهم لديه ليس إعداد الطعام، وإنما الطريقة التي بها يُعد، مثلما رأى إدمون روستان أن طريقة الإعداد، أو الوصفة، تتحول أحيانًا إلى قصيدٍ.
لكن كيف يعنّ لكاتبة معاصرة كتبت الرواية والمسرح، ومارست الإخراج السينمائي، هي مارغريت دوراس، أن تنهي حياتها بكتاب عن الطبيخ؟ أتذكر أني عندما حططت الرحال في باريس للدراسة في السوربون، كان اكتشاف مارغريت دوراس أشبه باكتشاف إكسير الحياة. وكانت رواية "سدّ ضد المحيط الأطلسي"، ثم "العاشق"، بداية الولع بطريقة وأسلوب حكيها، المقتضب والإيقاعي، المليء بالتكرار الممتع. كان هذا الأسلوب المكثف يحيلني إلى طريقة هايدغر المقتضبة في الحسم في قضايا الميتافيزيقا والوجود. لقد تركت لنا مارغريت دوراس، في منتهى حياتها، كتابًا يعبر عن شغفها بالطبيخ بعنوان "مطبخ مارغوريت". وهو عبارة عن وصفات تتخللها بعض المحاورات الإذاعية. فالكاتبة، بقدر ما كانت تعشق السينما والمسرح والرواية وتتقن فن حياكتها، كانت تتقن فنون الطبيخ وتبدع فيها. يكفينا تصفح الكتاب لندرك أن أسرار الطبيخ تضاهي أسرار الكتابة، وأن نكهة النص لا يمكن بناؤها إلا بالعمل التأليفي الماهر على مزائج البهارات والخضر واللحوم. هنا بالضبط نعثر على التقابل المرآوي بين فن بناء النص وفن تشكيل الطبق.
بيد أن هذا التقابل باعث على الفكر والتفكير. فبقدر ما تحكي الأطباق علاقة حسية بالعالم تتحول إلى ذبذبات فكرية، بقدر ما يكون المطبخ مجازا لعملية تكوُّن النص الفكري والأدبي. فنحن نتذوق المأكولات بلساننا، أي بعضونا الذوقي كما باللغة التي نعبر بها عن تلاوين المذاق. ونحن نفكر في العالم بلساننا، أي بلغتنا. اللسان هنا حسي ومعنوي في الآن نفسه. وحين تستبطن اللغة مذاقات العالم تغدو فكرًا وكتابة. ألم يكن الانتقال، حسب كلود ليفي ستراوس، من النيّء إلى المطبوخ، البوابة الشاسعة للانتقال من الطبيعة إلى الثقافة؟
يقول ليفي ستراوس: "لا يكفي أن يكون طعام ما طيّب المأكل، بل عليه أن يكون قبل ذلك قابلًا للتفكير والفكر". فنحن نفكر في أطباقنا سواء كنا طهوناها بأنفسنا، أو طهاها غيرنا، مقدار ما نفكر في معادلة رياضية، أو إحراج فلسفي، أو كتابة نص. بل تقريبًا بالطريقة نفسها: بم نبدأ، وبم ننتهي؟ كيف نمزج الخلائط (الأفكار) ومتى؟ إنها عملية حسية مادية مقابلة لحال تغدو فيها الكلمات شبيهة بالعناصر. لذلك غالبًا ما يكون مظهر النص مقابلًا لمظهر الطبق، ولذته نظيرًا للذته. وقد أدرك ذلك رولان بارت بعمق في نصه الشهير: لذة النص. القارئ هنا يكون نظيرًا للآكل الذواق، فهو الذي يمنح للأكلة طابعها الشهواني. وللأسف ليس لنا في العالم العربي نقد ذِواقي، لأننا ما زلنا نرى في الطبيخ أمرًا مخصوصًا بالبيوت وبالنساء، وفي المطبخ شأنًا بيتيًا أنثويًا لا عموميًا. الناقد الذواقي دقيق وصارم، ولا يتحدث عن هوى، ولا يحابي صديقه الطباخ، وتقويمه عبارة عن تقدير صارم وبلا هوادة. ولو كان لنا مثل هذا الضرب من النقد، لكان ربما سببًا في ردع هذا العدد الهائل من النقاد الأدبيين، الذي يجاوز بكثير عدد كتاب الرواية والشعر لدينا.
كما أدرك سيرج داني، الناقد السينمائي الفرنسي المميز والمبدع، أهمية مقولة ليفي ستراوس، وثنائيته تلك، فطبقها على السينما الفرنسية في بداية الثمانينيات. وهكذا اعتبر أن الفيلم الوثائقي مقابل للنيء والفيلم التخييلي (الروائي) مقابل للمطبوخ. وقد استعاد هذا التمييز في أحد حواراته قائلا: "لست مندهشا بأن الحرب لا زالت مستمرة بين النيّء والمطبوخ. إنها حرب مطبخية بين أساليب المخرجين".
هكذا يبدو أن ما ننساه ونتناساه، أو نحقره ونعتبره أمرًا يظل سجين المطبخ (مملكة المرأة بامتياز في المتخيل الاجتماعي العربي)، يخترق عموديا وأفقيا مسالك الثقافة والكتابة والفكر. وهو بذلك يمحو المتعارضات التقليدية بين موطن الفكر والخيال (الرأس) وموطن الشهوات (البطن وما تحت البطن) ليحول الإنسان إلى كائن متجانس يفكر بيديه وبحسه الذوقي ويحوّل الكتابة والفكر إلى مجاز كبير للجسد الذي يعشق نكهة الحياة...