}

تحت أنقاض بومبي الإيطالية: كنزٌ تاريخي لا ينضب

سمير رمان سمير رمان 29 أبريل 2024
آثار تحت أنقاض بومبي الإيطالية: كنزٌ تاريخي لا ينضب
أجساد متحجرة في بستان فاكهة في بومبي (Getty)

كشف منقبو الآثار في موقع بومبي عن اكتشافات جديدة مثيرة في تاريخ المدينة التي دمرها بركان فيزوف الشهير زمن الطاغية الروماني نيرون عام 79 بعد الميلاد. وسيكون في مقدور الجمهور هذه المرة رؤية ما يسمى بـ"الغرفة المظلمة" المكتشفة في واحدٍ من أكثر بيوتات المدينة المنكوبة ثراءً. اليوم، يقول الباحثون إنّ اللوحات الجدارية المكتشفة تحت الرماد، وتحت صهارة البركان، هي الاكتشاف الرئيس للجيل الحالي من منقبي الآثار في موقع بومبي، إذ تغطي لوحات جدارية رائعة جدران الغرفة المظلمة، ويحكي جلّ اللوحات بعضًا من تاريخ حروب طروادة.
"الغرفة السوداء": عبارة عن غرفة أبعادها 15 مترًا طولًا، و6 أمتار عرضًا، تشكّل جزءًا من مبانٍ سبق واكتشفت من قبل في حفرياتٍ استمرت قرابة السنة في منطقةٍ من المدينة التاريخية يطلق عليها المنطقة التاسعة. والمنطقة التاسعة هذه عبارة عن حي مؤلف من أبنية فخمة مخصصة للسكن، ويضمّ محال تجارية كانت عامرة بالبضائع يومًا ما. أمّا المنزل نفسه، حيث الغرفة المظلمة، فكان يؤدي الغرضين معًا: نحن أمام مخبزٍ كبير ومحلّ غسيل للملابس يشغلان قرابة ثلث مساحة المنزل. يشير حجم المساحة إلى أنّهما لم يكونا مخصصين لخدمة قاطني المنزل وحدهم. أمّا بقية المساحة فهي جزءٌ خاصّ يحتوي عددًا من غرف السكن وحديقة. على الأرجح، كانت الغرفة السوداء نفسها صالةً للحفلات والمناسبات التي كانت تقام ليلًا. يستدلّ على ذلك من بقايا سخام مشاعل الإنارة التي لا تزال حتى وقت اكتشاف الغرفة عالقةً على جدرانها التي تحولت إلى اللون الأسود. من ناحية أُخرى، تمكن علماء الآثار أيضًا من تحديد هوية مالك المنزل المدعو (Aulus Rustius Verus)، فالأحرف الأولى من اسمه (ARV) منقوشة في أماكن عدةٍ من المنزل، ووجدت بكثافة في أحياء بومبي المكتشفة، مما يشير إلى أنّه كان سياسيًا مرموقًا.

مدينة بومبي كما تظهر تحت قمة بركان فيزوف (Getty)


في 24 أغسطس/ آب عام 79 للميلاد، دمّرت حمم بركان فيزوف، والغبار الذي أطلقه، المدينة، ولكنّ الحفريات في موقع المدينة المنكوبة لم تبدأ إلا في القرن السادس عشر، حيث بدأت في عام 1760 حفريات بالطريقة المكشوفة، ما سمح بتحديد إطار المدينة، والحفاظ عليه. في أواخر عهد نابليون بونابرت (الذي كان قد احتل إيطاليا)، بلغت حفريات التنقيب في بومبي ذروتها، فتكدست المكتشفات لدرجة أصبح من الممكن بفضل تلك المواد المتراكمة وضع تصورٌ واضح عن "أسلوب حياة بومبي": لقد أعطتنا مدينتا بومبي وهيركولانيوم المجاورة لها، من خلال الرسومات، التي اكتشفها المنقبون، والمعززة باللون الأرجواني والذهبي، ما نطلق عليه اليوم "الطراز الروماني". وحتى اليوم، لا تتوقف الحفريات، فما زالت أمام علماء الآثار مناطق كاملة في المدن التي دمرها بركان فيزوف تنتظر الوقت المناسب لكشف أسرارها.
سادت الأوساط المهتمة بالتاريخ والآثار ضجّة كبيرة عقب اكتشافٍ مثير في المنطقة الخامسة من بومبي في عام 2018. كان الاكتشاف عبارةً عن لوحة جدارية مثيرة للدهشة، تمثّل لقاء ليدا وكبير آلهة الإغريق زيوس. ولكنّ الاكتشاف الأخير كان اكتشافًا مثيرًا للدهشة أكثر من اكتشاف لوحة ليدا وزيوس، لأنّ لوحات "الغرفة السوداء" الجدارية كانت هذه المرّة سليمةً بدرجةٍ كبيرة ومثيرةً للاهتمام أكثر من لوحة ليدا وزيوس. في الخلفية الضبابية فوق أرضية من الفسيفساء البيضاء، تطفو أشكال لطيفة لأبطال ملحمة هوميروس، رسمت بأقلامٍ ملونة طرية. حتى الآن، تمّ الكشف عن ثلاث لوحاتٍ تمثل مراحل مهمة في تاريخ الأسطورة الإغريقية في فترة حروب طروادة: الأولى، اللقاء الذي جمع بين ليدا وكبير آلهة الإغريق زيوس الذي تمثّل لها على هيئة بجعة، وكان نتيجة العلاقة ولادة الفتاة الجميلة هيلين. الثانية، محاولة الإله أبولو إغواء كاساندرا، في محاولة للانتقام من رفضها له. تحلّ لعنة الإله على العرافة، حيث توقف الناس عن تصديق تنبؤاتها، ومنهم شقيقها باريس، المعروف أيضًا باسم ألكسندر، مما أدّى في النهاية إلى اندلاع حروب طروادة. الثالثة، لقاء باريس ابن ملك طروادة بالجميلة هيلين، زوجة ملك أسبارطة أغاممنون. من حيث الأسلوب، تنتمي هذه اللوحات إلى ما يسمى المرحلة الثالثة من الرسم الروماني، والتي تعود إلى الفترة الممتدة من عام 20 قبل الميلاد إلى عام 60 بعد الميلاد. كانت السمة المميزة لهذا الأسلوب الزخرفي هي سيادة الوهم والتقليد المعماري والتفاصيل الزخرفية. أعمدة مظلّلة، وشمعداناتٍ مضيئة مرسومة جميعها على جدران مسطحة. ومع ذلك، وفي غالب الأحيان، تتعامل هذه اللوحات الجدارية مع الخداع البصري: فبعض "اللوحات غير الكبيرة" قد دمجت عمدًا وبفظاظة مع "هندسة البناء المعمارية". بهذا المعنى، تعد "الغرفة السوداء" لغزًا في حدّ ذاتها: إنّها صندوق سحريّ لا يستطيع فتحه سوى قلّة مختارة.




لم تكن "الغرفة السوداء" الاكتشاف الوحيد في مواسم الحفريات الأخيرة في بومبي. فقد طرح منزل أولوس روستيوس فيرا المكتشف في بومبي على العلماء مزيدًا من الأسئلة. فإذا ما حكمنا من خلال كتل البلاط المكدّسة بعناية إلى جانب الموقع، ففي الإمكان القول إنّ المبنى كان وقت انفجار بركان فيزوف قيد الإصلاح. صحيح أنّ بعض الجدران قد نجت من الكارثة، لكنّ غطاء المصباح المطلي في إحدى الغرف قد تحطم. يقوم العلماء اليوم بإعادة تجميع اللوحات الجدارية العائدة لهذا السقف اللغز: تؤكد الأجزاء المكتملة بالفعل وجود ارتباطٍ بينها وبين "أسلوب التزيين"، لكنّها بدت مع ذلك مختلفة عما كانت عليه في الغرفة السوداء، فلدينا هنا زهور وفواكه وأقنعة للمسرح، حيث يبدو كلّ شيءٍ في "الغرفة السوداء" مشرقًا للغاية، ويأخذ مظاهر احتفالية.
أثناء عرض الاكتشافات الجديدة، تحدث علماء الآثار عن العشرات من الاكتشافات المهمة الاُخرى، وقالوا إنّ كثيرًا منها ستدرج في ترسانة التحف العاطفية، بدلًا من ترسانة التحف التاريخية البحتة. تعد بومبي بحق قمة علم الآثار، وإحدى لحظات التاريخ الفارقة: بين عشية وضحاها أبيدت المدينة، وفني قاطنوها خلال ساعةٍ واحدة، ولذلك نرى أنّ الأجساد قد تركت فراغاتٍ واضحة في الحفريات التي قام بها المنقبون في طبقات الرماد البركاني. كما يرى المشاهد كيف بقيت الأدوات والأشياء التي استخدمها البشر للمرّة الأخيرة، وكذلك بقيت كثير من منازل الأغنياء والفقراء، والمحلات التجارية، والمعابد، في حالةٍ سليمة. إنّ حقيقة ما جرى لتلك الأشياء قبل ألفي عامٍ تقريبًا هي حقيقة ملموسة لدرجةٍ يدركها الناظر من النظرة الأولى. تبين الجثث أنّ ثمّة أطفالًا كانوا يلعبون تحت تلك اللوحات. وها هي آثار دماءٍ بقيت على خوذة مصارعٍ خاض في اليوم السابق للبركان قتالًا حتى الموت في حلبة المصارعة. وعلى الجدار، علّق قناعُ ممثلٍ مسرحيّ على مسمار مثبت في الجدار. تشير حالة الجدران إلى أنّ البناة قد أنهوا للتوّ إصلاحها، وأنّهم قد قاموا بتقويم الخطوط أفقيًا وشاقوليًا بخطٍّ ثقيل من القصدير. هذه آثار التاريخ في "زمنٍ حقيقيّ". وللأسف، فموقع بومبي ظاهرة نادرة الحدوث، وليس هنالك مواقع أثرية مماثلة حافظت على حالتها السابقة بحيث تتيح للعلوم فرصةً للتعامل مع حقائقها بهذه الدرجة من الأصالة.

هامش:
بومبي (Pompeii): مدينة رومانية تقع على سفح جبل بركان فيزوف (غير بعيد عن نابولي) على ارتفاع 1200 متر فوق سطح البحر، كان يقطنها عشرات الآلاف، لم يتبق منها اليوم إلا آثارها. في عام 79 م، ثار بركان فيزوف بعنفٍ غير مسبوق، ودمّر مدينة بومبي، وجارتها هركولانيوم. دفنت المدينتان تحت طبقة سمكها ثلاثة أمتار من الحمم والأتربة والرماد لمدة 1600 عام، حيث بدأت الاكتشافات الأثرية في الموقع عام 1738. رافق البركان الهائل هزاتٍ ارضية عنيفة، وارتفعت مياه البحر لتشكل ما يعرف اليوم بـ(تسونامي)، وتحول النهار ليلًا دامسًا. وصلت الحمم البركانية المدينة، فطمرت أحياءها، في حين تولّت الغازات السامّة التي أطلقها البركان القضاء على ما تبقى من كائناتٍ حيّة. كشفت الحفريات كيف مات ضحايا الكارثة وهم في الحالة والوضع الذي كانوا عليه حينها، كما كشفت الحفريات طابع المدينة الغني والمترف. وأظهرت طبيعة الحياة الاجتماعية، وكذلك جوانب وأساليب العمارة في تلك الفترة الرومانية: الشوارع المرصوفة، شبكة تزويد المنازل بالمياه، وكذلك الحمامات العامّة، والمسارح، والأسواق. بقي القتلى على هيئاتهم وأشكالهم، فتحجرت الأجساد كما هي: فمنهم النائم، ومنهم الجالس، ومنهم من تحجّروا على شاطئ البحر بوضعيات مختلفة.
لهذه الأسباب، لا نستغرب أن يرى علماء الآثار في بومبي ومحيطها كنزًا أثريًا لا مثيل له، ويعملون جيلًا بعد جيل على كشف أسراره ونفائسه، وسيواصلون ذلك لسنواتٍ وسنواتٍ طويلة قادمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.