}

الأمثال والسياق الاجتماعي: نظرة على الأمثال العبرية القديمة

أحمد الجندي أحمد الجندي 11 يونيو 2024
اجتماع الأمثال والسياق الاجتماعي: نظرة على الأمثال العبرية القديمة
تنتمي الأمثال في الأدب العبري القديم إلى أدب الحكمة


لطالما ارتبط الإبداع اللغوي بالقدرة على إيصال المعاني العميقة بأقل الكلمات، وقديمًا ربط العلماء بين البلاغة والعبارة الموجزة فقالوا البلاغة هي الإيجاز. وعادة ما يتوفر العاملان، عمق المعنى وإيجاز العبارة في أدب الأمثال، فيجعلان منه أحد أشكال الإبداع اللغوي، ويضفيان عليه جاذبية كبيرة، ويسهّلان حفظ الأمثال وتناقلها، خاصة حينما تعرف السياقات التي قيلت فيها. وهي سمة تميّز المثل العربي وغيره، ولا يتخلى عنها المثل العبري.

تنتمي الأمثال في الأدب العبري القديم إلى ما يعرف بأدب الحكمة، والذي يضم عددًا من أسفار العهد القديم، كأيوب، والجامعة، والأمثال، بل وبعض أسفار الأبوكريفا/ غير القانونية. وهي أسفار تقدّم معاني فلسفية وفكرية وتعليمية، لكنها على الرغم من ذلك ظلّت تُعَامل عند الباحثين وكأنها منفصلة عن بقية العهد القديم، واعتبروا سياقها أكثر تناغمًا مع شعوب الشرق الأدنى القديم، وليس مع المؤسسات الإسرائيلية القديمة.[1]

وقد أدى الربط الدائم بين أسفار الحكمة في العهد القديم، وأدب الحكمة في بلدان الشرق الأدنى القديم لفصلها بدرجة أو بأخرى عن بقية الإنتاج الأدبي العبري القديم، ودفع كثيرين للتساؤل عن أصالة مادة هذه الأسفار، واعتبارها نسخة إسرائيلية من أدب الحكمة في مصر القديمة أو في بلاد النهرين. وهو توجّه أثّر في فهم سياقات هذه النصوص في نسختها العبرية بالطبع، وعلى رأسها الأمثال، موضوع المقال.

في عام 1888 اكتشف عالم المصريات، السير إرنست واليس بادج، بردية قديمة مكتوبة بالهيراطيقية لمجموعة من التعاليم والحكم عرفت فيما بعد بتعاليم أمينوفيس، المعروف في المصادر الغربية باسم "أمنموبي". لكن البردية ظلّت حبيسة الأدراج إلى أن نشرت مترجمة للإنكليزية بعد أكثر من 30 عامًا من اكتشافها. كانت الخطوة إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في دراسة سفر الأمثال؛ بعد أن ظهر مدى التشابه الكبير بين ما تضمّنته البردية والإصحاحات 22، 23، 24 من سفر الأمثال، ليفتح ذلك الباب واسعًا أمام الدراسة المقارنة بين السفر وآداب الشرق الأدنى القديم.[2]

لم تقتصر مقارنة الأمثال العبرية القديمة بأمثال الحضارات القديمة الكبرى، في مصر وبلاد النهرين، وامتدت إلى المثل العربي. وقد أعطانا سفر الملوك الأول 4: 30 - 33 إشارة مبكرة تدل على مقارنة أمثال سليمان بأمثال العرب القدامى أو "بني المشرق"، كما يقول النص. ورغم ذلك ظلت المقارنة بين الأمثال العبرية القديمة ونظيرتها العربية بعيدة عن البحث إلى أن طرحها الأب لويس شيخو في مطلع القرن الماضي، وخصّص لها فصلًا كاملًا ضمن كتابه "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية". وحمل الفصل عنوانًا مباشرًا: "في الأمثال العربية المنقولة عن الأسفار المقدسة" ليعبّر عن هدف الأب شيخو في إثبات اعتماد كثير من أمثال العرب على الأسفار المقدسة، معتمدًا على تشابهات لفظية بين هذه وتلك، ويقرّر في النهاية بكل بساطة ما ذهب إليه.[3] ومع الإقرار بوجود هذه التشابهات واحتمال التأثر، يجب التنبيه إلى أن فكرة الاعتماد على مجرد التشابهات اللفظية لإثبات نقطة بحثية عادة ما تؤدي إلى نتائج لا تخلو من غرابة أو مبالغة، وهو ما وقع فيه الأب شيخو حين لم يراع المعاني المعتادة التي يتشاركها البشر،[4] والتي ينتج عنها تشابهات في اللفظ والعبارة تجعل احتمالية النقل والتأثر أمرا ممكنا، لكنها لا تجعله حتميا بالضرورة.

من هذه التشابهات المثل العبري "من يحفر حفرة يسقط فيها" (الأمثال 26: 27)، ونظائره العربية كثيرة، بعضها حديث زمنًا، استخدم بنفس اللفظ تقريبًا "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها"، وبعضها خلّدته أشعار العرب كما قال الشاعر:

ومن يحتفر بئرًا ليوقع غيره... سيوقع يومًا في الذي هو حافر

وكذا ما قاله الشاعر:

قضى الله أن البغي يصرع أهله... وأن على الباغي تدور الدوائر.

ومن هذه التشابهات أيضًا قول الأمثال (22: 1) "الصيت أفضل من الغنى"، ويقال في حسن السيرة وأهمية السمعة، والمتكرر بلفظه في المثل المصري "الصيت ولا الغنى".

ظهر مدى التشابه الكبير بين ما تضمّنته البردية "أمنموبي" والإصحاحات 22، 23، 24 من سفر الأمثال، ليفتح ذلك الباب واسعًا أمام الدراسة المقارنة بين السفر وآداب الشرق الأدنى القديم


ورغم هذه التشابهات، فإن هناك اختلافًا جوهريًا بين الأمثال القديمة في العربية والعبرية ترتبط بالسياق الاجتماعي الذي يقال فيه المثل، وهو ما يشبه مصطلح Sitz im leben/ الموقف الحياتي الذي استحدثه الألماني هيرمان جونكل - أحد أهم رواد مدرسة النقد الشكلي في دراسة الكتاب المقدس - ويركز على المناسبة أو السياق الذي كتب فيه النص، والمهمة التي وظف من أجلها، وما يتضمنه ذلك من ظروف اجتماعية وثقافية وقت تأليفه. وعلى هذا فإن مقارنة الأمثال العربية بنظيرتها العبرية القديمة تكشف أن الأمثال العبرية جاءت مجرّدة من سياقها الاجتماعي أو موقفها الحياتي، بينما أطلقت الأمثال العربية في مناسبات بعينها، وتناقلتها الألسن كلما تشابه السياق، وهي سمة أساسية تتصف بها كثير من أمثال العرب. خذ مثلًا: سبق السيف العذل، عاد بخفي حنين، إن وراء الأكمة ما وراءها، بلغ السيل الزُّبَى، أهلُك أعلم بك، كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفِرَا، لا ناقة لي فيها ولا جمل، جوع كلبك يتبعك، جوع كلبك يأكلك... فهذه وغيرها أمثلة عربية قديمة نشأت من خلال سياقات قصصية حقيقية، وأصبحت مضربًا للمثل إذا حضرت مناسبة مشابهة، على عكس الأمثال العبرية، سواء تلك الواردة في سفر الأمثال، أو في سفر بن سيراخ غير القانوني، وهو بأكمله سرد لأمثال في موضوعات متفرقة.

وقد رأى بعض الأكاديميين أن الحكم على أدب الحكمة الإسرائيلي القديم وفق معايير غريبة، ومقارنته بنظيره لدى شعوب الشرق الأدنى القديم، أدى للتعامل مع هذا النوع من الأدب كما لو كان غريبًا على التراث الإسرائيلي، حتى اعتبره بعضهم "يتيمًا" داخل بيئة العهد القديم.[5] غير أن السبب الحقيقي الذي يشعر بهذه الغرابة هو اختلاف هذا الأدب تمامًا في رسالته وتفاصيله عن مجمل تراث إسرائيل القديمة؛ إذ يرتكز العهد القديم على فكرة العهد بين الرب وشعبه (بني إسرائيل)، فالتاريخ هو ذكريات هذا العهد، والتشريعات تفصيل لشروطه، ورسالة الأنبياء، في مجملها، تعبير عن مواضع التقصير الذي أضر به وكيفية الإصلاح.

ما يزيد من الشعور بهذه الغرابة هو أن النص عادة ما يفهم في إطار سياقات ثلاثة؛ أولها السياق التاريخي للمؤلف الذي كتب فيه النص، والسياق الأدبي للنص نفسه، والظرف الذي يطالع فيه القراء النص فيقود إلى تفسيرات عدة. فإذا لم يعرف المؤلف وزمن تأليف النص وجب الحذر في التعامل مع النص القديم، إذ يصبح من الصعب حينها ربط النصوص بسياقها التاريخي والاجتماعي، وسفر الأمثال مثال على ذلك. صحيح أن التقليد اليهودي ربط تأليفه بسليمان عليه السلام وهو في منتصف عمره، وسفر الجامعة حينما تقدم به السن.[6] لكن أسبابًا كثيرة دفعت للشك في ذلك، ومن ثم تعدّدت الآراء حول مؤلفه أو مؤلفيه. عدم تأليف سليمان للسفر لا يعني نفي الحكمة، المثبتة له في مصادر الأديان المختلفة، عنه بالطبع، لكنه يعني نفي السياق الاجتماعي أو التاريخي الخاص به. وعلى اعتبار أن التعامل مع نصوص العهد القديم يمكن أن يساعد في فهم الواقع الإسرائيلي القديم، فإن سفر الأمثال في هذه الحالة، حسب قول جون برايت، لن يسهم في تحقيق ذلك إلا بشكل سطحي.[7]

ظلت المقارنة بين الأمثال العبرية القديمة ونظيرتها العربية بعيدة عن البحث إلى أن طرحها الأب لويس شيخو في مطلع القرن الماضي، وخصّص لها فصلًا كاملًا ضمن كتابه "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية"


لقد أدى غياب السياق، أو عدم وضوحه على الأقل فيما يتعلق بسفر الأمثال، وأسفار مثل أيوب والجامعة ونشيد الأناشيد، وكثير من مواضع سفر المزامير إلى جعلها مختلفة عن غيرها في عالميتها؛ حيث يمكن فهمها خارج الإطار العام لفكرة العهد، وبعيدًا عن قيود الخصوصية الإسرائيلية وهي الركيزة التي تأسّس عليها العهد القديم نفسه. يقول إرنست رايت في ذلك "إن الصعوبة الرئيسية في أدب الحكمة عدم ملاءمته نوع الإيمان الذي يظهر في الأدب التاريخي والنبوي في العهد القديم، إذ لا يتضمن إشارة صريحة إلى أفكار الاختيار، والعهد، والخلاص، ولا تطويرا لها".[8] الأكثر من ذلك أننا حينما نذهب إلى التفاصيل نجد أن الأصل في أسفار الأمثال وأيوب والجامعة ونشيد الأناشيد، التفاوت في استخدام اسم الإله يهوه، وهو اسم العلم المفضل لإله بني إسرائيل، فهو لم يذكر في البنية الأساسية في سفر أيوب، ولم يذكر نهائيًا في الجامعة، ونشيد الأناشيد. بل إنها حتى لا تذكر اسم إسرائيل من الأصل (الأمثال، أيوب، الجامعة، نشيد الأناشيد)، زد على ذلك أن بيئة بعضها والأسماء الواردة فيها غير إسرائيلية، كما في أيوب وبعض مواضع الأمثال، وبعضها يقدم أفكارًا فلسفية غريبة تمامًا عن العهد القديم (الجامعة). وربما لمثل هذه الأسباب طرحت كاثرين ديل، في دراستها للسياقات الاجتماعية واللاهوتية لسفر الأمثال، سؤالًا مهمًا عن إن كان الرب المذكور في سفر الأمثال، هو نفسه الإله يهوه الذي قاد بني إسرائيل عند خروجهم من مصر.[9]

هذا التخلي عن الخصوصية جعل استخدام الأمثال أمرًا ممكنًا من دون تقيد بقضايا الهوية؛ وتوافق ذلك مع الطبيعة التعليمية للأمثال العبرية في سفري الأمثال وبن سيراخ، واهتمام أغلبها بالتوجيه لقيم أخلاقية ومعان إنسانية عامة؛ عن قيمة الحكمة "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، وللرجل الذي يجد الفهم" (أمثال 3: 13)، ومغبة التطلع لما يملكه الغير "أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه" (أمثال 6: 27)، والفرح بهلاك الأشرار "وعند هلاك الأشرار هتاف" (أمثال 11: 10)، وعن خطورة الكلمة "من يحفظ فمه يحفظ نفسه" (أمثال 13: 3)، ومصاحبة الحكماء "مساير الحكماء يصير حكيمًا، ورفيق الجهال يضر" (أمثال 13: 20)، وعدم إهمال العقاب في تربية الأبناء "من يمنع عصاه يمقت ابنه" (13: 24).

يحتفظ سفر بن سيراخ أيضًا بجملة أمثال رائعة؛ كالتحذير من المنّ بعمل المعروف "يا بني لا تقرن الصنيعة بالملام" (بن سيراخ 18: 15)، والحث على التفكير والمشورة قبل الشروع في العمل "الكلام مبدأ كل عمل والمشورة قبل الفعل" (بن سيراخ 37: 20). والتنبيه إلى أن البؤس والنعيم ينسيان إذا ما حل عكسهما "إن البؤوس تنسى في يوم النعم... شر ساعة ينسي اللذات" (بن سيراخ 11: 27، 29).

وهكذا، وانطلاقًا من هذه العالمية، لم يكن من الغريب ألا يهتم العهد القديم، في ظل خصوصيته المشار إليها، بمئات المقولات في سفر الأمثال، فلا يقتبس منها مثلًا واحدًا ولو لمرة واحدة في أي من أسفاره. أمر فسّره الدارسون في سياق احتمالات أربعة، يلتقي بعضها مع ذلك التوجه العالمي؛ يقول أولها إن مؤلفي السفر هم جماعة منعزلة كانوا مولعين بالفن الشعبي، أو ربما نخبة من الحكماء، ممن لا علاقة لهم بالكهنة أو الأنبياء، وفي الحالتين كانوا أصحاب أيديولوجيا تختلف عن باقي الإسرائيليين. ويقول الاحتمال الثاني إن سفر الأمثال كتب في زمن غير زمن بقية أسفار العهد القديم، أما التفسير الثالث فيعتقد أصحابه أن السفر كتب في مكان مختلف عن الذي كتب فيه غيره من الأسفار. ويقول آخرها إن السفر يقدّم طريقة فريدة للتعبير، تختلف عن طريقة بقية الأسفار.

أما لماذا لم يحظ سفر الأمثال بنفس الاهتمام الذي حظيت به أكثر الأسفار لدى المفسّرين والأكاديميين، فلذلك أسباب أخرى؛ كشعورهم أن الأمثال لم تعد تتحدّث إلى الأجيال الحالية مثلما فعلت قديمًا فيمن وُجّهت إليهم. ومنها كذلك، وهو الأهم، أن عدم توصلهم إلى السياقات الاجتماعية والثقافية للأمثال والوظيفة التي كانت تؤديها في إسرائيل القديمة على المستوى الجمعي، ومدى توافقها مع عناصر أخرى من الثقافة العبرية، وكيف ارتبطت بتفكير الأنبياء والكهنة؟ جعلهم يعتبرون الأمثال خاصة، وأدب الحكمة عامة، عنصرًا متطفلًا وغريبًا على الحياة الفكرية والثقافية في إسرائيل القديمة.[10]

 
إحالات:

 [1] - Katharine J. Dell: The Book of Proverbs in Social and Theological Context. Cambridge University Press, New York 2006. p. 1.

[2] - R. A. Kassis: The Book of Proverbs and Arabic Proverbial Works. Brill, Leiden 1999. p. 1.

[3]  - لويس شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية. دار المشرق، بيروت 1989. ص. 283 – 300.

[4] - Kassis: p. 11.

[5] - J. L. Crenshaw: Urgent Advice and Probing Questions, Collected Writings on Old Testament Wisdom. Macon, Mercer University Press 1995. P. 90.

[6]  - بابا بترا: 15أ

[7] - J. Bright: The Authority of the Old Testament. London. SCM Press 1967. P. 136.

[8] - G. E. Right: God Who Acts, Biblical Theology as Recital. SBT 8, London, SCM Press 1952. p. 103.

[9] - Katharine J. Dell: p. 2.

[10] - J. M. Thompson: The Form and Function of Proverbs in Ancient Israel. Mouton, The Hague 1974. p. 13 - 16

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.