سبق لنيكولاوس كوبرنيكوس (المعروف في لساننا العربي بكوبرنيك)، أحد أعظم علماء الرياضيات والفلك، ومنذ القرن الخامس عشر، أن أنزل الأرض عن عرش الكون، وعن كونها مركز الخلق والوجود، فلم يبق الكون متمركزًا عند الإنسان الذي لم يعد موقعه ثابتًا، أو مطلقًا. ومع غاليليه، وديكارت، ونيوتن، حُدّدت معالم كوسمولوجيا جديدة حرّرت الفكر من وهم الخصائص الذاتية والروحية التي أمدّت البشر باحتكار المعنى الكونيّ. فالكون الجديد، بحسب هؤلاء العلماء والفلاسفة الكبار، ليس سوى آلةٍ، قوةٍ ومادةٍ مكتفيتين بذاتيهما، خاليتين من الأهداف، مجردتين من الذكاء، أو الوعي، ولهما طبيعة غريبة تمامًا، وجذريًا، عن طبيعة الإنسان. أضحى الوعي الجديد على ضوء العلم والفكر يرى المقولات الروحية والأسطورية والإيمانية، وسواها، مجرّد إسقاطات مجرّدة من صنع البشر. وبذلك، ترافق التحرّر العلمي من العقائد اللاهوتية والخرافات الأرواحية مع غربة الإنسان في عالم لم يبق متجاوبًا مع قيمه السابقة، ولم يعد هذا الإنسان قادرًا على العودة إلى رحم الكون.
مع داروين، تأكّد هذا الواقع، وكبر أكثر فأكثر، فالافتراضات اللاهوتية والإدارة الإلهية للعالم، ومكانة الإنسان الروحية، واجهت اعتراضات علمية شرسة مدعومة بمعادلات ونظريات علمية محض: ليس الإنسان سوى حيوان على قَدْرٍ ملحوظ من النجاح. ليس هو مخلوق الرب النبيل، وذا المصير السماوي، بل إنّه من تجارب الطبيعة ذات المصير الغامض والملتبس، فلا ضمان لأن يكون مصيره التطوري النهائي مختلفًا في شيء عن مصائر ألوف الأجناس والكائنات التي لا تستوطن أساسًا إلّا كونًا مصمّمًا لتوفير فرص تفتحها، فإنّ الفهم الجديد للتطور نسف هذين الزعمين لكونهما من الأوهام الناجمة عن القول بـ"مركزية الإنسان" في الكون. وازداد التفسير العلمي المثبت رسوخًا مع صوغ القانون الثاني للديناميكا الحرارية في القرن التاسع عشر، وقد صوّر الكون كتلةً متحركةً تلقائيًا، ولم يوجد الإنسان إلّا بفضل ظروف بيولوجية ــ فيزيائية من دون أي "خطة إلهية".
مع فرويد، اكتسب الصراع الداروينيّ مع الطبيعة أبعادًا جديدة، إذ بات الإنسان محكومًا بالعيش في صراع أبديّ مع طبيعته الخاصة. ولم يقف فرويد عند الكشف عن حقيقة أنّ الله لم يكن إلّا إسقاطًا طفوليًا بدائيًا، بل تجاوزه إلى تسليط الضوء على واقع إنزال الأنا الإنسانية الواعية نفسها وتاج فضائلها المتمثل بالعقل (قاعدة الإنسان الأخيرة التي تفصله عن الطبيعة) عن العرش.
أظهر فرويد كيف أنّ المنبع الحقيقيّ لجملة الدوافع البشرية ليس سوى مرجل يغلي بالغرائز الحيوانية اللا عقلانية، وما لبثت الحوادث التاريخية المعاصرة أن قدمت البراهين عن هذه الأطروحة الفرويدية. بالتالي، ليست ألوهية الإنسان وحدها صارت موضوع تأمل ومناقشة، بل إنسانيته أيضًا. فمع قيام العقل العلمي بتحرير الإنسان الحديث من أوهامه الماورائية تعرّض لابتلاع الطبيعة له وحرمانه من مواضعاته القديمة فافتُضح واقع أنّه مخلوق ذو غرائز دنيئة.
ثم أتى ماركس فكشف عن اللاوعي الاجتماعي مقابل نجاح فرويد في كشف اللاوعي الشخصيّ. وبين داروين، وفرويد، وماركس، أصبحت الإنتلجنسيا، أو الطبقة المثقفة الحديثة، ترى، وعلى نحو متزايد، جملة قيم الإنسان الثقافية ودوافعه النفسية وتجلّيات إدراكه الواعي. ومع حلول القرن العشرين، طرحت الكوسمولوجيا فرضيّة أن المنظومة الشمسية ليست إلّا جزءًا متناهي الصغر من مجرّة عملاقة مشتملة على مئات المليارات من النجوم الأخرى، الشبيهة بالشمس، مع احتواء الكون القابل للرصد على مئة مليار مجرّة شبيهة بدرب اللبانة، وهذه المجرّات المنفردة ليست بدورها سوى وحدات في مجمعات كوكبيّة أوسع هي نفسها أجزاء من مجمعات وعناقيد مجرّات عملاقة، مع بقاء الفضاء عصيًّا على القياس إلّا باعتماد مسافات بين المجرّات محسوبة بمئات ملايين السنوات الضوئية. وجميع هذه النجوم والمجرّات منخرطة فرضيًّا في عمليات تشكُّل وتحلُّل طويلة جدًا، مع افتراض ولادة الكون نفسه في انفجار بِدْئيّ غير قابل للتصوّر، أو التفسير، قبل عشرة، أو عشرين مليارًا من السنين!
أبعاد كونية كهذه تفرض على الإنسان التواضع إزاء ضآلته النسبية في الزمان والمكان. يساهم الجيولوجيون والبيولوجيون والفيزيائيون وعلماء الفلك في توسيع معرفة الإنسان وتقليص مكانته الكونية. الإنسان نفسه تعرّض للاختزال، وأضحى الوعي مجرّد ظاهرة ثانوية من ظواهر المادة، من إفرازات الدماغ، مجرّد وظيفة من وظائف الدورة الكهربائية ــ الكيميائية التي تلبّي الحاجات البيولوجية. الطريقة الفضلى لفهم الإنسان علميًا (بحسب بافلوف وآخرين) هي النظر إليه كما لو كان آلة، تمامًا مثل فهم الكون بمجمله. إذا كان الإنسان يعيش في كون موضوعيّ، وإذا كان وجوده متجذرًا كلّيًا وذائبًا في هذا الكون، فإنّه أيضًا موضوعيّ، أو لا شخصيّ، من حيث الجوهر، وما تجربته الشخصية سوى خيال، أو وهم نفسيّ.
في النصف الثاني من القرن العشرين، ازداد توتر الفردية الإنسانية، فمع تدفق السيل اللا نهائيّ من الابتكارات التكنولوجية، طغت الفوضى والسرعة وزحمة التعقيدات على بيئة الإنسان المثقل بالمتاعب والأزمات. ومع تفاهة الحياة الحديثة الطاغية وخوائها وماديتها، أصبحت قدرة الإنسان على الاحتفاظ بإنسانيته في بيئة تصنعها التكنولوجيا أمرًا مشكوكًا فيه. وبرزت عواقب وخيمة، كالتلويث الخطير لمياه الأرض ولهوائها وتربتها، والتأثيرات المؤذية لحياة الحيوان والنبات، وانقراض العديد من الأجناس، والإجهاز على الغابات، وارتفاع حرارة الأرض، والاختلال الشديد في مجمل المنظومة البيئية على نحو خطير ومعقد. أضف إلى ذلك الاكتظاظ السكاني والحوادث الصناعية ذات العواقب الكارثية، وفواجع حوادث السير والطيران، وأمراض السرطان والقلب، وإدمان الكحول والمخدرات، والبرامج التلفزيونية المفقِرة ثقافيًا، وتصاعد نسب الجريمة والعنف والأمراض النفسية. كما أفضى التقدم العلميّ إلى مآزق شيطانية (فاوستية) جديدة، وصولًا إلى إنتاج القنبلة النووية، ورميها مرتين على هيروشيما وناغازاكي، فلم يعد الإيمان بحيادية العلم الأخلاقية واردًا، مع تضاعف أعداد الصواريخ النووية ذات القدرات التدميرية غير المسبوقة، متكاثرةً من دون رحمة، وقادرة على تدمير كوكب الأرض أكثر من مرة.
صحيح أنّ العلم لا يزال ينطوي على قيمة، ويحظى بالاحترام من نواحٍ كثيرة، بيد أنه فقد صورته النقية غير الملطّخة كعامل تحرير للبشرية. اضطر الفلاسفة والمفكرون إلى إعادة تقويم حالة المعرفة الإنسانية. قد يخال الإنسان أنه يعرف الأشياء معرفة علمية، أو غير علمية، لكن من الواضح أن لا ضمان لذلك، فهو لا يمتلك أيّ وسيلة عقلانية أولية للوصول إلى الحقائق الكلّية. مع مضيّ القرن العشرين قدمًا، وجد الوعي الحديث نفسه أسير عملية توسّع وتقلّص متزامنة شديدة التناقض. بات كمّ مذهل من المعلومات متوافرًا حول سائر مناحي الحياة، وحول العالم المعاصر، والماضي التاريخيّ، والثقافات الأخرى، وأنماط الحياة المختلفة، وعالم ما دون الذرّة، والماكروكوزم، والعقل والنفس البشريين. بيد أنّ ذلك كلّه ترافق مع تنظيم أقلّ ومستوى أدنى من الترابط والشمول ودرجة أضعف من اليقين. رغم النهضة والتنوير تعرّضت حرية الفرد للخنق وازداد إخضاعه لهيمنة سلسلة من البنى الفوقية البيروقراطية، التجارية منها والسياسية. أصبح الإنسان بلا معنى في الكون الحديث، وتواجه الحساسية الأخلاقية قدرًا مرعبًا من القسوة والفساد. في خلفية كل متعة وكل إنجاز تكمن هشاشة إنسانية غير مسبوقة. ففي ظلّ هيمنة الغرب أُقحم الإنسان في نوع من الكابوس الأرضي والصحراء الروحية. إنّه الخواء الروحي واللا أمان الأنطولوجي الوجودي. إنّه كذلك هاجس تفاهة العقل البشري وهاجس المعضلة المأساوية للوضع الإنساني. العدم يحاصر الكائن بين طرفي البداية والنهاية. ليس هناك أي مخطط أبديّ، أو غاية إلهية. الأشياء موجودة لأنها موجودة فحسب، لا لأيّ سبب "أسمى"، أو "أعمق". الكون أعمى وأصمّ إزاء هموم الإنسان، خالٍ من أيّ معنى، أو هدف. الإنسان مهجور، متروك وحيدًا.
في عالم طحنته حربان عالميتان، وقنبلتان نوويتان، فَقَد الإيمان بربّ حكيم كلّي القدرة كلَّ أساس يمكن الدفاع عنه. تمخّض عجز الفرد في الحياة الحديثة عن هجر عدد من المثقفين الميدان الفكري والأخلاقي في فراغ كونيّ بلا معايير. لا تزال تقرع نواقيس خطر الانحطاط والسقوط والتفكك والانهيار (الإنساني والأخلاقي في المقام الأول)، وتُعلن بين الفينة والفينة نهاية اللاهوت والفلسفة والعلم والأدب والفن... بل نهاية الإنسان نفسه. بادر الإنسان الغربي إلى تفعيل نوع غير عادي من الديالكتيك في مسار الزمن الحديث، متحوّلًا من ثقة عارمة بقواه الخاصة وطاقته الروحية وامتلاكه المعرفة اليقينية وسيادته على الطبيعة ومصيره التطوريّ، إلى شعور موهن باللا جدوى الميتافيزيقية والتفاهة الفردية وفقدان الإيمان الروحي ولا يقينية المعرفة والقلق الحادّ على مستقبل الإنسان.
وسط كلّ هذا الخراب الذي أنزل الإنسان عن عرش الكون ومركزيته بسبب فشل التجربة الإنسانية في السلام الدائم والقيم والأخلاق والمعاني المتسامية، جاءت مأساة غزة لتؤكّد بشكل حاسم ونهائيّ على سقوط هذه التجربة وفشلها التامّ، إذ قضت على كلّ أمل بسيادة الشرائع والقوانين (الدولية منها بخاصة)، وبتحقّق مشروع السلام العالمي الذي أفاض كانط في شرحه، وخصّه بنصّ فلسفيّ خاص، وبانتصار القيم الإنسانية وكرامة الفرد والجماعة. سقط كل شيء مع فاجعة غزة دفعة واحدة، ولا رهان ممكنًا بعد اليوم على أيّ طرح طوباويّ جديد، إذ لن يؤخذ من أي جهة على محمل الجدّ. لا فاعلية بعد اليوم لمنظمات أممية ومحاكم دولية، واتفاقيات لا تساوي حبرها بشأن حقوق الإنسان. لن تمرّ مثل هذه الأطروحات المنافقة بعد اليوم، بل سيُنظر إليها بعين السخرية والتهكّم. فليفقه العالم كلّه ما تسبّبت به مأساة غزة من انهيار كامل لمنظومات القيم، بل لقيمة الإنسان نفسه. وداعًا للعدالة، وداعًا للقانون، وداعًا للمحاكم. فلينزل هذا الكائن المدمّر المدعو إنسانًا من برج كبريائه الفارغ، وليدرك أنّه ليس سوى ظاهرة بيولوجية مؤذية في هذا الكون اللا متناهي العجيب. ليس الإنسان بعد اليوم مركز الكون السابح في العدم.
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.