لننظر إلى صرخة غزة المكتومة، الطالعة من الألم التامّ، صرخة سخطٍ على عالم متوحّش، متخلٍّ، متلذّذ بالموت الكثير. من غزة تدوّي صرخة استنجاد بلا رجاء، طلقة احتجاج أخيرة قبل الموت يأسًا وخيبة. صرخةٌ هي استحالة الإسماع، يدلّ صوتها على غياب الآخر، على غياب منقذ أرضيّ، أو سماويّ كان حريًّا أن يحضر ويمدّ يد المعجزة. في صمت العالم نسمع صرخة الشهداء تمزّق الجسد والأرض معًا. إنّها أيضًا فعلُ مقاومةٍ ضدّ أولئك الذين لا يسمعون. تُسْمِعُ الصرخةُ ضعفَ الإنسان المسجون، المستعمَر المقهور، وقوّة مقاومته. الصرخةُ انكشافٌ للجسد الداخلي، سَبْرٌ فاحشٌ للأحشاء. رفع مروان البرغوثي قبضته ذات يوم في سجنه صارخًا: ليس في هذا المكان صدى لصوتي... أسمعُ صوت زوجتي وأولادي وأسمع صوت شعبي مدويًّا عاليًا عاليًا. الصرخةُ المكتومةُ تستدعي الصمت، تجعله يدور مثلها في المأزق نفسه الذي تنطلق هي منه. تصنع الصرخة الهاوية التي يندفع إليها الصمت.
في البدء كانت الصرخة، كان الألم، ولم تكن الكلمة هي البدء. الصرخة هي الصوت الأكثر صدى للجسد. تعيدنا إلى جانبنا الحيوانيّ، إلى الصلة المشتركة بين الإنسان والحيوان. إنها صوت خروج الطفل من بطن أمه، والصوت الأخير في "صراخ وهمسات" لامرأة برغمان المحتضرة وقد التهم السرطان أحشاءها. تُطْلِقُ صرختها الأخيرة في وجه شقيقتيها اللتين عجزتا عن مشاركتها ألمها، لتواصلٍ مفقود. الصرخةُ هنا ضوضاءٌ عضويّةٌ تعبّر عن رعب من الموت. وإذا كانت الصرخةُ صوتًا ضاجًا في واقع الحياة، فهي في الرسم والنحت فَجوَةٌ داخل الفم المفتوح على مصراعيه، كهفٌ للخوف والألم، كما هي لدى رودان ومونش صرخة خرساء لا نستطيع سماعها، عواء مكتوم. كلّ ما يرتفع إلى الشفتين يموت. وحدهما العينان قادرتان على إطلاق صرخة. الصرخة هي الصوت الذي يمكن نحته صدى عميقًا لألم عميق. يمكن الحياة أن تستغني عن اللغة، عن الكلمات، لا عن الصرخة. الكلامُ ترفٌ، الحياة ممكنةٌ من دونه. الصمت اقصى الحشمة. تستدعي الصرخة لا معنى كل شيء.
صرخة مونش تطارد تاريخ الفن إلى الأبد. ظنّ أنّه يرسم صرخةً فلم يظهر في لوحته إلّا الصمت. من يصرخ في هذه اللوحة؟ الشخص أم الطبيعة؟ الحال نفسها تتكرّر لدى كاراڨاجيو في "ميدوسا" وفي "غيرنيكا" بيكاسو وفي رسوم أوتو ديكس الكثيرة عن أهوال الحرب وفي وجوه فرانسس بيكون المشوّهة. والصرخةُ عواءٌ في منحوتة رودان، تعبير ناجز عن العجز واليأس وعميق الألم. أيضًا في السينما الصامتة، كانت الصرخة مدوّية. ما كنّا نسمعها، بيد أنّها كانت تصدم المشاعر. الصرخة لدى فرويد ولاكان مناداة لانتباه الآخر، توسّلٌ إليه. صرخة المولود خارجًا إلى العالم هي صرخة اختناق (لا تنفّس) من عالم يفد إليه مرغمًا على مغادرة أمان الرحم. صرخته سبيله الوحيد إلى إسماع الآخر احتجاجه على "بيئة" غير مطمئنة يُستقدم إليها.
أراد نيتشه أن يصرخ فلم يجد وسيلة إلّا الكتابة. "هكذا تكلّم زاردشت" صرخةٌ مكتومةٌ. صرخة أنطونان أرتو على المسرح فعل قسوة يحاكي قسوة الوجود، إقلاقٌ خانقٌ بين الرثاء الجنائزيّ والغضب في عالم مضطرب يائس. الصرخة لدى بيكون بلا سبب، بلا موضوع. كائن العدم يصرخ. الصرخة هاوية سوداء. وحتى في صرخة المسيح خائفًا من الموت على الصليب "إلهي!! إلهي! لماذا تركتني؟" استغاثةُ ضعف، عدمٌ كثير. ما لا تستطيع الصرخة قوله يبقى في ذاكرة السماء.
صرختا الروح والجسد تتّحدان في دلالات الأسطورة : "يا أرض، لا تغطّي دمي، لئلّا يكون هناك مكان راحة لصراخي". تحوّل جسد أيوب المكدوم كلّه إلى صرخة "إنّي أتألّم". ليست شكواه مجرّد إطلاق صرخة، بل سؤال إلى الله عن معنى هذا الألم وملامته للخالق بكونه مسؤولًا نهائيًا عن "عالم يكون فيه مثل ذلك ممكنًا"، فإن لم يكن هو المسؤول فمن إذًا؟ يشتكي إلى الله ويرثي ولادته "لماذا لم أمت في البطن، ومن البطن خرجتُ لأهلك؟"، فما فائدة الحياة إن كانت من أجل المعاناة: "ماذا فعلتُ للرب الصالح كي أستحق مثل هذه المعاناة؟". لم يكن الله لأيوب عادلًا لأنّه "يُهلك الصادقين مع الأشرار". يتذمر أيوب من صمت الله ولا مبالاته وعدم إمكان الوصول إليه. أين الله؟ ماذا فعل؟ لِمَ يصمت ولا يتدخل ويقطع دابر الأشرار؟ المعاناة مستمرة والله صامت. عندما يتأوّه البشر "لا يأبه الله للصلاة". إذا كان أيوب عظيمًا في الأسطورة فلأنّه حاجج الله وشكا غيابه: "أصرخ إليك فلا تستجيب لي"، بل يعاتبه أيضًا على تحميله الآلام التي حاول أن يتحمّلها صابرًا: "لماذا استهدفتني؟ لماذا استهدفتني؟". صرخته نحو الأعلى موجهة: "عيني تصرخ إلى الله".
ترك لنا العهد القديم أقسى الكلام الموجّه ضد الله على الإطلاق، إنّما أيضًا أسئلة فعليّة لم تُفرض "رقابة" عليها، تُرجعُ صدى الصرخة واللوم للخالق. معركة الإيمان هي معركة الذكاء والعاطفة. مسألة الشرّ الوجوديّ لم تُحلّ بعد. المسيحية نفسها لا تخلو من الأسئلة. لم يفعل أيوب سوى تحويل صرخات الألم إلى صرخات براءة وسؤال. ظلّ يرفض الأجوبة النمطية عن معاناة البشر. "تراب ورماد" كلمتان لأيوب واصفًا حالته كإنسان يختبر الألم والظلم والإحباط من عدم وجود مَنْ ينصت إلى صراخه وأنينه. يحمل أيوب في داخله كلّ تساؤلات البشرية، كل فزعها، كل غضبها، في مواجهة لغز الشرّ. تمزّقٌ كان ليون شيستوڨ أفضل شارح له: "سفر أيوب بأكمله عبارة عن صراع مستمرّ بين صرخات أيوب شديد البلاء وتأملات أصدقائه العقلانيين، المقتنعين بأنّه من غير الممكن التحدث مع الله، المهتمّ بثبات قوته وثبات شرائعه، وليس بمصير الذين خلقهم. لعلّهم مقتنعون بأنّ الله لا يعرف القلق عامةً، بل يملك فقط".
أيّوب الأسطورة والأزمنة القديمة ألهم عدمية إميل سيوران في الأزمنة الحديثة، فهو مثل أيّوب نأى عن العقل تعبيرًا، لتكون المشاعر موضوع التعبير، إذ تبدو الصرخة شكله الأكثر ملاءمةً. الصرخة هي إدراك الجوهريّ، التجسيد الصوتيّ لشعور ما. تحضر الصرخة لدى سيوران لأنّ العالم ألم ولا تستطيع الكلمة أن تعثر على مكان فيه. الصرخة هي في الآن نفسه تعبير وكشف عن عزلة وجودية. يعتمد سيوران الصرخة شكلًا تعبيريًا إلّا أنه يتساءل عن إمكان استخدامها الآنيّ. في أيّ حال، أسلوب شذراته المختصرة ينطوي على كثافة تلامس الصراخ. الصرخة في الكتابة تعبّر بالكلمات عمّا يتعذّر وصفه. إنّه لدى سيوران التعبير – الصرخة، وفيه قوة الألم الظاهرة في الكتابة المقطّعة، المبتورة، المجسّدة للانفصال النفسي وللألم الجسديّ المتفاقم بين تعب وتدفّق. وفي حين أن صرخات أيوب لا تستمرّ إلّا لبعض الوقت، يدأب سيوران في إطلاقها بكتاباته، إذ لا تلقى صرخاته إجابة مُرْضِية. وإذا كان ثمة صمت لديه فهو صمت التعب: "شكوكي تنهكُ قواي، ومن العجيب أن طاقة كافية بقيت لديّ لأتمكن من تصوّر نفسي مدمّرًا". نقص الطاقة يجعل الكتابة محاولة، صرخة مجهضة. باختياره أيوب مثالًا، ولكن مع إعادة التأكيد على غياب الله، يحدّد سيوران وضعيّته بين الانفصال وعدم الاكتمال. في هذا المعنى، تستنفد الصرخة نفسها أو تمتنع، إلّا أنّها تدلّ كذلك على تعلّقه بها كوسيلة تعبير، فهي تحمل ألمه الذي يستعصي على التعبير، وهي تعفي الكتابة من ضرورة الإقناع ومن الاستعانة بالعقل الذي لا يمكنه فهم الصرخة بمعناها العميق ولا ترجمتها بكلمات. ببلاغة مذهلة يقول سيوران: "إني فيلسوف مولول. أفكاري، إن وُجدت، تعوي، إنّها لا تفسّر شيئًا، إنّها تنفجر". الصرخة هي بذلك محرّك دافع لكتابات سيوران، لخطابه الوجوديّ. كأنّه يطرح مسألة إخفاق اللغة، إنّما لا مجال لليأس من ذلك. يدفع الإخفاق إلى تجديد اللغة، إلى إمكان تشكيلها خارج الإطار. هنا نقطة تلاقٍ إضافية مع أيوب الذي لجأ بسبب إخفاق العقل والكلمة إلى الصرخة المصعّدة إلى السماء، الاحتجاجية، الغاضبة والرافضة وجود الشرّ والألم. وسيوران، حتى لو بلا إله، يستدعي ضرورة وجود محاور من خارج البشر (الله موجود حتى لو لم يكن موجودًا) ليساجله (مثل أيوب) وجوديًا حول عالم مقلوب، حيث اليأس، الوحدة، السأم والكآبة محاور تبصّر: "كلّما فكرت في الجوهريّ، ألقاه في الصمت أو في الانفجار، في الذهول أو في الصرخة. إنّما ليس البتّة في الكلمة". كأنّ الصرخة لدى سيوران هي مستقبل الكتابة.
*
لمحمود درويش قصيدة البنتُ/الصرخة:
على شاطئ البحر بنتٌ. وللبنت أهلٌ
وللأهل بيتٌ، وللبيت نافذتان وباب...
وفي البحر بارجةٌ تتسلّى
بصيد المشاة على شاطئ البحر:
أربعةٌ وخمسةٌ وسبعةٌ
يسقطون على الرمل، والبنتُ تنجو قليلًا
لأنّ يدًا من ضباب يدًا ما إلهيّة أسعفتها، فنادت: أبي
يا أبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
لم يُجِبْها أبوها المُسجّى على ظلِّهِ
في مهبِّ الغياب
دمٌ في النخيل، دمٌ في السحابْ
يطيرُ بها الصوتُ أعلى وأبعد من
شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَريّة،
لا صدى للصوت.
فتصير هي الصرخةَ الأبديّةَ في خَبَرٍ
عاجلٍ، لم يعد خبرًا عاجلًا
عندما عادت الطائرات لتقصف بيتًا بنافذتين وبابْ...
٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.