مرّت هذه الأيام الذكرى التاسعة والعشرون لوفاة عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي تمّيز بغزارة إنتاجه وعلومه الاجتماعية، وأصبحت مقولاته أشبه بحكم يردّدها العراقيون، وخاصة ما كان يصفه من كون العراقي ازدواجيًا. فما الذي يميّز علي الوردي عن الآخرين المشتغلين في حقل الاجتماع؟
لم يأخذ عالم عراقي من الشهرة، وخاصة في مجال علم الاجتماع، كما أخذه علي الوردي، الدكتور العائد من الدراسة في الولايات المتحدة، والذي أخذ يصنّف المجتمع العراقي بطريقةٍ لم يعهدها الدارسون من قبل. فقد جاء بنظرياتٍ اجتماعيةٍ حديثةٍ في حينها حلّل فيها المجتمع العراقي بحسب المناطق، وحتى اللهجات والانتماءات، حتى أن كتابه "وعّاظ السلاطين" أصبح مرجعًا، ليس في العراق فقط.
وُلد علي حسين محسن عبد الجليل الوردي عام 1913، وتوفي عام 1995، كانت حياته حافلةً بكثير من الإنجازات، والصراعات. عُرف بتبنّيه للنظريات الاجتماعية، واستخدمها لتحليل بعض الأحداث التاريخية، وهو من روّاد العلمانية في العراق. لقب عائلته الوردي نسبةً لجدّه الأكبر الذي كان يعمل في صناعة تقطير ماء الورد.
ولد في بغداد، وتحديدًا في منطقة الكاظمية الدينية، ويبدو أن طفولته كانت سببًا في تأثّره بما سيكون عليه مستقبلًا. إذ ترك مقاعد الدراسة عام 1924 ليعمل صانعًا عند عطّار، لكن العطار طرده من العمل لانشغاله بالقراءة. أكمل دراسته المسائية عام 1931 في الصف السادس الابتدائي، وكان الأوّل على العراق بشهادة الثانوية، لتبعثه الحكومة إلى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث حصل على البكالوريوس. أرسل في بعثةٍ أخرى إلى جامعة تكساس، حيث نال الماجستير عام 1948، والدكتوراة عام 1950. كان يهتم بعلم الاجتماع في الجامعات الأميركية، حتى أن رئيس جامعة تكساس وهو يمنحه الشهادة قال له: (أيها الدكتور الوردي ستكون الأوّل في مستقبل علم الاجتماع).
ابن خلدون والأثر المختلف
لم يخفِ الوردي تأثّره بمنهج ابن خلدون الذي يعد أوّل من وضع علم الاجتماع على أسسه الحديثة، حيث أوجد نظريات عن قوانين العمران والعصبية، وقدّم ملاحظاتٍ دقيقةً عن قيام الدول وعوامل استمرارها وسقوطها، وهو "أوّل من أخضع الظواهر الاجتماعية لمنهج علمي توصل من خلاله إلى كثير من الحقائق الثابتة، أو النظريات، وهو ما أعطاه الريادة في مجال الدراسات الاجتماعية والتاريخية". وقد سبقت آراؤه وأفكاره ما توصل إليه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كانط (1798 ــ 1857)، حتى أنه وبسبب تأثره بابن خلدون كان موضوعه في أطروحته للدكتوراه. وكان الوردي من أوائل من دعوا إلى "علم اجتماع عربي" يدرس المجتمع العربي في ضوء خصوصياته الجغرا ــ ثقافية، انطلاقًا من طروحات ابن خلدون. وركز الوردي على عامل البداوة وقيمها وأثرها "في تكوين الشخصية العربية".
أدرك الوردي أن عليه ألّا يشبه ابن خلدون، أو علماء الاجتماع في العالم، لذا كوّن لنفسه مسارًا خاصًّا به، وكان أكثر توغّلًا في الواقع والمجتمع والحياة العراقية، وهو ما جعل له أعداء أو (عداوات) كثيرة، لأنه طرح أفكارًا جديدةً بعد عودته من الدراسة في أميركا، وخاصّة من حاملي الأيديولوجيات، فقد اتهمه القوميون العرب بالقطرية، بسبب عنوان كتابه "شخصية الفرد العراقي"، ويعود هذا حسب منطلقاتهم العقائدية إلى أن الشخصية العربية متشابهة في كلّ البلدان العربية. وكذلك انتقده الشيوعيون لعدم اعتماده المنهج المادي التاريخي في دراسته.
أما أكثر ما أثاره الوردي في طروحاته تلك المتعلّقة بتصنيف المجتمع العراقي، ومنها كثير من التحليلات التي يعدّها بعضهم علميةً، وبعض آخر متأثّرةً بالمجتمع الغربي، كونه عدّ فيها الشخصية العراقية "شخصية ازدواجية تحمل قيمًا متناقضة هي قيم البداوة وقيم الحضارة. ولجغرافيا العراق أثر في تكوين الشخصية العراقية، فهو بلد يسمح ببناء حضارة بسبب النهرين، ولكن قربه من الصحراء العربية جعل منه عرضةً لهجراتٍ كبيرة وكثيرة عبر التاريخ آخرها قبل 250 سنة تقريبًا". بل إن الوردي وصف العراق "بالبوتقة لصهر البدو المهاجرين ودمجهم بالسكان الذين سبقوهم بالاستقرار والتحضر. فتنشأ لديهم قيمتان: قيمة حضرية، وقيمة بدوية". وهذا الأمر جعل كثيرًا من العراقيين، وحتى المعارضين له، في حالة التصادم، عند استذكار الوردي، فيجعلونه حجّةً على ما يبررون به الصراعات التي تدور رحاها الآن. ومنهم من يراه ازدواجيًا ليس له رأي ثابت، من دون الأخذ بنظر الاعتبار أن هذه كما يقول بعضهم خصيصة يعيش فيها الإنسان أينما كان في هذا العالم، وخاصة في المجتمعات المضطربة التي لم تعش السلام في الحكم والاقتصاد، وتتصارع في السياسة والدين. بل إن الوردي في كتبه وضّح أسباب اهتمام الخلفاء والسلاطين بالشعر، ويقول ما يخص منطق الوعظي الأفلاطوني، ويعده "منطق المترفين والظلمة، وأن التاريخ لا يسير على أساس التفكير المنطقي، بل هو بالأحرى يسير على أساس ما في طبيعة الإنسان من نزعات أصيلة لا تقبل التبديل، والأخلاق ما هي إلا نتيجة من نتائج الظروف الاجتماعية".
الوردي والمنطق الجدلي
الباحث الدكتور حسين الهنداوي يقول مناقشًا الاهتمام بأفكار الوردي: "يتسع الاهتمام بالمفكر الراحل في القرن الواحد والعشرين، وتتعمّق دراسة أفكاره عن المجتمع العراقي في العالم كله. فمؤلّفاته التسعة الصادرة في حياته، وأهمها "لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث"، بأجزائه الثمانية، صارت تنشر بطبعاتٍ مختلفةٍ، وترجمت إلى لغاتٍ أخرى، كالفرنسية والألمانية والإنكليزية والإسبانية والفارسية والتركية والبولونية، وغيرها، فيما لا تزال أطروحاته المحورية في توصيف "طبيعة" الشخصية العراقية المعاصرة تثير جدالًا علميًا وسياسيًا واسعًا، وتستقبل التفسيرات والتعليقات المختلفة، بل المتضادة أحيانًا". ويشير الهنداوي إلى أنه لم يصل بعد أيّ عالم إلى ما وصل إليه الوردي، أو "من حقّق هذا القدر من النجاح حتى شعبيًا بين مفكّري العراق الحديث في مجال علم الاجتماع، وخاصة بالنسبة لعدد من الموضوعات والأفكار التي نالت شهرة واسعة لدى عموم الناس، وإن على حساب دقّتها الأصلية أحيانًا، حتى صار اسم علي الوردي يزجّ في كلّ مائدةٍ بالاستناد غالبًا إلى منطلقات خاطئة، أو مجتزأة، عمادها الجهل والفهم الاعتباطي القاصر".
لكن ما يحصل الآن أن هنالك كثيرًا من الدعوات والمقترحات التي تدعو إلى إعادة التفكير بأفكار الوردي، بين مؤيّدٍ لها ومعارض. فما كان قبل قرن حين طرح الأفكار تحتاج إلى إعادة توصيف، وحتى تحليل لهذه الأفكار. وكما يقول الهنداوي "بعد مرور نحو ربع قرن من الزمن على وفاة الوردي، بات من الضروري في رأينا إلقاء نظرةٍ جديدةٍ على منظوره الاجتماعي الخاص تأخذ بعين الاعتبار تطوّراته الجوهرية كافة، وتعيد إلى الأذهان ما كانت عليه أسسه الأصلية وتفحص ما أصبحت عليه منطلقاته في لحظاتها العليا، أو النهائية، لديه، وتسترجع الأسئلة التي لا تكفّ عن الحضور بشأنه. فنحن نعتقد أننا في حاجةٍ إلى مراجعةً نقديةً لأفكار الوردي".
خصوم الأفكار
يقول الناقد والباحث داود السلمان إن الوردي "كان يثير من حوله مع كلّ رأيٍ يقوله، ويصير جدلًا"، مؤكدًا أن الجدل "مستمرٌ حتى اليوم". وذكر أن هنالك محاولاتٍ للانتقاص منه "بغية إسقاطه ثقافيًا وفكريًا، وحتى اجتماعيًا"، معيدًا السبب إلى أن الوردي "مختلف عنهم، إذ لا يقرب إلى مناطقهم الفكرية واليقينية، وإذا قرب فهو بهدف تفنيد تلك الأفكار، حيث يراها لا تنسجم والمنطق الصحيح، ولا مع الفلسفة الحقّة". ويقول إن الوردي انتقد "كثيرًا من القضايا التاريخية والاعتقادية، وبعض السفسطات، وعالجها بموضوعيةٍ، وبعلميةٍ تامة، معتقدًا ومنتقدًا في الوقت ذاته قضايا تاريخية كثيرة دخلت إلى موروثنا الفكري والديني والاجتماعي، وهي بعيدةٌ كلّ البُعد عن الحقيقة". ويضيف أن انتقاده شمل حتى "ما يعد من المسكوت عنها، ولا يمكن التقرّب إليها، كونها محظورة، ومناطق تشوبها الخطورة والمحاذير؛ لكن الوردي بشجاعته اقتحم عرينها، وخاض في مياهها"، ونوّه إلى أن أعداء الوردي هم من "تجار الكلام، ومروجيّ الأفكار النمطية، والقضايا الأيديولوجية، فثاروا بغضبٍ نتيجة طرحه المباشر ونقده اللاذع بلا مراوغة".
وربما نجد الآن هجومًا عليه بسبب آرائه التي تصل إلى حدّ الحديث عن رجال الدين. ويقول السلمان إنه في كتابه "مهزلة العقل البشري"، ذكر أن رجال الدين "دأبوا على اعتبار قومهم خير الأقوام. ولهذا نراهم لا يعرفون من دنياهم سوى تمجيد عقائد قومهم، وثلب عقائد الآخرين. فهم يرون الفضيلة في التعصّب الطائفي، أو القومي، أو القبلي. والفاضل في نظرهم هو الذي يدافع عن طائفته في الحق وبالباطل، وينصر أخاه ظالمًا ومظلومًا"، وهو ما جعلوه "خصمهم العنيد، بدل أن يردوا عليه بأناة ورفق، ومنطق سليم". لهذا يعدّه السلمان "بمثابة ناقد حقيقي، ومفنّد كبير للأفكار الدخيلة، والمبادئ القديمة وللرؤى البالية. ولهذا أيضًا تعرّض الرجل للنقد والانتقاد، هو الآخر، وهي قضية طبيعية في نظريات الأفكار، وعالم الكتابة والبحث، وكلٌ يرى من منظاره الخاص بأنه يمتلك جزءًا كبيرًا من الحقيقة، ويروم أن يوصله للناس عمومًا".