الجمع يناديه "عبّوسي"، الشخصية التي عرفها جيلان كاملان، وهو يدور على الألسن، وصار مثلًا وحكمةً بين الناس "قابل أنتَ عبّوسي" لطبيعة الشخصية التي أدّاها الفنان الكبير حمودي الحارثي، ولم يخرجه المشاهد العراقي من ذهنه وذاكرته، حتى بعد أن أدّى أكثر من دورٍ تمثيلي، فقد لبسته هذه الشخصية ولم يخرج من جلبابها، وغطّت حتى على اسمه الذي لا يعرفه الجمهور الجديد وخاصة الجيل الثاني إلّا باسم "عبّوسي"، وقد شكّل مع الراحل سليم البصري ثنائيًا لم تنساه الذاكرة الفنية العراقية. غادر العراق كما غادر العشرات، بل المئات، للبحث عن الحياة أو التخلّص من الضغط السياسي أو البحث عن الراحة، وربما كان هروبًا من هذه الشخصية، لتستقرّ به الحال في الأردن ثم هولندا، حيث وافته المنية هناك، ليدفن هناك وسط تشييع محبيه.
حياته
حمودي الحارثي من مواليد بغداد منطقة باب السيف عام 1936. كان أبوه نجّارًا مشهورًا يلقّب بصانع أبواب الأئمّة، حيث صنع أبواب المراقد في الكاظمية وسامرّاء وكربلاء والروضة القادرية، وساهم في بناء ضريح النبي حزقيال في الحلّة، وعمل أثاث عائلة الاستربادي في الكاظمية، وبيت النواب والشيخ خزعل، شيخ المحمرة في البصرة آنذاك. وقد تعلّم الحارثي النجارة من أبيه وأخيه الأكبر منه، ولأن النجارة أقرب إلى النحت، درس في معهد الفنون الجميلة مع الفنانين الأكثر شهرة في عالم الفن والنحت كجواد سليم وفائق حسن، لكنه ترك قسم النحت والرسم وتفرّغ للتمثيل والإخراج من عام 1958 ولغاية عام 1961 حيث كان متأثّرًا بالممثل العالمي شارلي شابلن، ومن ثم درس الفن والإخراج السينمائي لمدة عامين في فرنسا (1964-1965) وبعدها درس الفن والتمثيل السينمائي بين الأعوام 1974-1981 وهو عضو جمعية التشكيليين العراقيين. له أكثر من 500 عمل إذاعي والعديد من المسلسلات التلفزيونية، وقام بإخراج أشهر البرامج التلفزيونية التي شهدها التلفزيون العراقي، مثل برنامج العلم للجميع لكامل الدباغ والرياضة في أسبوع لمؤيد البدري.
لم يتقبّل الجمهور العراقي أية شخصيةٍ جديدةٍ غير شخصية عبّوسي، حتى حين أخرج هو مسلسل "تحت موس الحلاق" بجزئه الثاني لم يتقبّله الجمهور لغياب هذا الشخصية. ولم يعرف عنه الكثير. ماذا كان يفعل في هولندا التي لجأ إليها، ومنها إقامته لأكثر من 15 معرضًا للنحت، وكان يلتقي الجاليات العراقية في ألمانيا هولندا والدنمارك والسويد. هذا الفنان العصامي لم يزل عنوانًا للفن الكوميدي الهادف، الذي تزعزع بعد كلّ هذه السنوات ليتحوّل إلى فنّ تهريجي.
آراء وأقوال
تقول عنه لبنى، ابنة الفنان العراقي الراحل أسعد عبد الرزاق، إنه كان واحدًا من أنبل الشخصيات، وتضيف أنه ووالدها من منطقةٍ بغداديةٍ عريقة، أنجبت الشاعر ملّة عبود الكرخي، وأسعد عبد الرزاق، وإسماعيل رزوقي، وانتمى إلى فرقة "14 تموز" التي أسّسها والدها مع الفنان الراحل وجيه عبد الغني، وهذه الفرقة هي التي أنتجت مسلسل "تحت موس الحلاق".
ويقول الكاتب المسرحي والناقد علي حسين إن الراحل تمكّن بقدرته التمثيلية التلقائية من أن يدخل إلى قلوب ملايين العراقيين، حيث قدّم مع الراحل سليم البصري ثنائيًا فنيًا ارتقى إلى مستوى الثنائيات الفنية التي شاهدناها في السينما العربية. ويضيف أنه واحدٌ من أهم الممثلين الذين تمكّنوا من رسم شخصيتهم بدقّةٍ ومهارةٍ احترافيةٍ، واستطاع من خلالها أن يدخل بيوت العراقيين. وأشار إلى أن الراحل ينتمي إلى جيلٍ من الفنانين المثقّفين، وقد أهّلته ثقافته في مجال الفن التشكيلي، لأن يرسم صورته كممثلٍ، إضافة إلى قدرته كمخرج تلفزيونيّ قدّم العديد من البرامج والمسلسلات التي لا تزال جزءًا من الذاكرة المضيئة للتلفزيون العراقي. ويستدرك الناقد أنه ممّا يؤسف له أن هذا الفنان الكبير تم إهماله من قبل المؤسّسات الفنية، والغريب أن الدراما العراقية في سنواتها الأخيرة استبعدته وكان بالإمكان تقديمه كواحدٍ من روّاد فن التمثيل في العراق، مثلما يحصل في الدراما المصرية والسورية والخليجية، مؤكدًا على أنها محنة الفن العراقي عندما يدير ظهره لأبرز نجومه ورواده.
فيما يقول الكاتب الدرامي والقاص شوقي كريم: "كلما التقينا أشعر بخيبات الروح التي يعيشها وهي تقطر دمًا ينزف، حاولت إيقافه لكني أعلنت فشلي المصحوب بمخاوف كثيرة وكبيرة. الراحل كان يحدّثني كلما التقينا (منو آني؟ عبّوسي الذي لا يريد مغادرتي أم حمودي الحارثي ابن النجار. أنا عراقي الأوجاع أم هولندي ترك أولاده يسكنون غربتهم؟ فكّر معي في طريقٍ لخلاصي؟!!). ويشير كريم إلى أنها كانت محنة كبيرة والأعظم محنة عبّوسي الذي وجد نفسه وحيدًا يرفل بخيباتٍ متتاليةٍ لا قدرة له على فهم مراميها، وكيف يمكنه تجاوزها. وأضاف أن الراحل أضاع الدرب بعد رحيل حجي راضي (سليم البصري)، ومعه ظلّ حمودي الحارثي المليء بهواجس المحنة يلهث دومًا من أجل إيجاد دربٍ آخر يمنحه بعض الرضى عن عطائه الذي أوقفه عبّوسي بغتة دون أن يمنح الحارثي فرصةً لتجديد نفسه التوّاقة للتجديد. ويمضي شوقي كريم بقوله إن المسافة مع الحارثي تغدو ضيقة، وكان الراحل يبحث عن عملٍ يغادر به شخصية عبّوسي ويعيد حمودي الحارثي. ولفت إلى أن الفكرة مجنونة، فمن يستطيع قتل عبّوسي أو إبعاده عن الواجهة بعد ثلاثة أرباع القرن من الوجود؟! عادًّا الأمر أشبه بالمستحيل لأنه أراد الهروب إلى الإخراج والتمثيل مرارًا لكنه ما استطاع أن يقدّم شيئًا متميّزًا، "ظلّ عبّوسي الذي طغت شهرته على كلّ شهرة تلاحقه أينما اتّجه".
أما الإعلامي والناقد عبد الجبار العتابي، فقد عنون رحيله بقوله "العراق بلا عبّوسي"، وقال إن شخصيته رافقت العراقيين لأكثر من ستين عامًا. وأشار إلى أنه ربما يكون من أكثر الصحافيين الذين أجروا معه حوارات، "كنت أريد تأليف كتابٍ عن حيويته ونشاطه، وتعبه وحزنه حتى الساعات التي دخل فيها دار المسنّين في هولندا، بطلب منه، وكان على موعدٍ لزيارة بغداد الشتاء الماضي ليسلّمني الأرشيف الذي لديه، ولكن حالته الصحية لم تساعده". وذكر العتابي أن الراحل ليس مجرّد حياة، بل تاريخ لمرحلةٍ حياتيةٍ مترعةٍ بالكثير من النشاطات والمواقف والحكايات، "قد لا تنظر إليه ممثلا إلّا في مسلسل (تحت موس الحلاق) لكن الجميع يغفله إداريًا ومخرجًا وعاشقًا للفن وإنسانًا يمتلك الكثير من العلاقات والصداقات".
وعن الكوميديا هذه الأيام، قال العتابي: "لم تعد الكوميديا ذات فعالية كما في السابق، أيام سليم البصري وحمودي الحارثي وراسم الجميلي وخليل الرفاعي وأمل طه وسواهم من الفنانين الذين قدّموا أعمالًا أضحكت الجمهور، وركزت في أذهانهم وقلوبهم وجعلوها أمثالًا شعبيةً تزيّن الحياة برقّتها ولطفها. الكوميديا حاليًا هي إسفاف، من السهل على المؤلّف أو المخرج أو الممثل أيضًا أن يلجأ إلى المفردات التي تنتشر في الشارع ونقلها إلى الشاشة، لأنهم لا يأبهون لغير ما يحصلون عليه من أرباحٍ وشهرةٍ في ظلّ عدم وجود رقابة ولا روادع أخلاقية، لذلك انتشرت كوميديا التفاهة المليئة بالتهريج والصراخ والحكايات السمجة التي تجد فيها بعض الفضائيات مجالًا رحبًا لملء فراغات ساعاتها".
وتساءل الكاتب رياض محمد: "لماذا لم تتمكّن الدراما العراقية من إنتاج كوميديا ناجحة وراقية؟ ولماذا ليس لدى العراق أعمال كوميدية تعلق بالذاكرة باستثناء ‘تحت موس الحلاق‘، الذي أنتج قبل أكثر من 60 سنة وبموارد بسيطةٍ أو بضعة أدوار لفنانين آخرين مثل قاسم الملاك ومحمد حسين عبد الرحيم وأمل طه؟". وتساءل أيضًا: "هل يعقل أن شعبًا فيه 45 مليون إنسان لا يستطيع إنتاج كوميديا تعبّر عنه ويستعيض عنها بما تنتجه شعوب أخرى؟".