}

خان أسعد باشا العظم: "افتح لنا باب"...

سمر شمة 9 أغسطس 2024
أمكنة خان أسعد باشا العظم: "افتح لنا باب"...
تم افتتاحه عام 2005 ليصبح مكانًا للفعاليات الثقافية
تستوقفني الأماكن القديمة الحنونة التي عاشت الكثير من نوائب الدهر، تستوقفني وقد احتضنت في ثناياها قصصًا مؤلمة ومفرحة، ولكنها بقيت عبر الزمن على ما هي عليه من هيبة ووقار، يحاصرها الحزن والفقد والبحث الدائم عن وجوه غابت وتاريخ يفيض بالذكريات والأرواح التي تتعب وتشيخ وتتعثر لكنها لا تموت.
إنها صداقة الأمكنة والحارات العتيقة الضيقة الواسعة، تذبل أحيانًا، تعيش خيبات الأمل، ثم تنهض من جديد.
بهذه المشاعر رحت أتجول بين خبايا مدينة دمشق القديمة أقدم مدينة مأهولة بالعالم وأقدم عاصمة في التاريخ، قاصدةً خان أسعد باشا العظم، أبحث بعيوني وروحي عن الحكايات التي تعشعش بين جدرانها ونوافذها المفتوحة على العالم بأسره، المسكونة بكل ما حدث من قهر وخيبات أمل وموت ودمار على أيادٍ كثيرة، تحمل وزر ما سُفك من دماء.
إنها الأماكن التي تصنع المشاعر والعواطف والأحاسيس وتشكل بعض مكونات الإنسان وربما هي لحظة من لحظات الوقوف على الأطلال لرأب الصدع العميق الذي يلازمنا بعد كل هذه الخسارات الكبيرة والصغيرة.
وإنها دمشق "ملتقى الحلم ونهايته. تحملت الجميع. وتتقن كل اللغات. لديها من الصبر ما يكفي. ومن الحبال ما يكفي لنشر الغسيل الوسخ للعالم أجمع". ولديها من الخذلان وظلم الأهل وذوي القربى والغرباء ما يجعلها تئن من الوجع ثم تستفيق.
تجولت في حاراتها الصامتة وشوارعها المُحبة، بحثت في قهوة النوفرة الشهيرة وأنا في طريقي إلى الخان عن وجوه أعرفها ولا أعرفها، وعن الحكواتي يروي بطولات عنترة بن شداد وحكايا الظاهر بيبرس والزير سالم في هذا المكان الذي يتجاوز عمره الثلاثمائة عام ولكنه لا يروي حكايات أهله وقصص السوريين الموجعة حتى البكاء.
وصلت إلى سوق البزورية التاريخي الواقع إلى الجنوب من الجامع الأموي الشهير والذي يضم الخانات التاريخية والمتاجر والمباني وتنتشر فيه روائح التوابل والبهارات والورد الجوري ولطف البائعين وكياستهم المعهودة.

يغطي الخان مساحة 2,500 متر مربع 

وجدت نفسي أقف أمام البوابة الرئيسية لخان أسعد باشا العظم وقد كُتب عليها: "لله خان الخير يُقصد. بالسعد واليمن قد تشيّد". وعبارة أخرى نحن بأمس الحاجة إليها في هذه الأيام: "يا مفتح الأبواب، افتح لنا باب".
إنه الخان الشهير، أكبر خانات مدينة دمشق القديمة، يقع وسط سوق البزورية، ويغطي مساحة 2,500 متر مربع، بناه الوالي أسعد باشا العظم سنة 1167 هجرية - 1773 ميلادية. يحتل مكانه بين المدرسة التنكزية المعروفة بالمدرسة الكاملية أو دار القرآن والحديث، وحمام نور الدين الشهيد، أقدم حمامات دمشق القديمة المصنفة في تاريخ التراث العالمي، يقع جنوب شرقي الجامع الأموي، ويطل من الجهة الجنوبية على سوق الورق الضيق، أما جداره الشرقي فيطل على زقاق ضيق يُدعى نزل معاوية.
وُصف بأنه من أرقى الخانات بدمشق، وأكثر الأعمال المعمارية طموحًا في المدينة، استضاف تاريخيًا قوافل قادمة من بغداد والموصل وبيروت وحلب وأماكن أخرى من الشرق الأوسط خلال العهد العثماني، وكان ملكًا خاصًا للوالي أسعد باشا، ثم انتقلت ملكيته إلى عدد من التجار، إلى أن استملكته مديرية الآثار السورية.
تعني كلمة "خان" المشتقة من الفارسية "المبيت"، وقد كان هذا الخان فعلًا مكانًا لاستراحة التجار ونومهم ولتبادل البضائع المتنوعة.
يتألف من طابقين: الأرضي مكون من 40 غرفة تتوزع على 11 جناحًا وكانت مخصصة لتخزين البضائع والسجلات التاريخية وتدوين الصفقات، والطابق الثاني مكون من 44 غرفة وهي غرف إفرادية مخصصة لمبيت التجار واستراحتهم. إضافة إلى غرفة الخانجي مدير الخان، وكانت مطلة على السوق لمراقبة حركتها وحركة القوافل التي تدخل إلى المكان.
يوجد في هذا الخان أربعة أعمدة تحمل تسع قباب متناوبة بالارتفاع لتوزيع الضوء والهواء، ومسجد البزورية وهو جزء من المبنى و33 محلًا تجاريًا من ضمن كتلته.




تحتوي البوابة الضخمة للخان على "مقرنصات" هي من عناصر العمارة الإسلامية المميزة، شكلها محدب، تشبه حدوة الفرس وهي مزيج من المقرنصات الأيوبية والمملوكية، وفي منتصف البوابة توجد كتابة تمجد أسعد باشا كوالٍ لدمشق بالخط الكوفي، وعلى طرفي البوابة ثلاثة أعمدة مزخرفة تعود للفترة اليونانية والهلنستية التي أسس فيها سلوقس نيكاتور، الجنرال المقدوني اليوناني، الدولة السورية عام 312 ق. م، وعلى طرفيها أيضًا سبيلا ماء، عليهما دائرة تُسمى معماريًا "عين البقر" تعود للفترة الإسلامية.
عند العتبة الأولى للخان يوجد قوسان دائريان يفضيان إلى المدخل الثاني منه ويعودان للفترة اليونانية، والمدخل طويل يؤدي إلى باحة الخان، وهناك درجان جانبيان للطابق الثاني وسقفه مزخرف بأشكال هندسية وبزهرة اللوتس المستقاة من الحضارة العربية الإسلامية.
في الطابق السفلي يوجد 21 مخزنًا وأغلبه مزود بمستودعات، وفي القسم الشمالي الغربي مسجد صغير يؤدي إلى خارج الخان. أما الطابق العلوي فيضم أروقة مشرفة على الباحة وجناحًا للخدمات، وجميع الغرف مغطاة بقباب صغيرة وذات أبواب ونوافذ ما زالت تحتفظ بأصالتها مع أقفالها. أما باحة الخان فهي ذات فتحة سماوية دائرية توحي بأنها كانت مغلقة بقبة، وقد تمت إضافة قبة زجاجية إليها وفي وسط هذه الباحة بركة ماء مثمنة، ويحيط الفتحة السماوية قباب تغطي الباحة وقد أُعيد ترميمها وهي ترتفع عشرين مترًا، أما جدرانها التي تشكل واجهات الغرف فهي مبنية من الحجر الأبيض والأسود بمداميك متناوبة.
قام بتشييد الخان سوريون، ويبدو ذلك واضحًا من تأثر بنائه بالحضارات التي مرت على دمشق بدءًا من العصر الهلنستي مرورًا بالروماني والإسلامي، فضلًا عن التأثر بالجوانب الفكرية والفلسفية لهذه الحضارات.

قام بتشييد الخان سوريون، ويبدو ذلك واضحًا من تأثر بنائه بالحضارات التي مرّت على دمشق

الجدير ذكره أن دمشق تعرضت عام 1759 م إلى زلزال كبير مدمر، تهدم على إثره عدد من القباب، وتعرض الخان لحريق كبير أتى على الأثاث والسجلات التي احترق بعضها وسُرق بعضها الآخر. ولكن في نهاية القرن الثامن عشر رممه تجار البزورية بشكل بسيط لكي لا ينهار، وفي عام 1979- 1980 استملكته وزارة الثقافة - المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية وقامت بعمليات ترميم فيه استمرت 25 عامًا.
تم افتتاحه عام 2005، ومنذ ذلك الحين أصبح مركزًا للنشاطات الثقافية والفنية المتنوعة ومعلمًا هامًا من معالم هذه المدينة التاريخية.
عُقدت فيه المؤتمرات والندوات والحوارات الثقافية والفكرية، وأُقيم العديد من عروض الأزياء ومعارض الفن التشكيلي والمهن اليدوية والحرفية التراثية الدمشقية، والمهرجانات والأمسيات الموسيقية والغنائية الطربية والتراثية الشعبية، ومعارض للخط العربي وكتب التراث الشعبية وعروض لفرق فنية من داخل سورية وخارجها، وورشات عمل في فن الخزف للصغار والكبار، وعروض سينمائية، ومعرض مركزي تربوي للفنون الجميلة، وملتقى دمشق الثقافي الأول 2016 وأمسية لفرقة كورال أساتذة المعهد العالي للموسيقى بمشاركة وحضور أوركسترالي 2020 ومعرض للأماكن الأثرية التي تعرضت للهدم والدمار في: أفاميا - ماري - إيبلا وتم توثيقها بمعرض فوتوغرافي بين 2013-2014 وفعاليات أخرى عربية وعالمية ومحلية، كما صُوِّر فيه العديد من المسلسلات الدرامية السورية.




انبهر بخان أسعد باشا كل من شاهده، ووصفته كتب الرحالة والمستشرقين ومنهم المغربي ابن بطوطة، أبرز الرحالة في تاريخ البشرية، والذي قدم عنه وعن دمشق شهادة ثمينة: "دمشق أيتها العريقة. أيتها الرائعة. فيكِ يرى الإنسان أن النقوش والزخارف قريبة منه ووسط حياته اليومية. حيث تقع عيون الزائر لهذه المدينة (الجلّق) مباشرة على آثار مهمة: المسجد الأموي والعدلية والظاهرية وضريح صلاح الدين الأيوبي، وبالقرب من هناك خان أسعد باشا ذو القيمة المعمارية العالية وقد جُمع فيه أهم كنوز دمشق".
وقال الرحالة د. لورته في كتابه "سورية اليوم" 1830: "في السوق مخزن كبير يُدعى خان أسعد باشا، مبني بمداميك جميلة بيضاء وسوداء، وهذا المبنى محاط بعدد لا يُحصى من الممرات، وتقودنا الأدراج إلى المخازن والغرف حيث تتكدّس البضائع الثمينة".
وصفه الشاعر الفرنسي ألفونس دولا لامارتين، أحد روّاد الرومانسية في العالم، والذي زاره في 1833 م في كتابه "رحلة إلى الشرق" بقوله: "خان أسعد باشا من أجمل خانات وقيثارات الشرق. وقد ذكرتني قبابه بقباب كنيسة القديس بطرس في روما".
وقال عنه المؤرخ الشعبي والمتصوف شهاب الدين أحمد بن بدير المعروف بـ"البديري الحلاق": "ليس له نظير في سعته وجمال زخارف واجهته وطراز بنائه". بينما وصفه المؤرخ نعمان القساطلي في كتابه "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء" بأنه: "أشهر خانات التجار وأعظم خانات الشام".
أما بركة خان، زعيم القبيلة الذهبية، أولى قبائل التتار إسلامًا، فقد قال عنه: "هو قطعة نفيسة من طراز العمارة الإسلامية التي لا نظير لها في العالم. إن شعبًا فيه مهندسون لديهم الكفاءة لتصميم مثل هذا الخان وعمال قادرون على تنفيذ مثل هذا البناء لجدير بالحياة والفن والاحترام".
كان الخان، كما دمشق القديمة، يعجّ بالزوار والسياح قبل السنوات العجاف التي جعلت الشحوب والذبول والموت والقهر يسيطر على الأخضر واليابس والبشر والشجر والحجر، ولكنه الآن ورغم كل ما حدث ما يزال يضجّ بالهيبة والوقار رغم الخواء على أرضه وجدرانه وعلى البحرة وسطه وقد جفّ ماؤها وغفت نافورتها الحزينة إلى حين.
*****

خرجت من الخان تطاردني الأسئلة: "هل ما زالت السماء في دمشق تسير على الطرقات القديمة حافية. هل ما زال المسافر يغني في سره: لا أعود من الشام حيًا ولا ميتًا".
ولكن "إنها دمشق لا تعبأ بكارهيها وتتفرغ للغرباء الذين ظنّوا أنهم أسيادها، ليستفيقوا فجأة وإذ بهم عالقين فوق أظافرها" وأظافر الطيبين الحالمين أبدًا من أبنائها.

مراجع مختارة:

- بوابة التاريخ الإسلامي.
- حوادث دمشق اليومية، البديري الحلاق. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.