ها هي الحرب تقترب من انعقاد عامها الأول، الخراب والموت هما المشهدان الأكثر حضورًا في لبنان وفي غزة، التي لا يقارن خرابها مع أي خراب آخر في العالم. ثمة مشاهد وتساؤلات عن عيش النازحين في الأماكن التي نزحوا إليها، والطرق التي يتدبرون بها مسالك حياتهم، ثم نظرتهم إلى الحياة وسط ما يحيط بهم من أخطار.
النازحون اللبنانيون والتضامن الأهلي
في لبنان يعاني سكان القرى الحدودية الجنوبية الذين نزحوا إلى بلدات أكثر أمانًا، من تبعات التهجير، وقد تركوا وراءهم أرزاقهم وجنى أعمارهم، من منازل ومزروعات ودواب ومؤسسات ومحلات تجارية ومهن، في مهب القذائف الفوسفورية والفراغية الحارقة التي يستخدمها الجيش الاسرائيلي في حربه. لا إحصاءات دقيقة عن الوظائف والمهن التي يعتاش منها النازحون بعيدًا من قراهم، فيما شكل التضامن الأهلي والبلدي في القرى المضيفة، عاملًا مهمًا في التخفيف من معاناتهم، إلا أن العودة إلى قراهم ومنازلهم، حتى ولو كانت ركامًا هي أكثر أمنياتهم.
لا مكان آمنًا في غزة
يختلف الأمر في غزة، التي غيّرت الحرب معالم المناطق والأحياء والشوارع فيها بشكل كلّي، بل إن المساحة الآمنة التي كثيرًا ما يدّعي الجيش الاسرائيلي إتاحتها للمدنيين، ضئيلة جدًا، وغالبًا ما تكون موضع استهداف، بل إنها بمثابة فخ لاصطياد العزّل من الأطفال والنساء، ولنا في المدارس ومراكز الايواء والمخيمات والمستشفيات ودور العبادة، وتكايا توزيع الطعام، مثال على ذلك. "لا مكان آمنًا في غزة"، هي رسالة يكتبها الغزّيون على صفحات التواصل الاجتماعي، يبلغون العالم من خلالها ما يتعرّضون له من إبادة يومية، وهم بذلك لا يعكسون في كلماتها فقدهم للحياة الآمنة فحسب، بل فقدهم أيضًا مساحة تتسع لأمواتهم.
لا مساحات للموتى
نعم في غزة المئات، وربما الآلاف، لم يحظُوا بشاهد قبر أو مكان يضم رفاتهم. جثث كثيرة تعفّنت ونهشتها الحيوانات، ومنها ما ذاب بتأثير من القذائف الحارقة. هكذا يتّضح أن حرب الإبادة التي يشنّها الجيش الاسرائيلي لا تهدف فقط إلى قتل الغزّيين، بل إلى محو أجسادهم، وحرمانها من أن يكون لها مرقد واسم وشاهد قبر وذكرى في أرض فلسطين. هذا ما أشارت إليه عروبة عثمان، في بحثها المنشور في مدونة "حبر"، والذي تبيّن فيه نظرة الإسرائيلي إلى الجسد الفلسطيني الشهيد، ومن بينها "اعتباره لم يرق بالمطلق إلى المرتبة الإنسانية، ولو بحدودها الدنيا"، وهو بذلك ينفي أهلية موت الفلسطيني كإنسان.
حياة بين الركام
"لا مكان آمنًا في غزة"، بل خراب شاسع لا نهائي، يعني أن لا مكان للنوم أو لتحضير الطعام أو للاستحمام والتزين. لا مكان للنزهة والاحتفال، لا مكان للقراءة ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، حتى الركون لأحلام بسيطة لا وقت لها، "لا مكان آمنًا في غزة" يعني لا غد تتفتح فيه العيون على شمس نهار جديد. إنه زمن القلة المفرطة والخطر الدائم حيث "تتجابه الحياة والموت، فيما قساوة العمل هي السبيل الوحيد لإنكار النقص والانتصار على الموت" كما كتب ميشال فوكو. وهي حال غزة التي تدهشنا اليوم، إنها ليست فقط مكانًا للنزوح والعطش والجوع والموت والدمار، بل إن فيها أيضًا فسحة لحياة، ربما ضئيلة وشاقة وشحيحة، لكنها قد تكون جديدة لمن كتبت لهم النجاة، حياة تطل من بين شقوق خيم النازحين الممزقة، وركام المنازل التي استخرج منها الغزّيون كل ما يمكن استصلاحه وتدويره واستخدامه من جديد، فصنعوا من بقايا الإسمنت والرمل مواقد لطهي طعامهم، وحلوا مياه البحر وجعلوها صالحة للشرب، وأعادوا رتق وإصلاح الألبسة القديمة، وصنعوا من بقايا البلاستيك والأخشاب "شبشبًا" لأقدامهم.
زراعة الأمل
من موت كثير يشتق الغزّيون حياة لهم، وإلا ماذا يعني أن تزرع امرأة نازحة خضارًا حول خيمتها. لا شك في أنها حلمت بأيام قادمة ستعيشها وتقطف فيها ثمار ما زرعته. إنها تزرع الأمل كما قالت إحداهن، وهي تراقب نباتاتها، متناسية أن قصفًا مباغتًا ربما يقتلها، ويطيح بزرعها في أي لحظة. الأمل أيضًا هو ما دفع بصاحب محل مخصّص لثياب الأفراح، إلى أن يذهب ويستخرج من تحت ركامه ما تبقّى من بضاعة، ثم يقوم بعرضها إلى جانب كومة أحجار. لم يدر هذا الرجل أن بعمله هذا يبشّر بنهاية حرب عجز الكثيرون عن إيقافها، وأنه بعرضه فستانًا زهريًا وحيدًا وسط الخراب صنع لوحة سوريالية لم يرسمها فنان من قبله (فستان زهري وسط خراب رمادي هائل).
حرف وطعام وغناء
هل ما نرصده عن محاولات الغزّيين في تدبير عيشهم هو أمل في الحياة؟ وإلا ما الذي دفع خياطًا إلى أن يستخدم دولاب دراجة نارية، بدلًا من دولاب ماكينة الخياطة، لكي يتمكن من متابعة عمله في ظل انقطاع الكهرباء. وما الذي أوحى ليافع في أن يجمع أكبر عدد من معلّبات اللحم الفارغة، ثم يملأها بالرمل ليستخدمها في إسناد حوافي خيمته؟ ألم يفكر هذا الفتى بأن قصف الطائرات أقوى من علبه الضئيلة الخفيفة الوزن؟ وكيف عنّ لفتاة صغيرة، أن تتشجّع وتعرض وصفات عن الطعام الفلسطيني "الزاكي" على صفحتها ثم تقول ضاحكة، إن مكوّنات الوصفة معظمها مفقود في ظل الحصار الذي يعيشه القطاع، وتستعيض عنها بأخرى، لتختم كلامها "إذا بدكم أي سؤال اكتبوا لي بالتعليقات" و"صحتين".
أمام إحدى الخيم، اجتمع عدد من الأطفال على هيئة فرقة فنية صغيرة، وشرعوا يغنون بصوت عال ومنتظم: "مالك يا يا حبيبي يا حبيب قلبي ونصيبي، ورد خدك فتح يا ريتو من نصيبي"، لا شك في أن الأطفال تناسوا الحرب وهدير الطائرات ليخلقوا من مساحة النسيان حياة لهم.
هكذا يؤنسن الغزّيون مآسيهم ومشقاتهم ويحيلونها إلى ما يمكن أن نسمّيه حيوات قادمة، بالرغم من أنها تبدو في ما تختزنه من عذابات وقهر ليست إلا أقل من الموت بقليل.