}

رحيل صاحب "مقبرة الكتب المنسية".. خريطة ثقافية لبرشلونة

أحمد عبد اللطيف 20 يونيو 2020
هنا/الآن رحيل صاحب "مقبرة الكتب المنسية".. خريطة ثقافية لبرشلونة
كارلوس رويث ثافون (1964 – 2020)
حين كتب خورخي لويس بورخس عن المكتبة باعتبارها تمثيلًا للعالم، والكتاب باعتباره واقعًا موازيًا للواقع المعيش، كان يبدو أنه اخترق أرضًا أدبية جدباء سيلقي فيها بذرته الوحيدة لتجف في سلام بعد ذلك. ثمة كُتّاب هكذا، يفتحون طريقًا وحيدًا لهم لكن لا يعبدونه لغيرهم، فتبدو دائمًا كأرض بعيدة. لكن النظرة الأولى إلى أدب بورخس لن تكون نظرة منصفة، تحتاج إلى النظرة التاريخية لتقييم التجربة. مجد الكاتب، في أحيان كثيرة، يأتيه من الأجيال التالية له، حين يستغلون المادة التي صنعها بيده، فيطورون فيها ويبنون عليها. ومن بين الكُتّاب الذين استفادوا من بورخس واستعملوا مادته الخام وطوروها، الكاتب الإسباني كارلوس رويث ثافون، الذي رحل عن عالمنا أمس الجمعة 19 يونيو/حزيران بسرطان القولون، بعد أن أتم رباعية "مقبرة الكتب المنسية" التي انطلقت من "ظل الريح" (2001) (أكثر الكتب الإسبانية مبيعًا بعد كتاب "دون كيخوتيه دي لا مانتشا" الشهير) ثم "لعبة الملاك" و"سجين السماء" وانتهت بـ"متاهة الأرواح".

بين البوليسي والرفيع
كانت لعبة ثافون السردية مزيجًا من الأدب الرفيع والأدب القوطي، وفيما كان يستلهم الكتب كرمز ثقافي من ناحية وذريعة سردية من ناحية أخرى ليعيد قراءة تاريخ برشلونة، مدينته، كان يعتمد على التشويق والحبكة البوليسية، ليشيد عالمه الخاص، وهو عالم فانتازي في أفكاره وواقعي في محتواه، يسلط الضوء على برشلونة الحرب الأهلية والفرانكوية ليحكي حيوات أناس عانوا من الديكتاتورية وحكم الحديد والنار. لكن ثافون لا يبني عمله على الحكاية الكبرى، بمصطلح ليوتار، إنما يذهب إلى ما هو فردي وهامشي وشخصي ليبني رؤيته الكاملة عن المرحلة التاريخية عبر حكايات صغيرة ستُشيد من تلقاء نفسها، مستلهمًا تكنيك ألف ليلة وليلة، التي سبقه إليها بورخس، ليكون الكاتب الأرجنتيني إحدى مرجعياته.
في النسخة الجديدة من الرواية الثقافية التي كتبها ثافون، كما كتبها ريكاردو بيجليا وكذلك روبرتو بولانيو، يؤسس الكاتب الكتالوني للسلاسة في الحكي والتخلي عن المجاز والزخرفة اللغوية، منتصرًا للغة أقرب للحكي الشفاهي. تنطلق "ظل الريح"، أفضل تمثيل لتوجهه الأدبي ولتصوره الجمالي، من أب يقود طفله إلى مكان سري ليعرفه إليه، المكان مكتبة مهجورة لا تضم إلا الكتب المنسية، مكتبة هي في حقيقتها مقبرة، ويطلب من الابن أن يختار كتابًا. باختيار كتاب، بلمسه وقراءته، نلمس روح كاتبه ونعيد الكتاب إلى الحياة. يبدو مدخل الرواية تناصًا مع رواية "مئة عام من العزلة" حين يحمل الأب الابن ليتعرف على الثلج للمرة الأولى. تلتقي الروايتان في الرحلة القصيرة التي بعدها تتغير حياة الأبطال، طريقة تشبه طريقة الطائر حين يعلم صغيره الطيران، ثم يطلقه ليتعرف على العالم بمفرده. وفي رحلة "دانييل" الطفل في مقبرة الكتب المنسية تتولد رواية أخرى هي الكتاب نفسه الذي اختاره، وحكاية كاتبه، لينكشف من وراء الكتاب تاريخ برشلونة المختبئ، كأن الكتاب لم يكن إلا نافذة مفتوحة على أسرار، كما في "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، فكل سر يقود إلى آخر، بداية من الأب الذي يطلب من الابن وعدًا بألا يخبر أحدًا بما سيراه، لتكون الرواية محض أبواب تفتح على أبواب، طرق تؤدي إلى طرق، وفي الأثناء تتشيد الحكاية الكبرى وتكتمل اللوحة.

خريطة ثقافية
في الخريطة الثقافية الإسبانية لن نجد ذكرًا لافتًا لكارلوس رويث ثافون، إذ صنّفته الصفحات الثقافية بالصحف ككاتب بيست سيلر، ولم تتناوله الدراسات النقدية بجدية تليق باتساع رقعة قرائه ومبيعاته، بل لن يشفع له البعد التاريخي والثقافي في أعماله ليعتبره النقاد من قامات الأدب المكتوب بالإسبانية مثل خوان خوسيه مياس أو بيلا ماتاس أو خابيير مارياس أو من الأجيال التالية مثل أجوستين فرنانديث مايو أو خورجى جاريون أو سيرخيو دل مولينو أو إلبيرا نبارو وأندريس باربا. للخريطة الأدبية في إسبانيا شروطها القاسية، من حق الجميع أن يكتب ما دام له قراء، ومن حق النقد أن يقيّم التجربة بمدى إضافتها لفن السرد عبر التجديد والتجريب وليس من خلال إعادة إنتاج القيم الجمالية السابقة وصبها في قالب مستهلك. ليست الكتابة بلغة ثيربانتس سهلة، تحقيق مجد فيها غير متاح إلا لأصحاب التجارب الكبيرة، فلا يأتي التكريس إلا بعد فتح نافذة. ربما لذلك لا تتوقف المسألة على نشر كتاب، ولا على مقروئية القراء والظهور الإعلامي، فكل ذلك متاح ما دامت ذائقة القراء ارتضته، هكذا بالمنطق الما بعد حداثي الديمقراطي، حيث إتاحة كل شيء، لكن الإتاحة هنا، بالمنطق الحداثي، لها معايير. لا يمكن التشكيك، بالطبع، في موهبة ثافون، لكن الأصالة التي ينتظرها النقاد لم يتمتع بها، كانت أعماله خليطًا من أعمال آخرين، من بورخس وماركيز وإيكو، وأفكاره إعادة إنتاج. النقد الإسباني ليس ضد "إعادة الكتابة" أو "التناص" لكن ذلك حين يحدث يكون بإضافة أصيلة للكاتب.

لكن الحقيقة أن ثافون، بعيدًا عن إسبانيا، صنع مجدًا لا يمكن تجاهله: صنع خريطة ثقافية لبرشلونة يمكن من خلالها التجوال في المدينة وفي أماكنها الثقافية ومكتباتها بحيث تغدو جولة سياحية، إنها تعريف جديد للمدينة، اكتشاف من خلال عين ابنها المغترب، واتباع لخطوط حنينه. منذ أوائل التسعينيات، اختار ثافون أن يعيش في لوس أنجلوس، بعد أن فاز بجائزة إديبى لأدب الفتيان برواية "أمير الضباب"، ليكون قريبًا من السينما التي أحبها، وهناك حصل على منحة لكتابة السيناريو السينمائي سمحت له بالبقاء من عام 94، وهناك شاهد للمرة الأولى المكتبات المهجورة، ما ألهمه فكرة "مقبرة الكتب المنسية"، فنقلها إلى مدينته عبر الخيال ليمنح لبرشلونة في الواقع، كما منح للكتاب في الرواية، حياة جديدة. في لوس أنجلوس استرد ثافون طفولته في ستينيات القرن الماضي، قسوة الحياة في ظل الفرانكوية، لكنه فضّل أن يذهب أبعد في الزمن لينطلق من الأربعينيات ويغطي فترة حرجة في التاريخ الإسباني، ومن وجهة نظر طفل. هنا انتصر ثافون للنوستالجيا، كتب عن مدينة طفولته وليس عن مدينة لوس أنجلوس، مدينة شبابه. بإشارات تملأ "ظل الريح" يمكن السير في المدينة واكتشافها وإعادة تركيب حكايتها. هذا مجد ثافون، وهذا مجد الأدب الذي يجب أن يلتفت إليه النقاد أو الأجيال الجديدة منهم، ليعيدوا النظر في أدب مختلف ينتصر للحكاية في صورتها البكر، ويتفاعل مع الأدب السابق عليه.


ثافون والوسط الأدبي  
عاش ثافون ما يقرب من نصف حياته في الولايات المتحدة، وباستثناء "أمير الضباب"، كتب كل أعماله، أهمها رباعية "مقبرة الكتب المنسية" (ترجمها معاوية عبد المجيد للعربية لدار الجمل)، في أميركا الشمالية. ورغم زياراته المتعددة لإسبانيا، وشعوره بالانتماء لبرشلونة بالتحديد، إلا أنه كان يتجنب الاتصال أو الظهور في الأوساط الأدبية. وفي "لعبة الملاك" يوجه انتقادًا لاذعًا للعالم الأدبي، فـ 1% منه أدبي و99% عالم، بحسب تعليقه.

اعتقد ثافون بأن الوسط الأدبي مبني على أساس الاحتياج والمصالح الشخصية وليس على أسس المتعة بداخله، كما صرح في حوار قديم لجريدة "الباييس" الإسبانية، ما لم يجذبه فيه وفضّل البقاء على هامشه. ولعل من آرائه الحادة ما صرّح به عن أن الكتاب الموهوبين والكتابة الرفيعة أصبح مكانهم التلفزيون والسينما، ولم يبق للأدب إلا الميديوكرية، وأن التلفزيون الآن يعادل مسرح شكسبير. لذلك، لا يغيب البعد السينمائي عن أعماله، وتأثيره كسيناريست يبدو جليًا في الإثارة والتشويق والقطع، الاعتماد الكبير على الصورة المرسومة كمشهد. ما اعتبره الكثيرون "نقصًا في أدبية" أعماله، كانت بالنسبة له سمات جمالية ثابتة ومتكررة من عمل لآخر.
في الـ 55، وبعد عامين من الصراع مع سرطان القولون، استسلم ثافون للراحة الأبدية ليستقر المطاف بجسده في مقبرة، لتظل روحه ساكنة في كل كتبه، يستخرجها القراء كلما قرأوا له، كما كان يعتقد وكما نظن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.