}

رحيل ماجدة الجندي.. صاحبة صفحة "غذاء العقول"

هشام أصلان 21 ديسمبر 2021


فقدنا هذه الأيام الكاتبة الصحافية المصرية ماجدة الجندي. إنه خبر أصاب أغلبنا بصدمة وحزن. هو فقد عزيز لسيدة كانت محل تقدير الجميع، ومحبة هادئة من دون صخب، وسيرة ممتدة مصحوبة بالجمال في عدة نواح ومستويات. هي زميلة الصف اللامع لأبناء مهنة الصحافة في جيلها، والأستاذة الحنون لمجموعة من الأسماء في جيل لاحق، أسماء سيسطع نجمها ويحكي أصحابها كثيرًا عن فضل الجندي المهني والإنساني عليهم في البدايات، ثم هي أيضًا السيدة الراقية، أنيقة اللقاء، ذات العين المتابعة للأجيال الأحدث ومعرفتهم جيدًا بالاسم، حتى إذا قابلت أحدهم مصادفة تدهشه مناقشتها معه لما كتبه وقرأته هي، لتصبح من هؤلاء القليلين الذين يمنحونك لحظات فارقة ببساطة بين ابتسامة وسلام حميمي.

وماجدة الجندي أستاذة، وكيان من المؤكد لم يكن سهلًا صناعة استقلاله في ظل ارتباط اسمها باسم فادح الحضور، حيث هي زوجة الكاتب الكبير واللامع أدبيًا وصحافيًا جمال الغيطاني، وحيث يعرف جميعنا دورها في دعم مشواره الكبير، وحكاية علاقة شهيرة، بدأت بينما هي صحافية تحقيقات واعدة، وهو محرر عسكري وأحد أبرز وجوه أدباء جيل الستينيات.

التقيتها مرة وحيدة منذ سنوات في معرض القاهرة للكتاب يوم توقيع كتابها "كما تدور عجلة الفخار"، الصادر عن دار العين، وكان لقاؤها جميلًا ورافعًا للمعنويات وكتبت لي إهداء أخجل من نشره في ظرف كهذا، ثم لم ينقطع التواصل أبدًا حتى قبل شهور قليلة، قبل أن تختفي عن وسائل التواصل، ولم يأت في ذهني مسألة أنها قد تكون مريضة. جاء الخبر صادمًا، اتصلت بأصدقاء للسؤال إن كانوا يعرفون شيئًا عن مرض مرت به ولكن أحدًا ممن هاتفتهم لم يكن لديه معلومة سوى استنتاج أن يكون الورم الخبيث الذي شفيت منه منذ سنوات ربما يكون تجدد.

قضيت ليلة خبر رحيلها بصحبة كتابها الذي كنت قد قرأته وقت صدوره. ذهبت يدي إلى مكانه في المكتبة من دون مجهود في البحث، وهو ما يحدث مع قليل من الكتب، بينما أعرف أن شيئًا من هذا سببه، فضلًا عن أهمية الكتاب طبعًا، محبة شخصية للسيدة صاحبة الحضور الطيب والأثر الجميل.




والكتاب، الذي أعده وكتب له مقدمة الكاتب إبراهيم فرغلي، يأتي في قسمين، الأول مجموعة من العروض لتنويعة من الكتب المهمة، بينما القسم الثاني عبارة عن مختارات من حوارات أجرتها مع مجموعة من كبار الكتاب على مستوى العالم، ولقاءات لا أتصور أنها توفرت لكثير من الصحافيين والكتاب المصريين أو العرب، وربما بعضها، في حدود قراءاتي، لم يتوفر مثله لأي صحافي مصري أو عربي. أنت تتحدث عن أسماء، على سبيل المثال، من قبيل غونتر غراس وأمبرتو إيكو وأندريه ماكين. هنا أيضًا حوارات صحافية مع محمد حسنين هيكل والكاتب التركي نديم غورسال وغيرهما من الأسماء البارزة جدًا.

وفضلًا عن قيمة الانفراد الصحافي بالوصول إلى تلك الأسماء وإجراء حوارات مهمة وشيقة معها، أنت أمام مستوى من الكتابة يصنع من التناول الصحافي جنسًا أدبيًا، وثراء تفتقده صحافة لحظتنا الراهنة، ليس بسبب قلة المواهب وإنما بسبب انحسار اهتمام المؤسسات الصحافية بالقيمة والجمال لصالح اهتمامها بـ"التريند" وعدد المشاهدات و"اللايكات" على فيسبوك، وجوانب أخرى لسنا في معرض تناولها.

جاءت ماجدة الجندي من مدينة المنصورة إلى القاهرة بصحبة عائلتها، وتعلمت في إحدى المدارس الفرنسية، كانت تكبر بينما مصر تعيش أجواء هزيمة يونيو 67. التحقت بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 71 فيما بدأت عملها الصحافي وهي لا تزال طالبة بالكتابة في مؤسسة روز اليوسف بمجلتيها "روز اليوسف" و"صباح الخير"، حيث يحكى عن لقائها الأول بشريك عمرها الروائي الكبير جمال الغيطاني بينما كان الاثنان يغطيان وقائع حرب الاستنزاف، واستكملت مشوارًا مهمًا في صحافة التحقيقات، قبل أن تؤسس إحدى أبرز وأشهر صفحات الكتب في الصحافة المصرية وهي صفحة "غذاء العقول" في جريدة "الأهرام" لمدة عشر سنوات، بين عامي 2000 و2010، وفي مؤسسة الأهرام، أيضًا، ترأست تحرير مجلة "علاء الدين" التي هي إحدى أشهر المجلات في تاريخ صحافة الطفل المصرية، بالإضافة إلى رئاستها القسم الثقافي في مجلة "الأهرام العربي" الأسبوعية، كل ذلك حتى إبعادها عن عملها في "الأهرام" بطريقة غير لائقة قبل ثورة يناير بنحو عام، فيما لم يقل أحد، وقتها، أي كلام رسمي عن سبب إبعادها، وفيما حدث أن أصابها ورم خبيث في الوقت نفسه، لتبدأ مع زوجها وباقي أسرتها رحلة علاج في الخارج وضعت فيها الأسرة كامل تركيزها ومجهودها حتى تعافت، وكنا نظن أنها لا تزال بخير حتى جاء الخبر الحزين ففقدنا، في خسارة غالية، سيدة شديدة الأناقة والدفء الإنساني، وواحدة من أبرز "الأسطوات" في الصحافة المصرية.


مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.