}

"هذا النص مفقود!".. أدباء يتذكرون نصوصهم الضائعة والمحذوفة

صدام الزيدي صدام الزيدي 18 نوفمبر 2022
هنا/الآن "هذا النص مفقود!".. أدباء يتذكرون نصوصهم الضائعة والمحذوفة
(Getty Images)

 

سأل منبر "ضفة ثالثة" عددًا من الأدباء والكتاب العرب، ممن مروا بتجارب ضياع نصوص وكتابات أدبية: ما هو شعورك حيال نص كتبته فكان مصيره الفقد والضياع لسبب ما، أو حيال نصوص كتبتها على أجهزة الحاسوب أو الموبايل أو منصات التواصل وأمست مفقودة بسبب خطأ تقني غير محسوب، وحيال أخرى قمت بحذفها لعدم رضاك عنها، ولِما نحذف ما نكتب؟

ويأتي هذا الملف متماهيًا مع حالة الفقد والتشظي التي يعيشها المبدع العربي اليوم، تحت وطأة الحروب والنزوح وتفشي الأوبئة، واتساع دائرة القلق وتنامي الشعور بالضياع والاغتراب.

هنا الجزء الثاني والأخير:

محمّد بوحوش (شاعر وروائي/ تونس):

لحظات المكاشفة الأولى وإرهاصاتها لا يمكن استعادتها

في تسعينيات القرن العشرين الماضي أعددتُ كتابًا عن فنّ العمود الصّحافيّ. حين كنتُ بصدد توضيبه، وقد غفلتُ عن تسجيله، انقطع التيّار الكهربائيّ، وضاع ثلثا الكتاب تقريبًا. تملّكتني حسرة، وعضضتُ على شفتي. كان فقدًا، كفقد شخص عزيز. ومن وقتها ما يزال ثلث الكتاب معلّقا، فكلّما تذكّرته، تذكّرت تلك الحادثة المؤلمة.

هناك نصوص شعريّة كتبتُها على الورق، وأتلفتْ بسبب انتقالي من مسكن إلى آخر. نصوص اختفت، وما زلتُ آمل في العثور على بعضها في طيّات الدّفاتر والملفّات المتراكمة.

كما كنت أيضًا أسجّل نصوصا سرديّة وشعريّة ومقالات في ملفّات بالحاسوب. وقد تعرّضتُ لحوادث عديدة منها عطب في الجهاز، ما انجرّ عنه إتلاف تلك الملفّات دفعة واحدة. حاولت استعادة ما استطعتُ غير أنّي كنتُ دائمًا أشعر بأنّ الكتابة الأولى لها رائحة خاصّة، ولها دفقها الشّعوريّ المخصوص. قد يستعيد الكاتب نصًّا فقده بطريقة مّا، لكنّه لا يستطيع استعادة تلك الحالة النّفسيّة، تلك الطّقوس، وتلك اللّحظات، لحظات المكاشفة الأولى وإرهاصاتها. لذلك فإنّ ضياع نصّ مّا هو بمثابة ضياع لحظات لا تستعاد.

أحيانًا حين أراجع نصّا شعريّا أو سرديّا قديما، وأقوم بإعادة صياغته يصبح نصًّا آخر مختلفًا. بعد أن أتركهُ، وأعود إليه أجدني حياله حائرًا كنقطة تعجّب، مقارنًا بين الأفكار الأولى والثّانية، وبين المقاصد الأولى والتّالية، فأجد فجوات ومسافات، وأترك النّصّ معلّقًا دون أن ألتفت إليه مجدّدًا.

في حالات عديدة، وأنا أحذف تراثًا من مدوّناتي، أكانت في جهاز الحاسوب أو في بعض مواقع التّواصل، أقول في نفسي: "ترى أين تذهب تلك النّفايات الرّقميّة؟"، وأتساءل مجدّدًا: "ماذا لو كتبتُ نصوصي على الورق بدل الحاسوب؟" وأضيف: "لعلّ للورق روحًا ووهجًا وحميميّة عكس الحاسوب أو الآلة الّتي سلبتني تلك العلاقة الحسيّة بالورق".

أشعر في حالات أخرى باستلاب وغربة حين أكتب مباشرة على الحاسوب فكأنّما نزعتُ ثيابي، واختفت منّي دون أن أستطيع رؤيتها معلّقة في غرفة نومي ومكتبي. والأطرف، بل والأغرب من هذا، أنّ هذا المقال الّذي كتبتهُ ضاعت فقرة منه حين كنتُ بصدد تسجيله على وسيط إلكترونيّ. ترى هل حدث ذلك بسبب ذكر النّصوص المفقودة؟

صبيحة شبر ومحمّد بوحوش


صبيحة شبر (روائية وكاتبة/ العراق):

أتلفتُ مقالاتي الأولى ثم ذهبت لاستعادتها من دار الكتب  

الآن أنا أكتب على الحاسوب وأمسح الكلمة التي لا أريدها أو الجملة غير المناسبة بسهولة، ولكن قبل الكتابة على الحاسوب كنت أستعمل دفترًا لكتابة مقالاتي. في بداية نشري في الصحف العراقية كنت أجمع المقالات بعناية، وكنت حينذاك في السادس الابتدائي ولا أدري لماذا أتلفت كل تلك المقالات في سنة 1963، ربما ظننت أنها تشكل خطرًا فأتلفتها، وحين احتجت إلى صور لتلك المقالات المنشورة، ذهبت إلى دار الكتب والوثائق، واستطعت أن ألتقط صورًا لبعض منها. وحينما نشرت باسم مستعار وأنا في الكويت، جمعت مقالاتي في محفظة للأوراق صغيرة. كثيرًا ما ضاعت قصصي ومقالاتي الموضوعة في ملفات في الحاسوب وحين أريدها أبحث عنها متذكرًا عناوينها، فأجدها، بعض القصص التي لم ترضني أتركها على الحاسوب، ربما لظني أن تصحيحها أصعب من كتابة قصص جديدة. بعض الروايات أكتبها وأصل ربما إلى الصفحة السبعين منها، ثم أتركها لعدم رضاي عنها، وعندي العديد من القصص والمواضيع البحثية والروايات متروكة على الحاسوب، ربما أفكر مستقبلًا في تصحيحها. في بداية نشري على الإنترنت سُرِقَت الكثير من مواضيعي المنشورة باسمي، فلجأت إلى نشرها في عدد من المواقع في الوقت نفسه. الآن بعد مرور هذه الفترة لا أحرص على النشر في عدد من المواقع الإلكترونية، أكتفي بصفحتي على الفيسبوك وبعض الصفحات المتخصصة بالقصص. في الحاسوب هناك ملفات، كل ملف يحتوي على ما أكتبه في شتى المجالات: بعض الملفات عنونتها باسم "القصة القصيرة"، والبعض الآخر باسم القصة القصيرة جدًا، وبعضها باسم المقالات، وكثيرًا ما يضيع الملف المعين في ملف آخر.

إبراهيم البجلاتي وعمر أبو الهيجاء  


عمر أبو الهيجاء (شاعر فلسطيني/ الأردن):

تتملكني مشاعر الفقد والضياع الفلسطيني

الشاعر والأديب الملتزم والجاد في مشروعه الإبداعي، يبني نتاجه على حالات عدة أولها الاغتراب بتفاصيله الروحية والجمالية؛ الاغتراب محملًا بكثير من المجازات والرؤى والدلائل الأكثر تجددًا في المعنى والمبنى. وهذا الشاعر بطبيعة الحال، يعيش في حالة قلق دائم على كل شيء في محيطه، بسبب ما يجري من كوارث وحروب وشتات للأرواح على هذا الكوكب المريض بالقتل والتشرد.. كغيري من الشعراء ما زلت أعيش حالات فقد كثيرة، لهذا أجدني أنا والحزن توأمان.. هاجسي في معظم نتاجي الشعري الوطن.. وطني فلسطين.. هذا الضياع والتشظي الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني وبعض الإخوة العرب من ظلم مبرمج يعضنا بأسئلة عميقة أمام جدلية الموت ومعنى الحياة. 

فقدت قصائد كنت كتبتها في مرحلة الثمانينيات من القرن المنصرم، بسبب ظرف سياسي ما، هذه النصوص المفقودة لم أستطع استعادتها.

وفي رأيي، تظل حالات الفقد والضياع والاغتراب الروحي دوافع تحفيزية لاستعادة ما يمكن استعادته من تجليات ابداعية في مخيّلة خصبة مشرعة النوافذ على سموات أخرى للتحليق.

إبراهيم البجلاتي (شاعر/ مصر):

سُرِقَت حقيبة مصمم الكتب وبينها ديواني الأول

في سنة 1989 كنت طبيبًا مقيمًا في أحد المستشفيات بالقاهرة، وكنت أستعد للانتقال إلى مركز الكلى بالمنصورة من أجل دراسة الماجستير. كنت قد توقفت عن الكتابة قبل عامين من هذا التاريخ. وفِي ليلة المغادرة، قدر لي أن أبيت بصحبة أصدقاء في شقة مفروشة بشارع قصر العيني. في تلك الليلة لم أستطع النوم مطلقًا. أضع رأسي على المخدة لدقائق، وأقوم، أعبر أجساد النائمين من الأصدقاء، أكتب نصًا قصيرًا على ضوء الحمام الساقط على بقعة محددة في الصالة، وأعود إلى السرير. في تلك الليلة كتبت سبعة نصوص جديدة. في الصباح الباكر غادرت وتركت القصاصات في شقة الأصدقاء. ونسيت الأمر كله. بعد ثلاثة أعوام تقريبًا، كنت أجهز ديواني الأول، في هذا الوقت اتصل بي واحد من أصدقاء الشقة وأخبرني أن بحوزته قصاصات النصوص التي تركتها عندهم. وأرسلها لي بالبريد. جمعت نصوص الديوان، وسلمتها في الهيئة العامة للكتاب. وبعد تجميع نصوص الديوان في صيف 1992، سُرِقَت حقيبة الفنان المكلف بعمل الغلاف في أحد الأوتوبيسات العامة، وفقدت الديوان كله، ولَم تكن لدي نسخة أخرى من النصوص المكتوبة. بعدها بقليل سافرت إلى فرنسا، ونسيت. وبعد عشر سنوات كاملة من هذا التاريخ، عثرت أمي في كرتونة مليئة بالكتب والجرائد على كراسات قديمة لي، كانت هذه الكراسات تحتوي على نصوص كثيرة لي، من بينها النصوص المفقودة من قبل. أعدت جمعها فورًا، ونشرتها في ديوان "البحر الصغير وداع رومانسي".

جنان الحسن وإبراهيم مالك


جنان الحسن (شاعرة وكاتبة سورية/ فرنسا):

عطل في جهاز "التابلت" أضاع مجموعة قصصية كاملة

عادة حين أكتب نصًا ما أو قصة قصيرة، تكون مستقاة إما من عبارة سمعتها وتركت أثرها العميق لديّ، أو من حدث ما مررت به أو مر به أحد القريبين مني وكان له تأثيره البعيد..

نشرت البعض منها في صفحتي على الفيسبوك واحتفظت في المقابل بالبعض منها دون نشره في جهاز "التابلت" خاصتي، وذلك بهدف جمعها في مجموعة قصصية وطبعها يومًا ما..

لكن قبل وقت قريب، طرأت مشكلة تقنية في "التابلت" استدعت مني أن آخذه إلى أحد المختصين بهذه الأجهزة.. كان ينبغي أن يتم إفراغه من محتوياته ونقلها لجهاز آخر قبل البدء بإصلاحه، وللأسف الشديد اتضح بعد انتهاء الأمر بأن معظم النصوص المخزنة في مذكرته لم تنقل وضاعت في عملية الفرمتة..

كان هذا حدثًا صاعقًا بالنسبة لي.. انتابتني مشاعر كبيرة، خليط من الحزن والخيبة والفقد والضياع.. ليس هينًا أبدًا أن تفقد بنات أفكارك التي أحببتها وأثرت بك فحفظتها بحكايات وحبكات صغيرة على لسان أشخاص آخرين صنعت منهم أبطالًا تشبه بنات روحك..

فكل عبارة سمعتها وصنعت منها نواة لقصة ما كانت لتكون لو أنها لم تلامس شيئًا ما بداخلي.. ولم تستحضر فيّ مشاعر عظيمة فاضت على الورق بعد أن كانت تنعم بغفوة طويلة.. فربما كنتُ لحظتها في حالة شوق شديد أو أمر بحالة اكتئاب أو خذلان شديد، أو ربما حالة فرح طاغية. لم أتوقف عند أي منها في تلك اللحظة حتى جاءت تلك النواة التي استخرجت مني كل ما يعتلج بروحي ووضعتها على الورق..

كان ذلك محزنًا جدًا بالنسبة لي.

طبعا لم أستطع استعادتها أبدًا، كما أنني لم أعد أتذكر ماذا كتبت فيها وإن تذكرت الفكرة التي كانت تدور حولها.. لأنني ببساطة لم أعد أمتلك الروح والحالة المشاعر نفسها التي كنت أعيشها لحظة كتابتها.

اليوم نحن في المنفى على قيد الحياة ولكنني لا أظن أبدًا بأننا على قيد روحها حقًا.

إبراهيم مالك (شاعر/ موريتانيا):

كثيرًا ما ضاعت مني قصائد

حاول رولان بارت أن يجرّد المؤلّف من بيئته، وكل الظروف والسّياقات التي دفعته لارتكاب حماقاته الأدبية، أو إبداعه الذي سيُثنون عليه دون شك!

وحاولت أنا انطلاقًا من ذلك أن أفصلَ بعض نصوصي عنّي، دون أن أعود إلى سياقاتها، لكنني أعود إلى لغتها، وطريقة كتابتها، هكذا كأنّني أتخلص مني في مرحلة معينة، لأجدني في مرحلة أخرى أكثر نضجًا وقربًا مني، لذلك ليست الكتابة إلا تشذيب مستمر، قصّ ومحو وضياع أبديّ.

وهذا ما يؤكد أن النصوص التي تخلصتُ منها عن قصد، كانت أكثر من النصوص التي ضاعت مني دون قصد. ربما هذا نتاج لنظرتي للواقع الأدبي، فأنا أهرب من نصوصي دائمًا ولا أدري كم مرّة أعدت قراءتها.

ليس هربًا بالمعنى الفيزيائي للكلمة، قد يكون هربًا سيكولوجيًا من الحالة التي كنتُها سابقًا، إلى أخرى أكثر وضوحًا واتساقًا وأعظم جمالًا ورؤية، إنه هربُ الكاتب من لغته الضعيفة إلى لغة أكثر جزالة.

أعود وأطرح السؤال مرة أخرى بطريقة جلية، لماذا نحذف ما نكتب؟

هذا سؤال يدعوني للقلق، أن يكون كل ما أكتب قابلًا للنّشر، أن ينفد رصيدي اللغوي ومخزوني الثقافي، الذي أتخلص منه كل مرة دفعة واحدة، أليست النصوص التي حذفناها هي أفكار مؤجلة بحاجة إلى تركيب جديد، وإخراج آخر؟

ألا يمثل الحذف أحيانًا، اغترابًا عن الواقع، ومحاولة لتأثيثه من جديد؟!

لنعد إلى النّصوص المفقودة دون قصد، هل سبق أن استيقظت عند الثالثة صباحًا، لتدوِّن فكرة نص خطرت في بالك على الهاتف، ثم تكتشف صباحًا أنك لم تحفظها، هكذا دون سابق إنذار. تخسر ليلة من العذاب النفسي، والقلق الوجودي والأرق المستمر الذي دوّنته على شكل قصيدة، لكنّه ضاع في آخر لحظة، هذا ما يحدث معي في الغالب!

هكذا وكأنّ الكتابة في معظمها ليست سوى ظلام دامس، على حد تعبير الشاعرة الأميركية فيكتوريا تشانغ.

لا أتذكّر نصًا واحدًا، من كل نصوصي المفقودة والضائعة، وكأن ذاكرتي تعرضت لعملية سطو.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.