}

صوب مونديال أدبي يجمع الشعوب ويعرّف العالم بأدبنا وصورتنا

مها حسن 20 ديسمبر 2022


اللعبة الكروية

لم أعتد متابعة مباريات كأس العالم من قبل، إلا في أثناء حياتي في فرنسا، واضطراري إلى المشاركة مع أصحابي الفرنسيين حماسهم في المباريات التي تلعب فيها فرنسا. لكن هذه المرة، تغيرت الأمور كليًا، لا بالنسبة لي فقط، بل هذا حال العديدين من الأصدقاء والصديقات الذين وجدوا أنفسهم مهتمين بالمونديال، لأسباب تتجاوز كرة القدم، وتدخل في قضايا حساسة تمس كل منا، حيث صراع الهويات والانتماءات، والانحيازات التي تجاوزت الكرة، لأن المونديال يجري على أرض عربية، ولتقدم فريق عربي، هو المغرب، والذهاب إلى مواقع مهمة ولافتة، حصدت مواقف مماثلة في العالم العربي، وتحول الأمر لصراع هوياتي بين الغرب والشرق، بين أوروبا والعرب، بين الإسلام والمعتقدات الأخرى لدى الغرب وكذلك القيم والعلاقات التي يتمتع بها الغرب والتي يزاود بها أحيانا على العالم العربي.

ككتاب، نحن أيضًا، وجدنا أنفسنا في قلب اللعبة، من باب المتعة أولًا، ثم من باب التحليل والتفكير، وأخيرًا من باب الحسد... وهو الباب الذي أود الوقوف أمامه: حسد الرياضة من قبل الأدباء!

كتب الصديق الروائي جان دوست على صفحته في الفيسبوك: الفريق الفائز بكأس المونديال سيحصل على مكافأة مالية توازي جائزة نوبل في الأدب لأكثر من أربعين عامًا أي أكثر من أربعين كاتبًا عالميًا.

بينما، ومنذ بداية المونديال، وفي هاشتاغ خصصه الروائي المغربي يونس أوعلي تحت عنوان: المونديال كما أراه، ليجري مقارناته الأدبية على الفرق المتبارية.

ففي مباراة فرنسا انكلترا مثلًا، كتب أوعلي: بائعة الخبز، أجبرت ليدي غوديڤا، على السير عارية في شوارع كوفنتري.

وفي مباراة الأرجنتين ضد هولندا، كتب: أرامل الخميس، تواصل حلم التتويج بعد نجاتها من العاصفة على بحر الجليل.

وفي مباراة البرتغال ضد سويسرا كتب: العمى، يصيب عائلة روبنسون السويسرية.

وفي مباراة فرنسا وإنكلترا، وضع الروائي التونسي كمال الرياحي صورتين لكل من سيمون دو بوفوار وفرجينيا وولف، وكذلك قام أحد الكتاب بوضع صورة الكاتب محمد شكري إلى جوار مارسيل بروست في إشارة إلى المباراة بين المغرب وفرنسا.

ومن طرفي، أعلنت إعجابي بالكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو، مع انحيازي لفرنسا، واضعة صورة جمعت بين إمبابي الفرنسي، المندرج من أصول عربية من أمه الجزائرية، وأشرف حكيمي اللاعب المغربي.

سجال الهويات

السجال الذي أطلقه مونديال قطر، هو الأول من نوعه حسب خبرتي، وهو الأول الذي تتقدم فيه فرق عربية إلى مستويات جديدة وغير متوقعة، الأمر الذي أدى إلى اضطرابات في المشاعر وفي ترتيب الهويات، وخاصة فيما يتعلق بفريق المغرب، الذي وصل إلى نصف النهائي، وحصد اهتمام العالم العربي والشارع العربي في كل نقطة منه، وغيّر من انحيازات الكثيرين التاريخية لفريقهم الأزلي، إذا صح الوصف كرويًا، ليصبح الانحياز إلى فريق المغرب هو الأقوى.

بما أن المغرب يمكن أن يحتمل عدة أوصاف، فهو عربي وأفريقي وأمازيغي، فإن هذه الهويات راحت تتصارع حسب انتماءات الأشخاص. فالعرب مثلًا، اعتبروا الفوز عربيًا، والأفارقة اعتبروا الفريق أفريقيًا، بينما وصفت المواقع الأمازيغية الفريق بأنه أمازيغي. وفي فرنسا، أجرت الصحف الفرنسية استطلاعات رأي بين الجمهور والنخب معًا، من الذين يحملون هذا الانتماء المزدوج، للعروبة وللمغرب ولفرنسا معًا.

الممثل الجزائري جمال دوبوز أعلن انحيازه لفرنسا، بينما قال جاد المالح إن أبويه لن يكونا راضيين عليه، إن لم يشجع فريق المغرب.

ككاتبة معنية بالهويات أيضًا، ولكن من خلال علاقتي بالأدب لا بالرياضة، أنظر إلى هذه السجالات المربكة والمؤدية أحيانًا إلى العنف والتشنج، كونها بروفة تجريبية لفتح السجال بطريقة أكثر نضجًا، بعد انتهاء موجة المونديال، لتأمل مسألة الهويات، وإعادة التعامل معها من منظور حديث، غير قائم على العنف أو التاريخ الاستعماري أو الصراع كما استخدم أمين معلوف من عنوان لكتابه الهويات القاتلة، بل عبر محاولة تأسيس هويات جديدة قائمة على التفاهم والانسجام وعدم إقصاء انتماء ما لصالح انتماء آخر، وما أسميه أنا في جولاتي هنا في فرنسا، حين أتحدث عن هوياتي المتعددة، بدمقرطة الهوية وفتح أبواب أوسع للانتماء تقوم على التعددية.

لهذا فإن مونديال قطر، عدا كونه حدثًا كرويًا مهمًا، فهو بالنسبة لي، حدث فكري، حرّك الكثير من القضايا المسكوت عنها، وأجج الصراعات الداخلية لدى الأشخاص الذين لديهم انتماءات متعددة، حيث أغلب اللاعبين في الفريق المغربي، عاشوا في الغرب وحملوا جنسيات غربية، وكذلك، بعض لاعبي الفريق الفرنسي، ينحدرون من أصول عربية أو أفريقية مسلمة.

باولو كويللو كتب على صفحته في تويتر بالعربية: سانتياغو، راعي "الخيميائي"... ذهب من إسبانيا إلى المغرب (الصورة: Gettyimages)


اللعبة الأدبية: مونديال الهوية الإبداعية

لم يستطع الكثير من الكتّاب العرب، بل وغيرهم، منع أنفسهم من المساهمة في هذا الفرح العالمي، الذي لم تتمكن أية مناسبة عالمية أخرى من تحقيقه وتوليده، إذ ربطت الكرة البشرية ببعضها.

استطاع المونديال جذب الروائي باولو كويللو، ليكتب على صفحته في تويتر بالعربية: سانتياغو، راعي "الخيميائي"... ذهب من إسبانيا إلى المغرب...

https://twitter.com/PauloCoelhoArab/status/1600887783031472131

أما حلمي الخاص، وأنا أستمتع بمشاهدة المباريات من جهة، وأتابع السجالات الفكرية الموازية لهذه المباريات، فكان مرتبطًا بمشروع ربما يرى الضوء ذات يوم: مونديال أدبي.

مناسبة كهذه، بعيدًا عن الكرة، تضعنا نقرأ أدب فرنسا إلى جانب أدب الجزائر، والأدب السوري أو المصري أو اللبناني، إلى جانب أدب أمريكا اللاتينية.

ماذا يحدث لو أننا نشهد مباراة أدبية، بين كاتب مغربي وكاتب فرنسي، أو كاتب سعودي وكاتب أرجنتيني، أو كاتبة تونسية وكاتب برتغالي... هكذا عبر ترجمات تلقائية، فورية، تتيح للعالم جميعه الاطلاع على آدابنا، وتتيح لنا الإطلاع على أدب العالم الحديث، بل وكذلك التعرف على أدبنا ذاته، المجهول من بعضنا البعض.

كما تعلمت من المونديال أن أعرف اسم حارس فريق المغرب، ياسين بونو، وغيره من أسماء الفريق، سوف يساعدني مونديال أدبي، على التعرف على أدباء مغاربة وتوانسة وجزائريين ومصريين وسعوديين وإماراتيين وقطريين.

هو حلم جميل بالتأكيد، لكنه غير مستحيل، إذ كسر مونديال هذه الدورة فكرة المستحيل، وهناك الكثير من نتائج المباريات التي شاهدناها، كان يصعب التنبؤ بها قبل مشاهدة هذه المباريات وحدوثها الآن في عام 2022.

لهذا يستحق الأدب أيضًا أن نمنحه هذه القيمة، للصعود بأهمية الفكر والرأس، ونعيد للأدب مكانته وعصره، لنثبت أننا قادرون على استعادة عصر القلم، الذي لا يجب أن ينتهي، كما تنبأ توفيق الحكيم قائلًا: لقد انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم يأخذ اللاعب في سنة واحدة ما لا يأخذه كل أدباء مصر من أيام أخناتون حتى الآن.

نحن أمة اقرأ، هل يمكن لشعوبنا وثقافتنا أن تخرج إلى العالمية، وتنافس الأدب الغربي الرفيع؟ هذا ما نحتاجه كأدباء هذه المنطقة، أن تُسمع أصواتنا عالميًا، لنقول إن الأدب الحديث في المنطقة، وكل ما يحمله من سجالات الهوية، سواء الأدب المكتوب من قبل عرب أو المكتوب بالعربية من غير العرب، تمامًا وفق تناظر السجال حول هويات اللاعبين المنحدرين من أصول مختلفة عن الجنسيات التي يحملونها، لنذهب بعيدًا بالسجالات الحيوية والخصبة، لنفتح كل هذه الحكايات ونناقشها، لنحكي عن أدب الأقليات أو أدب الإثنيات وجميع أشكال الإنتاج الأدبي في الشرق الأوسط والعالم العربي، المكتوبة بلغة عربية، لا تشعر بالدونية أمام العالم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.