}

نظام ما بعد التفاهة: وجهة نظر في المشهد الثقافي

مها حسن 30 مارس 2024
هنا/الآن نظام ما بعد التفاهة: وجهة نظر في المشهد الثقافي
جان بول سارتر (Getty)
كما ظهرت مقولات ما بعد الحداثة، أقترح الحديث عن "ما بعد التفاهة"، حيث سيطر التافهون على أغلب المواقع، وراحوا ينظّرون عن التفاهة، ووضعوا لنا مقتطفات من كتاب "نظام التفاهة" ليقولوا إنهم ضد التفاهة، معتقدين أنهم يعلون عن التفاهة، بينما هم يروجون التفاهة وما بعدها عبر كليشيهات تطلق كلمات فارغة في الهواء، ليكرّسوا تفاهتهم.
سبق أن كتبت هنا مقالًا حول التفاهة، لكن لم يخطر في بالي آنذاك أنني سأعود للكتابة في ظاهرة أسوأ من نظام التفاهة الذي تحدث عنه آلان دونو، للحديث عن خطر هؤلاء الذين يحذّرون من التفاهة.
تذكرت سارتر حين استاء من إحدى السيدات التي رفضت البكاء في مأتم، قائلة: آسفة، فأنا وجودية! وكان أكثر ما يخشاه سارتر تحويل أفكاره وقناعاته إلى "كليشيهات" يتناولها الحمقى ويتبنونها من دون وعي، لهذا كان رفض سارتر لجائزة نوبل هو أحد هذه الأسباب، أو السبب الوحيد: ألا يُقبل العالم على قراءته بوصفه حائزًا على جائزة نوبل.
تذكرت سارتر، إذن، حين رأيت إحدى المذيعات تتحدث وكأنها قمة الفهم والذكاء، في برنامجها المروج للتفاهة، عن "التافهين"، منوّهة لعنوان كتاب نظام التفاهة، وكأنها تعمل ضد هذه الظاهرة، بينما هي في العمق أحد المشتغلين في هذا النظام.
لقد ساهمت العولمة التكنولوجية في إغراق السوق بالتفاهة، وهذا أمر صار معروفًا، ولكن الخطر الأشد من انتشار التفاهة، هو أن تتحكم هذه التفاهة بالإنتاج المعرفي، وتحكم على الإنتاج الآخر بأنه "تافه"، أي تتفّه الإنتاج المهم، وتركنه على جنب، لتقدم إنتاجها التافه مدعية أنها تحارب التفاهة، وبهذا فإن هذه الأنظمة الذهنية التافهة هي التي تقيّم الناتج المعرفي، وتفرزه وفق تقييمها، فبدلًا من تنحية التفاهة، تقوم بإعادة إنتاج التفاهة، مظهرة أنها تحارب التفاهة.
لأن الموضوع يبدو معقدًا، فإنه ربما من الأفضل تحديد محاور يمكن توضيح استغراق نظام ما بعد التفاهة فيها، وهي حاليًا، تنحصر في ثلاثة حقول أساسية: السياسة ـ الفن ـ الحب.
لأن نظام "ما بعد التفاهة"، الذي أتبناه كمصطلح، معقد سياسيًا، ويحتاج لتوقفات طويلة تناقش الشخصيات السياسية المتحكمة بالقرارات العالمية، فإنني سأمر بعجالة على هذا الحقل، لأذكر فقط بمثال فاقع عن التفاهة، وهو شخصية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي تجاوزت تفاهته وسطحيته، وهو يترأس أكبر دولة في العالم، عريقة ثقافيًا في مفهوم الديمقراطية، لتصل تفاهته إلى درجة تقوم فيها مواقع التواصل الاجتماعي بحجبه، حتى لا يخلق مزيدًا من الفوضى والغباء...
هناك أمثلة كثيرة عن زعماء دول وأحزاب سياسية وشخصيات مؤثرة في صناعة القرارات التي تغير حياة شعوب بأكملها، يتمتعون بصفات مدهشة من الغباء بينما يتذاكون، وبالتسلط بينما يتحدثون عن الديمقراطية، ينقصهم فقط أن نرى أحدهم يلتقط كتابًا مع "نظام التفاهة"، ليثبت للعالم أنه ضد التفاهة، بينما هو يحمل كل بذور التفاهة.
عدا عن الصدمات الجديدة في الصراع العالمي، بين مواقف إنسانية بديهية من الحروب والمجازر التي تحدث في العالم العربي على الأخص، وموقف "النظام العالمي" غير المُنصف منها. هذه الصدمات التي أسقطت كثيرًا من الرموز السياسية والمفكرين السياسيين الذين تبنّوا وجهات نظر عنصرية لم يتوقعها أحد من قبل.
وأما في الفن، فنحن نصادف كل يوم تصريحات تافهة لفنانين وفنانات، يتحدثون عن الفن بطريقة لا تمت بصلة للفن، كأن يتحدث ممثل يمتلك منصة إعلامية وجماهير غفيرة تتابعه، عن الفن، وهو يلتقط الصور لنفسه جالسًا وقربه على المقعد حزم من الأموال.
أو أن تنظّر مطربة عن الغناء، وهي ذات صوت متواضع، وصلت إلى الشهرة بطرق لا علاقة لها بالموهبة، إنما بأساليب تجارية وتسويق مدروس، حيث تحول الفن إلى وسيلة لكسب المال ولم يعد يحمل هاجسه الأصلي: خلق المتعة والمعرفة وملامسة المشاعر النبيلة لدى الإنسان، أو التحريض على التفكير والمعرفة.




في القراءة والكتابة أيضًا، وهي عملية ذهنية معقدة، ترجع في أصولها إلى أهم قاعدة معرفية لدى البشر، إذ  حضّت كثيرًا من الأساطير القديمة والحضارات على أهمية القراءة والكتابة، وكذلك جاءت الأديان لتؤكد على أهمية هذين الفعلين اللذين ميّزا الكائن البشري عن غيره من الكائنات المحيطة به، فأنسنته، وصل الأمر حاليًا، إلى تسلق أشخاص لا علاقة لهم بفن الكتابة، أو فن القراءة، لينظّروا في هذين المجالين، أو أحدهما، وهم من الجهل والسطحية بحيث يؤذون القراءة والكتابة، عبر احتلال منصات تقدم المبتذل والرديء بوصفه الأفضل، وهذا كله بسبب الفساد الثقافي الذي تتحمل مسؤوليته المؤسسات الثقافية الرسمية، التي توظّف أشخاصًا لا علاقة لهم بالهمّ الإنساني والهاجس الإبداعي، ليتحول الفن بجميع أصنافه، من سينما ومسرح وكتابة ورسم، إلى "سبوبة" وارتزاق...
لهذا، وكما في الغناء، أو الدراما العربية، صار بعض "البلطجية" والسطحيين مرجعيات، بل وأيقونات تحلم الأجيال الشابة بتقليدها: للحصول على المال والشهرة، فأُزيحت الثقافة بمفهومها العميق والجاد والنقدي، ليحل محلها الكسب السريع.
اليوم، وكوني منخرطة في المشهد الثقافي العربي بالذات، أجد أن مشكلة المثقف العربي لم تعد مع جمهور عادي لا يقرأ، بل مع "غوغاء" ثقافي، يقرأ بشكل سطحي، ويشوّه المعنى المقدس لفعل القراءة الذي يقوم على تفكيك المعرفة، وتحريك النقد، وخلق معارف جديدة، تساهم في تطوير الإنسان.

الحب كساحة حرب
تقدم وسائل التواصل، وكذلك رسائل تأتي في الإيميلات، كمية هائلة من الناصحين الذين يقترحون علينا التعامل مع الشريك أو الحبيب، لننتصر ضده، كأنه خصمنا في معركة.
نساء ساديات متسلطات فاشلات في حياتهن العاطفية يقدمن نصائح حمقاء تدعو إلى قتل الرجل بطريقة ما، وتجعل من العلاقة بين المرأة والرجل ساحة حرب...
كامرأة، أرتجف من سماع نبرات أصواتهن المؤنبّة، الحاثّة على "إلغاء الرجل"، وبطريقة عدوانية تجعل المرأة التي تسمع هذه الخطابات، تشعر بالخيانة لنفسها، إذا قدّمت تنازلًا لحبيبها، أو قبلت عودته، بل عليها تأديبه، كأنه قطّ مذنب...
من ناحية أخرى، يمارس رجال الدور المعاكس، في تقديم نصائح للنساء تطالبهن بالخضوع للحبيب، أو الزوج، لاستعادته، وتنصحهن بالتحول إلى قطة لطيفة تموء أمام الذكر، لتحظى به.
الغريب أن كل هذه النصائح والإرشادات موجّهة فقط للنساء، كأن المرأة هي التي عليها استعادة الرجل، أو الحفاظ عليه، أو جلبه إلى حياتها: كيف تكونين أنثى، ثلاثة أشياء تجلب الرجل، كيف تجعلين الرجل يفكر بك، كيف تجعلين الرجل يندم لأنه تركك، كيف تصبحين نقطة ضعف الرجل ويخاف أن يخسرك، كيف تثيرين غيرة الرجل، كيف تعيدينه نادمًا....
كل هذه الفيديوهات والإيميلات والكتيبات التي تغزو يومياتنا عبر الإنترنت، والتي تتوجه إلى النساء لتعليمهن أدوات "قهر" الرجال، والسيطرة عليهم، تخلق نساء عدوانيات مريضات همهن الأساسي كسب المعركة ضد الرجل، وليس الشراكة السليمة والحصول على الحب ومنحه في الوقت ذاته، وهذا يعني خلق نظام يقدم الحب بطريقة خاطئة قائمة على الصيد والتربص والتخطيط لا على الفهم والتقاسم والوعي، وهذه أخطر الأزمنة التي يتم فيها تعليم التعامل بين المرأة والرجل.
هؤلاء الذين يكسبون المال والشهرة، وتتحول مقولاتهم الفارغة إلى "تريند" تتسرب بالتدريج في وعي الإنسان المعاصر الذي لم يعد قادرًا اليوم على الانفصال عن الشبكة العنكبوتية، فتخلق ببطء نظامًا فكريًا خطيرًا هو ما أصفه بنظام ما بعد التفاهة.
نظام ما بعد التفاهة هو النظام الذي يُعاد فيه إنتاج التفاهة، وتقديمها على أنها ضد التفاهة، يمارسها أشخاص هم في الأصل منتمون إلى نظام التفاهة، لكن يشتغلون بأساليب وتقنيات تسويقية لتقديم أنفسهم وأفكارهم، على أنها تحارب التفاهة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.