}

رحيل جلال الشرقاوي.. ولادة جديدة في كل عرض

أنور محمد 6 فبراير 2022
هنا/الآن رحيل جلال الشرقاوي.. ولادة جديدة في كل عرض
جلال الشرقاوي (1934 ـ 2022)

المخرج المسرحي المصري جلال الشرقاوي (1934 ـ 2022) في مسرحياته: "عطية الإرهابية"، و"على الرصيف"، و"الجوكر"، و"البغبغان"، و"راقصة قطاع عام"، و"دستور يا أسيادنا"، و"قصة الحي الغربي"، و"الخديوي"، و"قشطة وعسل"، و"جودة كرامة"، و"الكوتش"، و"الجنزير"، وغيرها، تراه يضغط النص/ العرض في جرأة سياسية إلى درجةٍ ترى دمه الإيقاعي ينبثق لينتشر في فضاء الخشبة. هذا ما شاهدناه في مثل هذه العروض، بما فيها مسرحية "مدرسة المشاغبين"، التي لا نذكر اسمه مُخرجًا لها مثلما نذكر الممثلين عادل إمام، وسعيد صالح، ويونس شلبي، وسهير البابلي، وأحمد زكي. فالرجل من مسرح، وله ضربات إيقاعية صاخبة وساخنة تشدك إلى خشبته، فتضحك وتبكي، وتضحك تلك الضحكة المجلجلة؛ لا فوضى ولا عَماء، ولا بحث عن الذات. هي ذاتٌ خاصةً في مسرحياته، مثل: "آه يا ليل يا قمر"، التي عرَّى وانتقد فيها الخيانة والعمالة والصهينة. وفي مسرحية "بلدي يا بلدي" فضح حاشية السوء التي اقتلعت فروة رأس الشعب باسم الزعيم، وفي مسرحية "إنت اللي قتلت الوحش" يرينا الحاكم المستبد واستفراده بالحكم، وثورة الشعب عليه في انتقال السلطة وتداولها بانتخابات حرَّة، ومسرحية "عفاريت مصر الجديدة" عن الدولة الأمنية وإطلاق يد المخابرات لتتحكَّم بالناس، ومسرحية "ملك الشحاتين" كشف فيها ذلك الصراع الدموي بين السلطتين السياسية والعسكرية للانفراد بحكم الشعب الذي لا يمثل لكلا المتصارعين أكثر من قطيع، وقد فرَّطوا بعناصر وطنيتهم، وبالمشروع الحضاري للإنسان العربي.




لم نفقد الذاكرة، ولم نُصَبْ بالعجز، فلمسرح جلال الشرقاوي في كلِّ عرضٍ ولادةٌ جديدة، مع منهجية إخراجية في غاية التناغم والإتقان الفني والفكري، مع حركة مدروسة، مع صوت بطبقاته ونبراته وتحولاته من الساخن إلى البارد، والعكس، بما يتماثل مع الميول العقلية لدور الممثل، مع إضاءة تؤدي فعلًا دراميًا وهي تغيِّر ألوانها من الأصفر إلى الأحمر إلى الأزرق؛ كأنَّها تقوم بدور الممثِّل. ما من حركةٍ، أو إشارةٍ موسيقيةٍ، أو ضوئية، أو صوتية، صوت الممثل/ حواراته، إلاَّ ويُصيِّرُها الشرقاوي لتكون جزءًا من النص/ العرض، وفي تطور وتحول.

جلال الشرقاوي وعادل إمام في لقطة سينمائية، بعد لقائهما كمخرج وممثل في مسرحية "مدرسة المشاغبين"


أكمل الشرقاوي دراسته في المسرح في فرنسا، ومن ثمَّ في موسكو، أيام الاتحاد السوفييتي، ليصنع لحظة مسرحية عربية، وإن أخذها من سياقها الأوروبي. لقد أضفى عليها التجسيد والحسية الشرقية، بما يعبِّر عن أحلام الإنسان العربي الذي تقوم أنظمته على تمويت الجمال، إِنْ في أعماقه، أو في الطبيعة، ليعيش في سديم العدمية والاستلاب. الشرقاوي في مسرحياته التي أخرجها على عددها وعديدها، بما فيها أوَّل مسرحية "أرملة وثلاث بنات"، التي أخرجها سنة 1965، يقاوم الفوضى والسأم والسوداوية، فيُقيم تلك الاحتفالات الضاحكة على المسؤولين الفاسدين، وحتى في الرقصات والأغنيات التي تأتي كجزء من العرض، وليست حشوًا، فنضحك ضحكة مَرِحَةً، ونبتهج كما المنتصرين، فتقوى عندنا حاسة النقد الساخرة، ما يكشف عن قدرته مُخرجًا يتحكَّم في العرض المسرحي بعناصره ومفرداته، ويوجِّهه ليؤثِّر في المتفرِّج، فيكسر ذلك الحاجز الوهمي بين الخشبة والصالة ـ الجمهور الذي سينتابه شعورٌ أنَّه جزءٌ من العرض. وهذه قلَّة قليلة من المخرجين المسرحيين العرب استطاعوا أن يحقِّقوها.




المخرج جلال الشرقاوي، ومثله قلة، يحولون النص من سردٍ محضْ ـ حوارات بين دُمى بلاستيكية، وهذا ما شاهدناه في مئات العروض المسرحية العربية، حيث لا تمثيل ولا أفعال، بل إلقاء مع شيء من ديكورات، أو "سينوغرافيا"، وموسيقى وصراخ وهدير وحركات هائجة، إلى أفعال درامية، حتى ترى اللفظة صارت مشهدًا على أيديهم، فتتحقَّق متعة الإدراك المسرحي، لأنَّهم يكسرون تلك الصورة الذهنية الوهمية للنص حين يحولونه إلى عرض. وهذا ما حرص الشرقاوي على الاشتغال عليه حتى في النصوص التي اشتغلها لكتَّاب مثل: موليير، شكسبير، سومرست موم، روبرت توماس. فقد أخذ بالنص من السرد الإنشائي، وصيَّره فعلًا، حدثًا، أحداثًا، رسالة ملحمية. فاللغة/ الألفاظ النظرية تحوَّلت إلى قيمة جمالية تشحن المتفرِّج بالوعي في الزمان والمكان الحاضر ـ الآن وهنا، حتى لو كان النص لسوفوكليس، أو شكسبير، أو بريخت. لا يهم عمره، بقدر ما يهم أنَّ المُخرج عصرنه، جرَّده من رتابته وآليته، حرَّك بذرة الحياة ـ بذرة الخلود ـ فيه، وكفى الإنسان أن يكون.
جلال الشرقاوي في مسرحياته التي أخرجها، وبلغ عددها حوالي خمسين مسرحية، هو مثقَّف مسرحي ذو فكر تنويري نقدي عقلاني كان يتمرَّد، يحتج، بل ومارس العصيان المسرحي حين وقف ضد جرَّافات وزير الثقافة الأسبق، فاروق حسني، ومحافظ القاهرة، عبد العظيم وزير، في حينه، لهدم "مسرح الفن"، وتحداهما. ولم ينكسر لأنَّه من المخرجين الذين يملكون شجاعة الفعل في التاريخ المسرحي العربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.