}

في رحيل نبيل فياض.. لا استهانة بالعقل الإنساني

أنور محمد 25 أغسطس 2022
هنا/الآن في رحيل نبيل فياض.. لا استهانة بالعقل الإنساني
نبيل فياض


يذهب الكاتب والناقد السوري نبيل فياض، 1953- 2022، الذي درس الصيدلة إلى جانب دراسته الأديان دراسة مقارنة نقدية بينها وبين الطوائف، إلى أنَّه ليس هناك إنسان إلهي، أو أنَّه مسنودٌ ومدعوم من (الله)، فيمنح نفسه سلطاتٍ خارقة، ويحلِّل استباحة رقاب الناس وأموالهم، بل وبيع أوطانهم لمن يشتري، وأنَّ الدين، أكان سماويًا أو أرضيًا، هو دينٌ أخلاقي أولًا وآخرًا، وأن ما يقوم به الحاكم، خاصة الذي يستلُّ قوَّته من الكتاب الديني تارة باسم الطائفة، وتارة باسم الأمَّة، وأنَّه تفويضٌ فوَّضه الله به، هو معجزة، إذ لا معجزات في المسيرة الفكرية عند الناقد نبيل فياض، وهل من المعجزات أن يُجوِّع الحاكمُ أو السلطان أو الزعيمُ شعبه، ويرميه في المعتقلات، أو يصفيه إن عارضه أو انتقده؟

 نبيل فياض يرى أنَّه كعلماني- والعلمانية عنده تعني secularity وليس secularism  التي تعني "المذهب العلماني"؛ الأولى تعني حرية الدين freedom of religion  في حين تعني الثانية الحرية من الدين freedom from religion- مرفوض من الطرفين: طرف الإسلام الإرهابي، وطرف الدولة التي تسعى إلى التأسلم خوفًا من سيف التكفير، ذلك لأنَّ نبيل هو ضدَّ روح الشر عند الحاكم الذي ما يفتأ إن كان حكمه ملكيًا أو وراثيًا أو بين بيْن؛ أن يستخفَّ بـ(العقل) الإنساني لمواطنيه. فالحاكم المستبد هو كائنٌ إرهابي، وكائنٌ عنصري وعرقي وطائفي ومتطرِّف يحوِّل البشر إلى قطعان؛ إذ يشير في إحدى مقالاته متسائلًا: ما هي الطريقة الأسهل لتكوين قطعان بشرية تثغو خلف هذا السياسي أو ذاك، ويستخدمها وقت الحاجة قرابين سهلة على مذبح مصالحه؟ الطائفية!! فكيف تجذّرت الطائفية بكل هذا العمق؟ يُجيب نبيل: لأنَّ الفكر النقدي- العلماني لم يُسمح له قط بدخول بئر العفونة المسمى بثقافة غرب آسيا الناطقة بالعربية. هذا الفكر النقدي العلماني الذي شكَّل وعي نبيل فياض مصادرُهُ كانت، كما يروي، من مفكِّرين بعينهم رسموا الخطوط الخارجية لتوجههه المعرفي، ويذكر منهم على سبيل المثال: كل الفلاسفة الوجوديين، وكافكا، ونيتشه، وفويرباخ، وكيركغارد، وغيرهم. طبعًا هذا لا يعني أنَّه سوداوي التفكير، ولكنَّها الطائفية التي مزَّقت الأوطان والبلدان، أو كما يقول: الاستقطاب الطائفي الذي تجسَّد في فكرة الأقليات الحاكمة والغالبيات المحكومة – وهو ما خلقَ نوعًا من التوتُّر المجتمعي الذي أراد بعضهم في الغرب الحفاظ عليه من أجل مزيد من السيطرة على المنطقة؛ ومطاردة الفكر العلماني من الطرف السياسي الداخلي، لأنَّه أبرز الداعين لمحاربة الطائفية وإلى سيادة ثقافة المواطنة والديمقراطية، مثلما تثبت مؤلفاته وترجماته التي بلغت حوالي خمسين عملًا نذكر منها: كافكا ـ التحوّل: دراسة حول شخصية غريغور سامسا في قصة كافكا الشهيرة "التحوّل"، وقد حوّلت هذه الدراسة إلى مسرحيَّة قُدِّمت بالتعاون مع السفارتين التشيكية والنمساوية في دمشق؛ الشاعر المرتد: عزرا باوند: دراسة حول فلسفة هذا الشاعر الأميركي الهام؛ التلمود البابلي- رسالة عبدة الأوثان: ترجمة دقيقة لهذه الرسالة الهامة من التلمود البابلي عن العبرية والإنكليزية؛ مقالة في القمع: دراسة حول منهجية القمع في التعليم الديني الإسلامي؛ نيتشه والدين: دراسة حول الدين في أعمال نيتشه مع الباحثين الألمانيين ميشائيل موترايش وشتيفان دانه؛ حوارات في قضايا المرأة والتراث والحرية؛ يوم انحدر الجمل من السقيفة.. أم المؤمنين تأكل أولادها: دراسة نقدية لسيرة عائشة صاحبة الجمل؛ إبراهيم بين الروايات الدينيَّة والتاريخيَّة.
ومؤلفاته هي من شكَّل له جبهة من الأعداء منعت طبع وتداول كتبه.




ولعلَّ أكثر ما كان يثير ويقلق نبيل فياض المواطنة والطائفية، بعد أن تحولتا إلى حصان لشهوات الحاكم ونزواته ليستبد، ونرى ذلك في (مقالات) على صفحته الخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يستخدم منهج الشك والكشف، وبهزء، والنقد الذي يمارسه على الحاكم، حتى لو كان متصالحًا معه، وعلى أعوانه ليس نقد دعابة أو مزحة، وإن اتَّسم بالتجريح والتجريد. فهو يقاوم القوَّة المزعومة، القوَّة الكهنوتية ومنطقها السياسي اللاهوتي. إذ لا حقائق مطلقة عند نبيل فياض، وإنَّ كلَّ كاتب أو فضائية أو صحيفة تزيِّف الحقائق، كان ما كانَ لونها ووزنها، إنما تقوم بعملية الاستهانة بـ(العقل) الإنساني، وإنَّ ما تمارسه من دعاية لهذا الحاكم في أيِّ موقع من مواقع التسلط هو اغتيالٌ للإنسان.

ومثل هذه المواقع- وما أكثرها في (الميديا)- ومثلها الأحزاب والجمعيات و.. تروِّج، أو تسفسط وتشتغل معك على أنَّها حاميك/ محاميك، والمُدافع عن آرائك وحقوقك، في حين أنَّ الإنسان/ المواطن العربي بإمكانه أن يعبد الله على طريقته كانَ ما كانَ دينه، فيفعل الخير، لأنَّ العبادة هي ممارسة فعل الخير، وليس التخريف والتهريف، ولأنَّ العبادة- عبادة الله لا تحتاج إلى وسيط أو معلِّم، وهي عبادة عن إيمان وليس لتجنب غضب الله، فتتحوَّل إلى فعل وقح مع الله، كما يفعل المتعصبون المسفون في تجريم ونفي وسحل من لا يعبد الله على طريقتهم. وهذا خلق له أعداءً لاقى منهم نقدًا لاذعًا من كُتَّاب ورجال فكر مثل: محمد سعيد رمضان البوطي وحامد حسن ونذير مرادني وسليم الجابي. بالمقابل كانت هناك دراستان عن أعماله وآرائه بالألمانية؛ واحدة لـ "إيكارت فولتس" والثانية لـ "أندرياس كريستمان"، وقد كانتا رسالتيْ دكتوراه.

نبيل فياض، وإن اختلفنا معه في كثير من آرائه واستنتاجاته الفكرية، إنَّما هو يحاول أن يصحِّح مسار التفكير عند الإنسان فلا يتخلى عن عقله، فالعقل (والفكر العلماني) سرمدي باعتباره يشكِّل وعي الوجود، فلا حكام مختارين، ولا أحزاب مختارة، ولا من (شعب مختار) يمارس فعل القتل وحرق الأرض كما الوحوش، لأنَّ الشعب المختار والحاكم المختار يكونان في غاية النبل الإنساني، بدون أحبار وكُهَّان وسيافين سلفيين. وإن الهمس المعجون بالألم المتأفِّف - كما يقول نبيل فياض- يختنقُ في الحناجر...

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.