}

مثقفون سوريون: رفعة عطفة بقي منتصرًا للحياة والجمال

علاء زريفة 2 فبراير 2023
هنا/الآن مثقفون سوريون: رفعة عطفة بقي منتصرًا للحياة والجمال
رفعة عطفة

قد أكون من الجيل الذي لم يعرف عن قرب الأستاذ والمترجم الراحل الكبير رفعت عطفة، أكثر مما قرأ كتاباته وترجماته الغنية، وسمع عن أثره الكبير خلال نشاطات المركز الثقافي في مصياف، والجلسات الخاصة لمثقفي وفناني المدينة الصغيرة حيث يتردد اسمه دائمًا ويبقى حضوره المعنوي كبيرًا، رغم غيابه القسري نتيجة معاناته مع المرض العضال. 

فعن عمرٍ ناهز السادسة والسبعين عامًا ودعت مدينة مصياف في الثالث والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2023، أحد كبار روادها ومثقفيها ممن تركوا بصمة لا تُمحى في الثقافة السورية؛ الأستاذ والأديب والمترجم رفعت عطفة. سارت حشود كبيرة خلف نعش الراحل في جنازة مهيبة لم تشهدها المدينة منذ خمسة عشر عامًا كما قال أحد المشاركين في تقدير وعرفانٍ شعبيين لما قدمه الراحل الكبير لبلدته ووطنه.

لا ترجع أهمية رفعت عطفة (أبو زيدون، وهو اللقب المحبب له ولأصدقائه) فقط إلى ما قدمه من كتب وترجمات أثرى بها المكتبة العربية جلها عن الأدب الإسباني والأميركي اللاتيني كونه حاصلًا على شهادة الماجستير في الأدب الإسباني، واقتران تلك الترجمات بألمع الأسماء الأدبية في العالم أمثال بابلو نيرودا وإيزابيل أليندي إضافةً لترجمته الأهم لدون كيخوته رائعة ثربانتس، بل إلى دوره المؤسس والمؤثر خلال توليه إدارة المركز الثقافي العربي في مصياف بين عامي 1987-2004 فجعل منه مقصدًا جمع في فعالياته وأمسياته أبرز أدباء وشعراء سورية كمحمد الماغوط وممدوح عدوان. وتجاوز ذلك إلى تعزيز الروابط الفكرية والثقافية أثناء تأسيسه وأدارته للمركز العربي الثقافي في مدريد (2008-2004) بين الشرق والغرب مؤمنًا بحتمية انتصار الثقافة والسلام على التعصب وآلة الحرب.

"ضفة ثالثة" سألت بشكل سريع عددًا من أصدقاء الراحل والمثقفين السوريين ممن عرفوه وعاصروه للحديث عن أثره، ودوره، وأيامه الأخيرة التي صارع خلالها مرضه العضال محتفظًا بروحه المرحة وابتسامته رغم كل آلامه وفيًا ومخلصًا لما آمن به وعرف عنه من خلق وأدب وثقافة أصبحت عملة نادرة في أيامنا هذه.

الأستاذ والكاتب أحمد حسون، وهو من أبناء مدينة مصياف والمقربين من الراحل، تحدث عن علاقته به والتي بدأت في سن مبكرة، فقال: عرفت الأديب الراحل رفعت عطفة في آخر طفولتي حيث كُنا نتردد على المركز الثقافي لقراءة مجلات وقصص الأطفال في غرفة المطالعة، والطريقة الأبوية لتعامله معنا ومع مشاغباتنا لا يمكن نسيانها. وعن بدايات النشاط المهم للمركز تحت إدارة الراحل يقول حسون: كان النشاط المميز والنوعي للمركز في شقة عادية لا تتسع لأكثر من عشرين كرسيًا، رغم ذلك، بادر لتأسيس النادي السينمائي بإمكانات متواضعة مكنتنا من مشاهدة بضعة أفلام من درر السينما العالمية حينها.  

الجانب الخاص والعائلي للراحل لا يقل عن الجانب العام الذي مارسه طوال حياته كمثقف. يعبر حسون عن ذلك قائلًا: لا يمكن لمن عرفه إلا أن يُلاحظ الطفل الذي بداخله، وطاقته العالية، وشغفه بالبرية والطبيعة فكان يعرف كيف يزرع الأخضر ويعتني به فيغدو درج الورد في داره مضرب المثل.

ويتابع حسون في حميمية واضحة حديثه: صار جزء من صباحات طيف واسع من أصدقائه أن يتلقوا من أبي زيدون تحية الصباح مشفوعة بصورة وروده ونباتاته، فبقي حتى آخر أيام مرضه ينتصر للحياة والجمال.

لذلك تعتقد عفراء هدبا، مديرة دار دلمون الجديدة للنشر، وهي أيضًا من أبناء مصياف، أنه لا غرابة في أن يترك رحيله تلك العبرة التي تصف حجم الفقد وأثر الغياب وما خلفه من غصة في قلوب من عرفوه واستلهموا فكره حتى أيامه الأخيرة. وهو يُصارع المرض بعناد المقاتل الفذ الذي لا يستسلم بسهولة ولا يُلقي بأسلحته حتى الرمق الأخير.



جسر ثقافي بين حضارتين

تتابع هدبا متحدثة عن أثر الراحل الكبير رغم مرضه وظروفه الصحية القاسية قائلةً: رغم غيابه عن المشهد الثقافي لأكثر من خمس سنوات، إلا أن ما أنجزه من حصاد ثقافي على مستوى الترجمة النوعية لأمهات الكتب بين رواية ودراسة من دون كيخوته إلى المخطوط القرمزي والوله التركي لأنطونيو غالا، وأعمال إيزابيل أليندي، كان كافيًا ليحدث هذا الصدى الكبير لرحيله تاركًا مقعده شاغرًا من الصعب أن يملأه مثقف آخر.

هذا الأثر الكبير تربطه هدبا بدور الراحل في تعزيز روابط تاريخية كبيرة بين إسبانيا وسوريا قائلةً: استطاع رفعت عطفة أن يمد جسرًا معرفيًا مع حضارة تمتد جذورها المشتركة في عمق التاريخ وأن يؤسس لمركز ثقافة وإشعاع في العاصمة الإسبانية ليعمل من خلاله على إحياء الروابط الإنسانية والفكرية بين شعبين تجمعهما الكثير من الروابط. 

في بداية حديثه لـ"ضفة ثالثة" يتحدث الناشر الفلسطيني السوري سعيد البرغوثي، مدير دار كنعان للنشر والتوزيع، عن صديقه الراحل الذي كان يهاتفه بصورةٍ شبه يومية، كأب وربُّ أسرة تميزت علاقته اليومية بها بالانفتاح والمحبة المتبادلة كزوج ووالد، فلم يمارس أي تشنج أو فرض رأي من خلاله موقعه. وهو أيضًا الكاتب والقارئ النهم والمترجم، والمحبوب من كافة أصدقائه. ويتابع البرغوثي: أبو زيدون قارئ نهم انطلاقًا من إيمانه أن من لا يقرأ جيدًا لا يكتب جيدًا الأمر الذي انعكس بأكثر من جنس أدبي. ويتحدث البرغوثي عن مشروع قام بالإشراف عليه صديق مشترك لهما جمع فيه نتاج الراحل باللغة العربية يربو على أربعمائة صفحة من القطع الكبير قد يرى النور قريبًا.

ويصف منجز الراحل في مجال الترجمة واضعًا عطفة إلى جانب الراحل الكبير صالح علماني في مصاف القلة التي ساهمت في إثراء الأدب المترجم عن الإسبانية فيقول في الترجمة التي احتلت مجال اهتمام الراحل الأكبر: أغنى المكتبة العربية، وقدم للقارئ العربي الكثير من كتب لكُتاب إسبان ومن أميركا الجنوبية الأمر الذي سد بالتوازي مع الصديق الراحل صالح علماني فجوة كبيرة في هذا المجال. 

وعلى مستوى علاقته الشخصية بالراحل يقول: لم أصادفه إلا دائم الابتسامة تاركًا باب منزله مفتوحًا لأصدقائه الكثيرين الذين بادلوه بفيض من المحبة أثناء صراعه الأخير مع المرض. ثم يتناول فترة إقامته في مدريد متحدثًا عن دوره حين كوّن العديد من الصداقات الهامة التي أصبحت مناصرةً للقضايا العربية والقضية الفلسطينية خاصة. وفي ختام حديثه يرثي البرغوثي صديقه الكبير قائلًا: أبو زيدون صديقٌ لا يُنسى. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.