}

مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط: جمال الطبيعة ومآسي الشخصيات

هنا/الآن مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط: جمال الطبيعة ومآسي الشخصيات
افتُتح المهرجان في 3 مارس/ آذار
بلاد العرب أوطاني... من الشام لبغدان
ومن نجدٍ إلى يمنٍ... إلى مِصرَ فتطوانِ.
عاديٌّ، وربما طفوليٌّ، ترداد هذه النشيد في الذهن (فقط بالطبع) حين زيارة تطوان، مصحوبة بذكريات عن طفولة كانت تتساءل حين سماع الأغنية العروبية: ولكن، أين هي هذه التطوانِ (لم نكن ننسى الكسرة)؟
لزِمتْ عقودٌ قبل وطء هذه المدينة الأنيسة. تغيرت فيها قناعات، يمكن القول فرُضت، فالواقع جبّار. المغرب كان دائمًا محطّ إعجاب لدى السوريين، إعجاب ببطولاتٍ كان يُحكى أنها مذهلة في حرب تشرين (التحريرية حسب تلقين حزب البعث). كان المغرب يثير مخيلتنا بقصص كالأساطير، يُضاف إليها غموضٌ يحيط ببلدٍ بعيد إلى درجة يلامس معها المحيط، هذا الشيء الكبير لسكان الداخل.
الكلُّ يتمنى "عطلة سعيدة" حين يعلم بوجهتي. في المطار أيضًا، عاملة المقهى لا تتمنى لي "رحلةً" سعيدة، كما يقال عادة، إنمّا "عطلة" سعيدة. هذا ما سيتيحه مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط في دورته الـ 28 (3 ـ 10 مارس/ آذار 2023) لمدعويه، إضافة إلى عملهم التحكيمي. فليس من الممكن إلا أخذ الوقت للتمتع بجمال المنطقة. فالمرء يؤخذ من اليوم الأول، والسيارة تقلّه من الفندق الواقع على مشارف المدينة إلى مركزها، بهذا الجمال الذي تحتار معه العين، أنظر يمينًا أم يسارًا؟ جبالٌ شديدة الخضرة تتسلق بعضها بيوتٌ تحت سماءٍ مُلبّدة على نحو آسر تمتد فوق بحر وجبل.
أجيب السائق بالعربية بعد أن ألقى تحية بالفرنسية. "مرحبا بيك"، يردّ بجملة الترحيب المعهودة هنا على ما بدا لي، والتي تقال دومًا بلهجة محببة. أتردد في ذكر بلدي أحيانًا تجنبًا لنقاش وتعاطف، واليوم أكثر مع مأساة أخرى، فيشقّ عليّ الحديث عنه. يحزر بعضهم من اللهجة، فيعبّر بجملة تضامن صادقة يتوقف بعدها مقدرًا مشاعري. الناس مُذهلون هنا بودّهم، يمكنني القول إن لطفًا بهذا الشكل لم يصادفني قبلًا في أراضي الله الواسعة التي زرتها. لطفٌ يبدو عفويًا مع ميلٍ إلى المساعدة صادق، سواء في المهرجان، أو من الناس عامة. في كل مكان، الكلُّ مستعد لإرضاء طلبك بابتسامة ودودة، حتى البائعون لا يتضايقون من استفسارات لن تؤدي إلى شراء، يستقبلون بكل ترحيب وابتسامة طيبة. في مقهى مخصص للرجال قرب السينما التي تعرض أفلام المسابقة الرسمية كما أفلام قسم "خفقة قلب"، لم يكن دخول نساء ليثير استنكارًا، ربما استغرابًا بسيطًا وتنبيهًا للنادل كي يأتي. على أية حال، كان الجميع مشغولًا بما هو أكثر أهمية. ففي كل مقهى دخلناه، أو مررنا قربه، وهذا في ثلاث مدن، وعند أيّ وقت، كانت الشاشات التلفزيونية تعرض مباراة ما باللغة الإسبانية. ولكن، ألا تنتهي هذه المباريات؟ كان الجلوس على رصيف المقهى أفضل وسيلة لتجنب ضجيجها. شيء من نعومة عيش وهدوئه يتسرب إلى النفس هنا، أحسسته من جارة شقراء نرويجية متوسطة العمر تفصفص البزر باتقان أدهشني، تعود مع زوجها المغربي سنويًا لقضاء الشتاء في تطوان، يستمتعان بالشمس، وبهذه البساطة، وحلاوة العيش. كانا راضيين ومسرورين بشكل يبعث على البهجة.
هل يمكن الخروج من هذه النظرة "السياحية" للمغرب؟ تعلّق صديقة مغربية يضايقها أن يقال دائمًا الشيء نفسه عن المغرب والمغاربة.  لكنه حقيقة! أردّ، وحقيقة مبهجة. نعم، تقول، ولكن لدى المغاربة أشياء أخرى غير اللطف. بالطبع، ولكن هذه الإنسانية أهمها. المهرجانات تتيح لضيوفها لقاءات مميزة مع أهل البلد، ومع العاملين في السينما في كل المجالات.
أتاحت لنا إدارة المهرجان الذي تنظمه "مؤسسة مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط"، والمدعوم من وزارة الثقافة وإقليم تطوان، والمقام تحت "الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله"، زيارات عدة، منها إلى مدينة شفشاون القريبة من تطوان، والآخّاذة بجمال معمارها الأزرق، وأزقتها الضيقة الصاعدة والهابطة. في الطريق إليها، تختلط اللغات، شذرات من أحاديث بالعربية عن تدخل الدين بالسياسة، وعن إلمام الملك الراحل الحسن الثاني العميق بالموسيقى، وهذا على وقع أغنيةٍ نادرة لعبد الحليم في مديح الملك. عبد الحليم ثوري في مصر، وملكي في المغرب- قلت في نفسي.  



ثمة شذرات أخرى بالإنكليزية، والإسبانية، عن أصل الكلمات بالإيطالية. تمازج لغويّ يعبر عن المنطقة أيضًا. في تطوان إلمام كبير بالإسبانية، البائعون يتحدثونها بطلاقة، بل الجميع، بحيث بدا وكأنها تفوق الفرنسية في انتشارها، لا سيما على الصعيد الشعبي. لا إنكليزية إلا في ترجمات الأفلام، ما يعيق أحيانًا وصولها إلى جمهور المدينة. إنما مع هذا كانت العروض، لا سيما المسائية، وتلك المخصصة للفيلم المغربي، والتي جرت في صالة سينمائية عريقة، تمتلئ تقريبًا. فيلمان مغربيان عرضا في مسابقة الأفلام الطويلة: "أسماك حمراء" لعبد السلام الكلاعي، الذي نالت بطلته جليلة التلمسي جائزة أفضل ممثلة عن دورها كامرأة من الطبقة الشعبية تحاول إيجاد مكان لها بعد خروجها من السجن. يقترب الفيلم من النساء المضطهدات، ويحاول تبيان شجاعتهن في الوقوف أمام ما ينالهن من ظلمٍ وتهميش واستغلال. لكن الفيلم غرق أحيانًا في مشاهد خطابية مباشرة، وفي المبالغة العاطفية التي أثرت على تقبل العمل. الثاني "صيف في بجعد" لعمر مول الدويرة، الذي كانت فكرته عميقة ومهمة، لكن المعالجة شابها شيء من تسطيح وتشتت. الفيلم عن مهاجر مغربي إلى فرنسا يقرر العودة إلى الوطن بعد موت زوجته. سيكون الصيف قاسيًا على الابن البكر (المراهق) الذي لن يجد مكانه بين أولاد الحارة، وستكون تصرفاته مبعث نفورهم منه، ورفضهم له. فهو لا يعرف البلد ولا عاداته. من المؤسف ألا تتمكن هذه الفكرة العميقة من الذهاب بعيدًا في التعبير عن مشاكل المهاجر وتأقلمه حين العودة.
أفلام المسابقة الاثنا عشر، وسبعة منها أفلام أولى، جاءت من بلدان متوسطية عدة، سواء في إخراجها، أم إنتاجها، وكلها من عام 2022. من صربيا جاء "ظُلمة" (2022) لدوشان ميليتش، الذي عانى من التحيز العرقي، مبينًا فظائع المسلمين في كوسوفو تجاه أسرة صربية تتعرض لقمع ممنهج كي تترك منزلها. إن كان هذا صحيحًا وقصة حقيقية كما ذكر الفيلم، فمن الصحيح أيضًا أن القمع كان متبادلًا، وكان على المخرج ألا يكتفي بملاحظته الأخيرة على شارة الفيلم عن تعداد جرائم طرف واحد في الحرب. ومن إسبانيا، عُرض فيلمان "رامونا"، للمخرجة أندريا بانيي، عن فتاة تريد تجربة حظها في التمثيل، و"عند المدخل" لأليخاندرو روخاس، وخوان باسكيز، الذي نال جائزة تحكيم النقاد.

 نال الفيلم الإسباني"عند المدخل" لأليخاندرو روخاس وخوان باسكيز جائزة تحكيم النقاد

يرصد الفيلم بذكاء وتمكّن هشاشة العلاقات الإنسانية من خلال محاولة استنطاق الشرطة الأميركية لشاب وفتاة يريدان الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث كل شيء يمكن أن ينهار في لحظة شكّ. وجاء فيلم الإيطالية جوليا ستايغرولت "سبتمبر" أيضًا استكشافًا للعلاقات الإنسانية وأعماقها من خلال قصص ثلاث شخصيات مختلفة تكتشف إحداها فجأة ميلها لبنات جنسها، وهو ما اضطر الرقابة لقص مشاهد من الفيلم. ونال "مكان آمن"، وهو الأول للكرواتي يوراي ليروتيس، جائزتين من لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، عن السيناريو، وأفضل ممثل (للمخرج الذي أدى الدور الرئيسي).  الفيلم المأخوذ عن سيرة ذاتية يرصد حياة الأفراد التي يمكن أن تتغير جذريًا فجأة بعد حدث مؤلم، وهو هنا محاولة انتحار شاب من العائلة.




عُرضت في المسابقة ثلاثة أفلام عربية: "علم" من فلسطين لفراس خوري، وقد فاز بجائزة العمل الأول، لما قدمه من رصد، بأسلوب كلاسيكي، لتحولات الجيل الثالث بعد النكبة، ونظرته إلى المحتل كندٍ، بخلاف آبائه، من خلال شخصيات طلاب ثانوية يحاولون رفع العلم الفلسطيني فوق مدرستهم. 

فاز فيلم "علم" للفلسطيني فراس خوري بجائزة العمل الأوّل

فيما كان"نزوح" للسورية سؤدد كنعان عن صراعات داخل عائلة مترددة بين اللجوء والبقاء في الوطن، بعيدًا عن الإقناع في مواقف بعض شخصياته القريبة من الكاريكاتورية. وجاء "السدّ" لعلي شري آسرًا بلغته البصرية وإيحاءاته الرمزية العديدة، التي تشير في أسلوب متفرد إلى فشل البناء الشخصي والجمعي في التخلص من حكم العسكر. لكن جائزة التحكيم الخاصة ذهبت إلى "بركة العروس" للمخرج اللبناني باسم بريش، لتميز أسلوبه الإخراجي المعتمد في رسمه العميق لشخصيته الرئيسية، وهي امرأة في جبل لبنان تعيش استقلاليتها بعيدًا عن قيود مجتمعها، على التقشف في الكلام والمواقف الساخرة والعبثية التي تذكّر بأفلام إيليا سليمان.

جائزة التحكيم الخاصة ذهبت إلى "بركة العروس" للمخرج اللبناني باسم بريش

أما جائزة أفضل فيلم فكانت من نصيب "قرنفل" للتركي بكير بلبل، ويروي مسيرة لاجئ سوري وحفيدته على طرق مثلجة وموحشة في جنوب الأناضول، مع تابوت ينقل الابنة لتدفن في أرضها. لكن المصاعب كبيرة أمام الوصول إلى بلد يعيش حالة حرب. الفيلم مؤثر في بعض مواقفه، ويزاوج بين الحقيقة والخيال لمواقف لا يمكن لها أن تكون حقيقية، وكأنها تعبر عن هذا الذي يحدث، والذي لا يمكن تصديقه لشدة جنوحه.
نظم مهرجان تطوان ورشات عمل وندوات، كالعادة، ولكنه، وللمرة الأولى، أطلق نشاطًا جديدًا مع "محترفات تطوان ـ صندوق دعم السيناريوهات قيد الإعداد (روائية ووثائقية)" ـ وفازت ثلاثة مشاريع بجوائز مالية. وعلى عادة المهرجانات، كرم المهرجان شخصيات عدة، منها المخرج الإيطالي دانييل فيكاري، والمخرج المغربي حسن بنجلون، والممثلة المصرية غادة عادل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.