}

سؤال الحريّة ما بين الصحافة الورقية والإلكترونية

علاء زريفة 5 يونيو 2023
هنا/الآن سؤال الحريّة ما بين الصحافة الورقية والإلكترونية
(Getty)

صدر مؤخرًا عن منظمة "مراسلون بلا حدود" تقرير يتحدث عن مؤشر حرية الصحافة في البلاد العربية لعام 2023، تزامنًا مع الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يصادف الثالث من مايو/ أيار من كل عام. وجاء الترتيب في ذيل القائمة العالمية متراوحًا بين "الوضع الإشكالي" بالنسبة لبعض الدول العربية، حول طبيعة العمل الصحافي وظروفه و"الصعب"، حتى "شديد الخطورة" لبقية الدول.
حتى اللحظة، يبدو اصطلاح "حرية الصحافة" مفهومًا غائبًا ومغيبًا عن واقع الصحافة العربية، وموضوعًا دائم الإشكالية والتعقيد لظروف لا تغيب عن أهل المهنة، "مهنة المتاعب" بامتياز عربيًا، لكثرة الخطوط الحمراء والمحظورات السياسية، والاجتماعية، والدينية التي تجعل من الكتابة الصحافية في عالمنا العربي نوعًا من المشي في "حقل ألغام" وتابوهات لا تنتهي فكريًا وثقافيًا تحكم السلطات السياسية إحكام القبضة عليه، سواء بـ"مقدسات وطنية"، أو تجيّر خطاب الحرية لصالح وجهة نظرها التي لا تستطيع التسامح مع أي رأي مخالف لها.
لربما كان ظهور الصحافة الإلكترونية ذات التمويل الخاص والمستقل، سواء التي تعمل داخل هذه البلاد، أو خارج حدودها، ما يشبه الصدمة بالنسبة لهذه السلطات، فشبّت عن الطوق الحكومي، في محاولة خلق فضاء يتنفس فيه الصحافي العربي شيئًا من "أوكسجين الكتابة"، وأفسحت لحرية على الرغم من كونها لا تزال بصورة ما "مقننة" و"منقوصة" قد تبعث الأمل والأمان لدى الكتاب والصحافيين بعيدًا عن مخاطر الفصل والطرد، وهو أقلها، وحتى التهديد بالموت والاعتقال والاغتيال.
هنا استطلاع رأي لثلاثة من الكتاب والصحافيين العرب، ممن لهم تجاربهم، بحلوها ومُرها، مع الصحافة الإلكترونية، ودورها في توسيع هامش الحرية، والتعاطي مع مختلف القضايا في عالمنا العربي، وإلى أي مدى تتفاوت درجة الرقابة بين الورقي والإلكتروني؟ وهل تحولت هذه الحرية إلى فوضى جعلت المهنة مستباحة؟


سؤال الحرية

يعرب العيسى 




الصحافي والروائي السوري يعرب عيسى يتحدث عن مساهمة الصحافة الإلكترونية في تعزيز الحرية الصحافية لاعتبارات عدة، قائلًا: "وسّعت الصحافة الإلكترونية من هامش الحرية بالطبع، ولكن ليس بوصفها تقنية مختلفة، بل بسبب أماكن وجود القائمين عليها والعاملين بها، فالصحيفة الإلكترونية يمكن أن تعمل من أي مكان في العالم، وتصل إلى الجمهور المستهدف في البلد المقصود، وهذا أعطى العاملين فيها هامشًا أوسع من حرية الكتابة".
الاعتبار ذاته المتعلق بعمل هذه المواقع من خارج الحدود هو ما يشير إليه الصحافي والباحث المصري أحمد متاريك، قائلًا: "المواقع حررت الإعلام العربي من (السلطوية الجغرافية)، تحديدًا، الدول التي تحكمها أنظمة قمعية. ففي مصر مثلًا، وفي حقبة جمال عبد الناصر كانت الصحف تتبع له مباشرةً، حتى الصحف الأجنبية كانت تمنع من الدخول بقرار منه أيضًا".
يضيف متاريك حول كيف أثر هذا النمط الجديد من الصحافة العربية في رفع سقف الحرية لدى المواقع الرسمية الحكومية، فيقول: "لقد تغيرت قواعد اللعبة، وأصبح هناك في الساحة الإعلامية منافسون دائمون لوسائل الإعلام الرسمية والحكومية، وغير قادرة اليوم على التخلص منها، فوجب عليهم تطوير أدواتهم قليلًا، ورفع سقف حريتها نوعًا ما، وبالتالي تجاري وسائل الإعلام التي تتحدث من خارج الحدود، أو في دول أجنبية".

عز الدين بوركة 




بدوره، الشاعر والكاتب المغربي عز الدين بوركة يتناول في مقدمة مداخلته سؤال الحرية قائلًا: "حينما نتحدث عن الحرية، فأساسًا نحن إزاء مفهوم إنساني محض، مفهوم متصل بالإرادة والغاية، وأيضًا بالرقابة والمنع، فقبل العودة للإجابة عن محل الحرية في الصحافة العربية اليوم، ونحن على مشارف انبثاق عالم جديد يحكمه الذكاء الاصطناعي، لا بد أن نسأل أنفسنا: هل هذه الخوارزميات معنية جوهريًا بمعنى الحرية؟ لنا أمثلة في تجربة "مولد التعليق والرسائل" الذي تم تشغيله على منصة تويتر، وما نتج عنه من نتائج لم تكن متوقعة، حيث بدأ في تكريس نوع من الرؤى العنصرية، المستوحاة من الكم الهائل من التعاليق والردود التي راكمتها الخوارزميات وحللتها وكوّنت عنها إجابات ذاتية. فهل نحن قادرون على التحكم في ما سيأتي؟".

الرقابة أصبحت من الماضي
بناءً على القلق المُحق الذي يطرحه بوركة، وهو هنا هذا الفضاء المفتوح الذي لا يمكن تصور حدود لمعطياته اليوم في القرية الصغيرة التي نعيش فيها، يأتي حضور الرقابة التقليدية خجولًا وضعيفًا. يقول يعرب العيسى: "الحكومات والأجهزة الرقابية والأمنية تستطيع أن تطاول من هو تحت يدها، سواءً أكان ينشر ورقيًا، أو إلكترونيًا، ولكنها لا تستطيع فعل شيء مع من يعيشون في دول أخرى. ومنع الصحيفة الورقية من التوزيع مشابه تمامًا لحجب الموقع الإلكتروني. ستقول لي إن حجب المواقع يمكن تجاوزه ببرامج البروكسي، وكذلك في جيلنا كانت الصحيفة الممنوعة توزع نسخًا منها باليد وبطرق مختلفة".

أحمد متاريك 


ويقدم أحمد متاريك المقاربة ذاتها حول ما قد يكون عجزًا رسميًا أمام الصحافة الإلكترونية، فيقول: "الورقي يصلح لرقابة استباقية، لأنه يحتاج إلى ترتيبات كثيرة خلال إصدارها، وخضوع نسخها المُعدة للنشر لسلطة الرقيب قبل صدورها. أما في حالة المواقع الإلكترونية فهو عاجز تمامًا أمامها، اللهم أن يقوم بحجبها وحسب".
ويتحدث بوركة عن الرقابة العربية وممارساتها على هذا النوع الجديد على العالم العربي، وكيف أكرهته على العمل من خارج الحدود قائلًا: "لا بد أن نشيد بالكم الهائل من المواقع الإلكترونية المهتمة بقضايا الراهن والصحافة والآني، التي خرجت للوجود خاصة منذ عام 2011، وما عرفه من تغيرات وثورات وانتفاضات وحركات في جل المعترك العربي، من المحيط إلى الخليج... كان الأمر يُبشر بانعطافة عربية، بالخصوص في بعض الدول، نحو الديمقراطية ومزيد من الحريات. لكن سرعان ما تم إغلاق بعضها، أو سجن مسؤولين عليها، أو حتى اغتيال بعضهم... بينما حوّلت أخرى خطها التحرير جذريًا، تماشيًا مع الظرفية، حتى تسلم من فأس الرقابة الذي يضرب الرقاب. وسلمت واستمرت أخرى لأنها اختارت باكرًا المهجر مقرًا لها... أما أخرى فاختارت أن تميل نحو أيديولوجية من دون أخرى، لتجد مستندًا تتكئ عليه، وهو ما أوقعها في مهاجمة دول من دون أخرى، باسم الحرية والديمقراطية".


فوضى خلّاقة ولكن...

يعرب العيسى يعبر عن عدم قلقه مما خلقته أنماط العمل الصحافي الجديد من فوضى واستباحة للمهنة، عادًا أن الأمر لا يزال في حدوده الطبيعية، ورابطًا المسألة بخوف الناس الفطري من الجديد، داعيًا إلى الصبر حتى تنضج التجربة. يقول: "في كل نقلة تقنية عبر التاريخ كان خطر الفوضى والاستباحة قائمًا، ودائمًا ما كان هناك متطاولون على المهنة بكافة مراحلها. ولكن المتلقي/ القارئ/ المشاهد يغربل سريعًا، ويطرد الرديء من المشهد. خاف الناس على المعرفة عند اختراع الطباعة، واعتبروا أن هذه البدعة ستجعل إنتاج المعرفة من حق الجميع، وستؤدي إلى فوضى وانتشار الأفكار التافهة على نطاق واسع. وحين اخترعت الإذاعة خاف المثقفون على ثقل الكتاب، واعتبروا أن الثقافة استبيحت. وهكذا عندما اخترع التلفزيون والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وحسبما قرأت، فقد خاف الملائكة حين أرسل الله آدم إلى الأرض، واعتبروا أن بني آدم سيخربونها. الخوف من الجديد طبيعة بشرية، لكنها مثل الجشع والخوف والأنانية طبائع مضرة. فلندع الناس تجرب، ولنترك للزمن أن يحتفظ بما يشاء".
الشعور بالاطمئنان والرغبة في التجريب والدعوة لمنح التجربة فرصتها الكاملة نجده عند أحمد متاريك: "بالتأكيد، وبالرغم من المزايا المنبثقة عن الصحافة الإلكترونية، إلا أنها خلقت حالة من الفوضى، لأنها ببساطة منحت "ميكروفونًا" لأي شخص. وقد تكون لأسباب تسويقية معينة. شخصيًا، لست قلقًا بسببها، لأنه الثمن الذي يجب أن تدفعه أي أمة تريد الحرية، ويجب أن تكون هنالك مساحة للآراء المختلفة، وأحيانًا الغبية، وغير المهنية. طالما لم تترجم إلى أعمال عدائية، أو دعوات عنصرية".
يتابع متاريك: "شخصيًا، أتمنى عدم تنظيمها حكوميًا، لأن ذلك سيؤدي إلى خنقها، فالحل هو الكتابة الجيدة، وتقديم الآراء الرصينة وإيصالها للقارئ، بعيدًا عن السيطرة الحكومية التي لن تترك إلا سطوة الصوت الواحد".
أما الشاعر المغربي عز الدين بوركة فقال حول الفوضى التي تملأ عالم الصحافة الإلكترونية اليوم، و"دمقرطة المعلومة"، مطالبًا بحتمية الانتقال من "سؤال الحرية"، إلى "سؤال الحقيقة": "أتاح الإنترنت ظاهريًا دمقرطة المعلومة، ومجالًا أوسع للاشتغال الصحافي، حيث بات الكل اليوم صحافيًا ما دام يحمل في يده هاتفًا. وهو ما خلق نوعًا من الفوضى العارمة، التي شوشت على مهنة الصحافة، وشوهت المعلومة. ساهم ذلك في شبه الغياب الكلي لآليات التحليل الصحافي، الذي يبتغي مسافة ووقتًا. فالآني التهم الإنترنت، وللأسف هو الذي يغذي اليوم مستقبل الذكاء الاصطناعي، الذي يستند أساسًا على ما هو متاح عبر الإنترنت من نصوص ومقاطع فيديو وصور، لنتحول من سؤال الحرية إلى سؤال الحقيقة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.