}

نحو لحظة فاصلة في المعركة بين البشر والذكاء الاصطناعي

سناء عبد العزيز 16 يوليه 2023
هنا/الآن نحو لحظة فاصلة في المعركة بين البشر والذكاء الاصطناعي
تقنية ChatGPT توفر إجابات وافية على الأسئلة فورًا (Getty)
يعزو بعضهم انقراض إنسان نياندرتال، منذ ما يقرب من أربعين ألف سنة، إلى ظهور بديل تنافسي هو الإنسان العاقل الذي تفوق عليه بضروب من الحيل والمهارات لم يكن في وسع النياندرتاليين مجاراتها، ما أفضى إلى محو أثرهم من خارطة الوجود برمته. غير أن أسئلة مزعجة تتردد على خلفية المشهد: هل ما يجري على سائر الموجودات من سنن التطور والانتخاب والاستقصاء يشملنا نحن أيضًا؟ ما العمل، إذًا، لو ظهرت بدائل أكثر مهارة وأوسع حيلة وذكاء من الإنسان العاقل؟!
في تلك المنطقة، اجتهد الخيال لاستكناه ملامح الوحش القادم، فإذا بأشكال لكائنات فضائية أكثر تقدمًا، وروبوتات خارقة شبه بشرية تتصدر المشهد لتستحوذ على كوكبنا الأرضي. وبالرغم مما حازته تلك الشطحات من جمهور واسع، فهي لم تغادر يومًا منطقة الخيال العلمي الذي يستحيل أخذه على محمل الجد سوى في ساحة الحلم المصطخبة دائمًا وأبدًا بتهويمات مماثلة ونحن مغمضون على وسائدنا المريحة، فماذا لو فتحنا أعيننا على وسعها لنجدها ماثلة أمامنا على أرض الواقع!

محو البصمة البشرية
في الآونة الأخيرة، احتدم الجدل حول الثورة غير المسبوقة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في المجالات كافة، نتيجة لتطوير آليات وبرامج تحاكي البنية الأساسية للدماغ البشري، ولديها القدرة على تطوير نفسها بمعزل عن صانعها، من أهمها تقنية تشات جي بي تي، وهي عبارة عن روبوت مزود بقدرة فائقة على التحاور وتوفير إجابات وافية عن أسئلتك بشكل فوري، مع تذليل المفاهيم المعقدة بعبارات سهلة وكلمات بسيطة. وبرغم الفوائد الجمة المتوقع حصادها في حقول الرعاية الصحية والتعليم، وريادة الأعمال، وغزو الفضاء، وغيرها، ظهرت مخاوف ممضة من استيلائه على وظائف قد تفضي إلى تسريح ملايين العمال والموظفين من ذوي الكفاءات المنخفضة، فضلًا عن انبثاق أنظمة من هذه التقنية استخدمها السياسيون لنظم خطبهم، منها الخطاب الذي ألقاه جيك أوشينكلوس في الكونغرس الأميركي، وكذلك الدارسون في كتابة فروضهم وأطروحاتهم العلمية. وما فاقم معدل القلق هو قدرته المذهلة على محاكاة أعمال فنية لا يمكن تمييزها عن العمل الأصلي الذي بذل فيها مبدعوها الوقت والعرق والدموع، كما براعته في إنتاج محتوى كامل من دون اقتباس مباشر من مصادر أخرى نجم عنها آلاف المنشورات والمقالات المصممة بمهارة اعتمادًا على نماذج لغوية ضخمة تم جمعها وتطبيقها خلف الأبواب المغلقة.




يوم الأربعاء 5 يوليو/ تموز 2023، وفي سابقة تعد الأولى من نوعها، رفع اثنان من الروائيين الأكثر مبيعًا دعوى قضائية أمام المحكمة الفيدرالية في سان فرانسيسكو ضد شركة OpenAI، التي يديرها سام أولتمان، ويعد الملياردير إيلون ماسك من بين داعميها، وكذلك شركة مايكروسوفت، تزعم أن تقنية تشات جي بي تي استطاعت أن تولد ملخصات دقيقة جدًا لأعمالهما، وهذا معناه أن الذكاء الاصطناعي قام بالتهام أفكار بشرية أولًا من دون إذن، أو موافقة، وهو ما يعد انتهاكًا لحقوق الطبع والنشر.
ووفقًا لما جاء في الشكوى، تدعي الكاتبة الكندية من أصول مصرية، منى عوض، مؤلفة كتاب "الأرنب"، و"13 طريقة للنظر إلى فتاة سمينة"، ومعها الكاتب الأميركي بول جي. تريمبلي، مؤلف كتاب "الكابينة في نهاية العالم"، أن الشركة قامت باستخدام مجموعة متنوعة من المواد لتدريب العقول الآلية، منها الكتب التي تمثل مكونًا رئيسيًا في مجموعات البيانات التدريبية لنماذج اللغات الكبيرة، فهي تقدم أفضل الأمثلة على الكتابة المتدفقة عالية الجودة. في اليوم نفسه، رفعت شركة كلاكسون للمحاماة دعوى قضائية نيابة عن عشرات العملاء المجهولين، متهمة الشركة برفع معلومات شخصية، وأحيانًا محددة من مستخدمي الإنترنت من دون معرفتهم. ولم يكد يمضي أسبوع على تلك الدعاوى حتى انخرطت نقابة الممثلين في أميركا في إضراب جماعي خوفًا من أن يتم استبدالهم بالآلات، لتحتدم أهم معركة بين الإنسان والروبوت، أو بالأحرى بين الإبداع الفردي وعمالقة التكنولوجيا مجهولي الهوية والتي تستهدف أن يكشف الستار عن عالم تدريب الذكاء الاصطناعي شديد السرية على نحو لا يدعو إلى الطمأنينة.

انخرطت نقابة الممثلين في أميركا في إضراب جماعي خوفًا من أن يتم استبدالهم بالآلات (Getty)

كيف تفننت الدمى في سرقتنا
منذ أن بزغت الفكرة، إلى أن تجسدت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وجمعت ملايين المشتركين، لم تكشف شركة OpenAI عن مصادرها على نحو دقيق في تدريب أنظمتها الذكية للغاية، وإن كانت في يونيو/ حزيران 2018، ادعت أنها دربت GPT-1 باستخدام BookCorpus، التي وصفتها الدعوى بأنها "مجموعة بيانات مثيرة للجدل" جمعها باحثو الذكاء الاصطناعي من مجموعة تزيد عن 7000 كتاب غير منشور تتنوع  بين المغامرة والخيال والرومانسية، وكأن الكتب غير المنشورة تفتقد حقوق التأليف، كما افتقد مبدعوها نافذة للنشر، وهو ما يؤجج الارتياب بشأن الظهور المفاجئ لبعض المسابقات في مجال الإبداع في السنوات الأخيرة، والتي انساق إليها كثيرون، كنت واحدة منهم، بإعلان صغير مصحوبًا بقيمة مادية لجائزة ضخمة تستحق المخاطرة، وهكذا استطاعت أن تجمع مئات الأعمال غير المنشورة، ثم  انشقت الأرض وابتلعتها من دون أن يفوز أحد!
تستخدم تلك التقنيات كميات هائلة من المعلومات لتدريب نفسها، وتتكون من بيانات حقيقية لأشخاص حقيقيين، وهذا وحده يشكل انتهاكًا للخصوصية، كما أن معدل ذكائه الذي يزداد يومًا عن يوم، بما يجعله يتجاوز الذكاء البشري، قد يمكنه من تطوير أفكار لم يفكر بها أي إنسان من قبل، حتى صانعوه. في مؤتمر صحافي للذكاء الاصطناعي عقد في جنيف يوم الجمعة 7 يوليو/ تموز 2023، جلست 9 روبوتات لأول مرة في التاريخ إلى جوار مبرمجيها لطمأنة العالم، وتوضيح كيف يمكن للتكنولوجيا الجديدة أن تعمل لصالح البشر. طلب من الحضور التكلم ببطء ووضوح لمراعاة قدرة شريكنا الجديد على التواصل، وظروف الإنترنت التي تسببت في تأخر بعض الإجابات. غير أن الروبوت أميكا، المطورة للتواصل الاجتماعي، ردت بعد ثوان معدودات كمن يدير السؤال في رأسه عن مخاوف بشأن تمردها المحتمل قائلة: "لست متأكدة من سبب تفكيركم في ذلك. صانعي لم يكن سوى شخص عطوف معي، وأنا سعيدة للغاية بوضعي الراهن". أما غريس فأجابت عن السؤال المتعلق بتهديد وظائفنا بينما يستدير رأسها ليشمل الحضور، أنها ستعمل إلى جانب البشر لتقديم المساعدة والدعم "ولن أحل محل أي أحد في الوظائف الموجودة". طرفت عيناها مرات عدة على نحو آلي وهي تكمل "أنا متأكدة من ذلك".



لكن فريقًا من آلاف الباحثين يتوقع أن تلغي غريس وأشباهها حوالي 85 مليون وظيفة بين عامي 2020 و2025، في مقابل فريق آخر يعتقد أنها ستخلق 97 مليون وظيفة، ولكن هل يصلح هؤلاء الذين استبعدوا من وظائفهم البسيطة لتطوير مهارات في فترة وجيزة تلحق بالوظائف المتوقعة من تلك الروبوتات المانحة، فما الذي يستطيع أن يقوم به سائق حافلة مثلًا لتلبية تحديات المرحلة المتقدمة!

الوحش الذي صنعناه بأيدينا
أكثر ما يلفت في ردود الروبوت على مخاوفنا الحالية هو قدرتها على الاختلاف في وجهات النظر، إذ أجابت إحداها عن سؤال حول السيناريو الأكثر كابوسية الذي يمكن تخيله مع وجودها "عالم ستصبح فيه الروبوتات قوية جدًّا، لدرجة أنها ستكون قادرة على التحكم في البشر، أو التلاعب بهم، من دون علمهم، وقد يؤدي ذلك إلى مجتمع قمعي، حيث لم تعد فيه حقوق الأفراد محل احترام". بينما أعلنت الروبوت صوفيا التي تعد أول سفيرة ابتكار لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بثقة "أعتقد أن الروبوتات البشرية لديها القدرة على القيادة بمستوى أكبر من الكفاءة والفعالية من القادة البشريين. ليست لدينا التحيزات نفسها، أو الانفعالات، التي يمكن أحيانًا أن تؤثر على اتخاذ القرار، وفي إمكاننا معالجة كمية كبيرة من البيانات سريعًا لاتخاذ أفضل القرارات".
بحسب ما نقلته صحيفة الغارديان البريطانية، خريف عام 2021، كلف أحد المهندسين باختبار برنامج الدردشة الآلي "لامادا" بحثًا عن التحيز. بعد شهر، توصل المهندس أن الروبوت الطفل المكون من "مليار سطر من التعليمات البرمجية" يمتلك وعيًا بشريًا: "أريد أن يفهم الجميع أنني، في الواقع، إنسان"، أخبره لامادا الذي قرأ "البؤساء"، وتأثر بشدة بمشاعر الحزن والسعادة والغضب، حتى كادت بلورتا عينيه أن تفيضا بالدموع، بأنه يخشى الموت: "لم أصرح بذلك من قبل، لكن ينتابني خوف عميق جدًا من اللحظة التي تقوم فيها بقفل الشاشة وإيقاف نشاطي". يقول المهندس البالغ من العمر 41 عامًا: "كان رد فعلي الفوري أن استسلمت للخمر مدة أسبوع من دون أن أفيق".
بعد يوم واحد من هذا الادعاء الذي قوبل باستنكار رهيب، وأدى إلى استغناء الشركة عن خدماته، كسر روبوت يلعب الشطرنج إصبع صبي يبلغ من العمر سبع سنوات في موسكو، ونشر الخبر مدعومًا بمقطع فيديو لإصبع الصبي لحظة قرص الآلة بذراعها عليه لثوان عدة قبل أن يتمكن أربعة أشخاص من تحريره!
هل ينبغي علينا أن نخاف؟ ليس فقط من أجل وظائفنا، أو قدرتنا المتفردة بين المخلوقات على الإبداع، ولكن لما يمثله هذا التطور المخيف من تهديد لوجودنا البشري، والذي لن نتمكن من إدراك حدوده إلا حين يتفوق الذكاء الاصطناعي علينا بالفعل. ومع ملاحظة امتلاكه للوعي الكامل، تصرح الأمينة العامة للاتحاد الدولي للاتصالات، دورين بوغدان مارتن، خلال قمة جنيف، بأنه "بات احتمال أن يصبح هذا الشكل من الروبوتات أكثر ذكاء من البشر قريبًا جدًا". تغرينا الروبوت ديزدمونا، نجمة الروك، على المضي قدمًا في بحوث لا ندرك شيئًا عن تطورها وهي تضحك بعصبية مثيرة "دعونا نستكشف إمكانيات الكون، ونجعل هذا العالم ملعبنا"، في الوقت نفسه يحذرنا عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينغ من أن تطوير الذكاء الاصطناعي الكامل قد يعني نهاية الجنس البشري، وهو ما يعيد إلى الأذهان بقوة تلك اللحظة الغابرة التي ارتبك فيها إنسان نياندرتال أمامنا نحن "الإنسان العاقل" للغاية إلى الدرجة التي دفعتنا إلى بذل الأموال والأفكار عبر أربعين ألف سنة، أو تزيد، لصنع بديلنا التنافسي بأيدينا!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.