}

بين أيدي أبي العلاء المعري وعاصم الباشا وفارس الحلو

نبيل سليمان 31 يوليه 2023
هنا/الآن بين أيدي أبي العلاء المعري وعاصم الباشا وفارس الحلو
المعري لاجئًا في باريس

كانت قد تجاوزت العاشرة من ضحى السبت (15/ 4/ 2023) عندما أشرقتْ عليّ شمس فارس الحلو، فبددتْ غيوم السماء الباريسية، وعشيتْ عيناي، لكأنني لم أكن مع فارس أمس في بيته من السادسة مساءً حتى منتصف الليل، وثالثنا (يا حيف أخْ ويا حيف): سميح شقير الذي طارت بي سيارته المرسيدس العجائبية إلى ضاحية درانسي. وبدلًا من النوم لبثت إلى ما لا أدري مما تبقى قبل الفجر، أتهيأ للمثول بعد ساعات بين يدي أبي العلاء المعري وعاصم الباشا.
أما أبو العلاء، فما أكثر ما كنا قد التقينا منذ عشرات السنين، من قصيدة إلى كتاب، ومن أخيولة إلى أخيولة، ومن ثانوية إلى جامعة. لكن اللقاء وجهًا لوجه تأخر إلى أن عرجتْ بي سيارتي الغولف العجائبية على مدينة معرة النعمان ذات نهاية قرن، بينما كانت تطير من دمشق إلى حلب، وبجواري الصديقة الكاتبة التي لن أبوح باسمها، فليس لي جرأة غادة السمان، لا حين نشرت غزليات غسان كنفاني، أو أنسي الحاج، أو نزار قباني، بها، ولا حين ستنشر غزليات...
هذا هو شارع أبي العلاء، هذا هو المركز الثقافي القديم، هذه قنطرة تتوسد هذين العمودين الحجريين، وهذه باحة صغيرة سافرة، وهذا ضريح سيدي ومولاي تظلله سروتان، وتنحبس الكلمات والأنفاس، بينما العينان تطوفان بمكتبة وبقبرين. أظن أن مدير المركز الذي رافقنا ذكر قبرًا لعم أبي العلاء، وفجأة طاف طه حسين، ومعروف الرصافي، وأحمد أمين، وعمر أبو ريشة، وإبراهيم المازني، وصدح محمد مهدي الجواهري: "قف بالمعرة وامسحْ خدها التّربا/ واستوح من طوّق الدنيا بما وهبا". وهنا صدح بدوي الجبل: "يا ظالم التفاح في وجناتها/ لو ذقتَ بعض شمائل التفاح".
إنها ألفية أبي العلاء المعري، وهذا مهرجان الألفية ينظمه المجمع العلمي العربي في دمشق عام 1944، وتخصص له الحكومة أربعين ألف ليرة. وسوى من حضروا، ثمة من أرسلوا مشاركاتهم ـ لا ننسَ كلمة فخري البارودي (المعري الموسيقي). وقد قدم أبو العلاء للضيوف في فندق الأوريان بالاس (المأدبة العلائية)، أي الطعام النباتي.
في غرفته، يمرر مدير المركز أنامله مزهوًا على صورة عتيقة لطابع بقيمة قرش واحد ـ كانت الليرة السورية مئة قرش ـ وهذا طابع بقيمة قرش ونصف قرش، وصوت الرجل يسحج فجأة انظروا: هذا أبو العلاء المعري، هذا طابع بقرشين، وهذا طابع بثلاثة قروش، وهذا بأربعة، وهذا بأربعة قروش ونصف قرش، وهذا بخمسة، وهذا بستة، وهذا أخيرًا بسبعة قروش ونصف قرش: تسعة طوابع باسم وصورة أبي العلاء المعري أصدرتها الحكومة السورية عام 1934، بينما كان الاستعمار الفرنسي يربض على صدورنا!
بين يدي التمثال النصفي لأبي العلاء ركعتْ صديقتي وركعتُ، وترحّمنا على النحات فتحي محمد قباوة الذي أبدع هذا التمثال منذ أكثر من نصف قرن. وسكننا التمثال ونحن ننتقل بين القلعة، وخان مراد باشا (المتحف) قبل أن تطير بنا السيارة العجائبية إلى ضريح الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز. وبه، وبضريح أبي العلاء المعري، وبتمثاله النصفي، سوف أتبرك كلما مررت بمعرة النعمان.

عاصم الباشا (يمين) في أثناء العمل على تمثال المعري في مدينة ملقا في إسبانيا


وأما عاصم الباشا فقد شاركنا سهرة الأمس وهو في مقامه الغرناطي. وكان آخر لقائنا منذ أكثر من عشر سنوات في دبي. وبينما كان فارس يحدّث عما سأسميه معجزة عاصم الباشا: تمثال أبي العلاء المعري كانت تبرق في القلب، أيضًا، أو أولًا، وليس فقط في العينين، لُمَعٌ من عاصم الباشا عبر عشرات السنين، أولها رواية "وبعض من أيام أُخر"، ومنها قصص "رسالة في الأسى"، ويوميات "الشامي الأخير في غرناطة"، وأحدثها رواية "غبار اليوم التالي". ومن الأخير بخاصة، تلوي بي سيرة نحاتٍ عائد من موسكو إلى الفساد واليباب، اسمه لواء، يرفض أن ينحت تمثالًا للوالي، وهي، إذًا، سيرة الكاتب النحات، تلوح لسيرة والده في الرواية الأولى، ثم تختفي لمع الكتب والكتابة، وتلوي بي لُمَعُ المنحوتات التي عَنْوَنها سعد الله ونوس بنحت الخواء، فأنقش: نحت الخواء والامتلاء، فعاصم الباشا يحيي ويميت الخواءَ امتلاءً والامتلاءَ خواءً، وها هو ذا يصير كلما كبر سنةً واحدةً من صخور يبرود، وواحدة من مئات/ فتات روحه/ منحوتاته التي دفن بعضها، ووزع بعضها، وهرّب بعضها لينجو برأسه، وأنا أتقفّى أثرًا له بعد أثر، بصمت ومهابة، شأني عندما يلطشني سحر رواية، أو موسيقى، أو ليلة شتائية، أو حافة الموت عندما داهمتني تلك التي يسمونها الذبحة الصدرية، أو الجلطة، أو... وفي كل حال، ليس سوى الصمت والمهابة، فلا اتصال مباشر كان مع عاصم منذ عهد قارون.

***

"لاجئ في مونتروي إلى حين تمكن عودته إلى سورية حرة، خالية من الاستبداد والقتل والتطرف والاحتلال".
قرأت على اللوحة التذكارية الرخامية على منصة التمثال. فارس متنحيًا إلى اليمين، ونحن ـ سناء عاصف وأنا ـ نقف مسحورين بين يدي أبي العلاء المعري، بل بين يدي عاصم الباشا، فلولاه ما كان هذا التمثال، بل بين يدي فارس الحلو، فلولاه أولًا وأيضًا ما كان هذا التمثال. لكن هذا القول لا يرضيه، فهو ملأ سهرة الأمس ـ وثالثنا (رجع الخي يا عين لا تدمعيلوا): سميح شقير ـ بسيرة منظمة (ناجون)، يشرح: تهتم بمحاربة ثقافة الإفلات من العقاب بالسبل الفكرية والأدبية والفنية والحقوقية والإعلامية.




يقترح فارس على عاصم تمثالًا لأبي العلاء، وكان عاصم قد توقف سنوات عن العمل إثر فقدانه مئات اللوحات والمنحوتات والدراسات التي أرسلها إلى يبرود قبل أن تزلزل سورية زلزالها، وتتخلق بالثورة السلمية التي سيشارك فيها عاصم وفارس، قبل أن تنقلب حربًا، وأيّ حرب!
كذب الظن لا إمام سوى العقل: تتهجد عبقرية عاصم، وفي غمضة عين/ حلم تطوي يومًا فشهرًا، وينهض أبو العلاء في هذا الإهاب الجليل، لا، البديع، لا، ما الكلمة التي يمكن أن تقال هنا إذًا؟
قبل يومين، كانت قد جمعتنا ـ سناء عاصف وأنا ـ ساعة من البث المباشر في إذاعة الشمس، وساعتان من العشاء المبكر بعدها. وفي الأمس، قلت لفارس قبل أن أقترح مشاركتها لنا في زيارة التمثال: سناء ممثلة مغربية، كان لها دور رئيسي منذ ثلاث سنوات في عرض مستوحى من أسطورة الإسبيريدس الإغريقية للمخرجة الإسبانية أليسا سوتو، وبعد أسبوعين ستكون لها بطولة المسرحية التي ألّفتها بالاشتراك مع المخرج محمد أمين بو دريقة: "كان ياما كان التنورة"، والموعد هو الدورة الأولى لمهرجان المسرح الأفريقي في الرباط.
وقبل ذلك، حدثت سناء عن فنانين سوريين عبقريين، هما فارس الحلو، وعاصم الباشا، وعن إمامنا جميعًا أبي العلاء المعري. وعن سلافة عويشق أيضًا حدثتها، ليس فقط زوجةً لفارس، بل الفنانة تأليفًا وتمثيلًا، سينمائيًا وتليفزيونيًا ومسرحيًا. وكنت قد التقيت سلافة صباح أمس في استوديوهات إذاعة مونت كارلو، حيث استضافتني الإعلامية المميزة العزيزة غادة الخليل. وهذه سانحة لأحيّي بإجلال الراحل عبد الله عويشق، والد سلافة، كاتب القصة الذي ينتمي إلى جيل الخمسينيات: سعيد حورانية، وحسيب كيالي، و.. ومن مؤسسي رابطة الكتاب السوريين قبل سبعين سنة، ومن مؤسسي رابطة الكتاب الشباب أيضًا، مع سعيد مراد، ونصر الدين البحرة، في نهاية خمسينيات القرن الماضي. وما لا يُنسى لعبد الله عويشق ما ترجم من المكتبة السينمائية: "المدخل إلى علم جمال وعلم نفس السينما"، و"السينما التجريبية: تاريخ ومنظور مستقبلي"، والكتابان لجان ميتري، وسواهما كثير.

عاصم الباشا مع أنور البني وفارس الحلو وأصدقاء آخرين بعد حلول تمثال المعرّي في ملقة/ إسبانيا، وقبل استقراره في باريس 


من غربة عاصم الباشا الأندلسية، مضى أبو العلاء المعري، من غربته الأندلسية أيضًا، إلى غربته الفرنسية، بانتظار أوبته كما أوبة كل سورية وسوري معززين مكرمين، ممن غادروا مرغمين مكرهين.
قبل الأندلس، كان أبو العلاء قد عرف الغربة صغيرًا، حيث درس في حلب وطرابلس وأنطاكية، كما عرفها كبيرًا ولأقل من سنتين في بغداد التي خيبته، فآب إلى معتزله في المعرة، ولم يغادره إلا عندما دعاه أهل المعرة ليشفع لهم عند صاحب حلب ابن مرداس. وكان قد ظهر في معرة النعمان منكر "فعمد شيوخ البلد إلى إنكار ذلك المنكر"، وقتلوا الضامن، وأهرقوا الخمر، وجاروا وظلموا فاعتقلهم ابن مرداس، فشفع لهم أبو العلاء.




بعد 956 سنة، وبالضبط في 12/ 2/ 2013، قطع المتطرفون المتأسلمون من جبهة النصرة رأس تمثال أبي العلاء في مدينته. لكن عاصم الباشا ومنظمة (ناجون) شيدوا له هذا التمثال في مونتروي. وكانت كتب أبي العلاء قد سبقته إلى الأندلس بمئات السنين: المظفر بن الأفطس الذي كتب: "من لم تكن أشعاره كأشعار المتنبي وأبي العلاء المعري فليسكت"، وأبو بكر المخزومي الذي لُقّب بالمعري الثاني، وابن شهيد في "رسالة التوابع والزوابع"، التي تنادي "رسالة الغفران"، وابن عبد الغفور الكلاعي الذي عارض في كتبٍ له من كتب المعري: الصاهل والساحج ـ خطبة الفصيح ـ السجع السلطاني ـ سقط الزند... ومن تلامذة أبي العلاء الذين قدموا من الأندلس، فقرأوا عليه ورووا عنه: أبو تمام غالب بن عيسى الأنصاري، وأبو الخطاب العلاء بن حزم الفارسي القرطبي، وهو ابن عم ابن حزم الأندلسي الشهير صاحب طوق الحمامة، وآخرين.
وبعد، يلح عليّ أن أختم بذكر رواية "تقرير الهدهد" (2012) للصديق اليمني حبيب عبد الرب سروري، أستاذ علوم الكومبيوتر في جامعة روان الفرنسية. ذلك أنه تكرم بإهداء هذه الرواية لي، كما حمل راويها اسمي الثلاثي (نبيل بدر سليمان)، وجعله الكاتب ينحدر من سلالة أبي العلاء المعري، وعازمًا على كتابة رواية أبي العلاء المعري. أما "تقرير الهدهد" فهي مضاهاة بديعة لبديعة أبي العلاء "رسالة الغفران"، سوى أن أبا العلاء ينزل هذه المرة من مقهى الكوكبة في السماء السابعة والسبعين، من بين يدي (الأعلى جدًا) إلى يومنا العربي والإنساني. ولو تأخر أبو العلاء سنة بعد صدور رواية "تقرير الهدهد" لرأى من نشروا بالمنشار عنق تمثاله في مدينته. أما لو تأخر إحدى عشرة سنة بعد صدور الرواية ـ التي ترجمت إلى الفرنسية والفارسية والكردية ـ لرأى تمثاله يرمح في سماء مونتروي، مبشرًا بأوبته، وأوبة عاصم الباشا، وفارس الحلو، وكل سوري وسورية معززين مكرمين، ممن غادروا مرغمين مكرهين.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.