}

في وداع شوقي أبي شقرا: خسارة "مدرسة شعرية"

ميشلين مبارك ميشلين مبارك 16 أكتوبر 2024

كان الأصدقاء والمقرّبون يشعرون بأنّ الساعة قد دنت، وموعد رحيل الشاعر شوقي أبي شقرا ليس ببعيد. فمنذ انتقاله إلى المستشفى، الشهر الماضي، وحتى أيامه الأخيرة، كان في غرفة يحظر الدخول إليها باستثناء زوجته "حلوة". وأتت خسارته لتعمّق حزننا في زمن الخسارات. هو الذي فتح الأبواب للكثير الكثير من الشعراء والكتّاب والصحافيين، أتت الساعة ليُفتح له باب السماء.

شوقي أبي شقرا (1935- 2024) أحد أبرز صنّاع الحداثة الشعرية وحامل شمسها من لبنان إلى العالم العربي فالعالم. هو أيضًا صحافي مؤسس لأول صفحة ثقافية في الصحافة اللبنانية، في جريدة "النهار"، وهو معلّم الأجيال الثقافية اللاحقة بحبره الأحمر، مطلقًا المئات من الكتّاب والشعراء اللبنانيين والعرب إلى منبر النشر في الجريدة.

وأول الحكاية بدأت مع طفولة سعيدة في جبل لبنان، تكتنز مفرداتها من الطبيعة واللعب والشيطنة، قبل أن يسقط الوالد من العربة ويبحث ابن العاشرة عن أبّ خطفه الموت باكرًا، منتقلًا من جبل لبنان إلى بيروت، دارسًا في مدرسة الحكمة العريقة في الخمسينيات من القرن الماضي وهناك بدأت تظهر موهبته الكتابية وتفوقه في الأدب، وهو القائل: "الكتابة ساعدتني للخروج من عزلتي".

بدأ أبو شقرا في ترجمة العديد من الكتب لشعراء غربيين مثل رامبو ولوتريامون وغيرهما. كانت المنطقة العربية وخصوصًا بيروت قد بدأت تشهد حركات شعرية حديثة منها تأسيس أبي شقرا لحركة "الثريا" مع الشعراء جورج غانم، إدمون رزق وميشال نعمه. ثم ما لبث أن عمل مع أنسي الحاج وانضم إلى مجموعة مجلة "شعر" في نهاية الخمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي. ويقول أبو شقرا عن تجربته الشعرية في حوار سابق مع الزميلة دارين حوماني (في جريدة "اللواء" اللبنانية): "‏إنها تجربة قامت باكرًا على وقع القافية وبحور الخليل، كانت الحياة رعوية فلاحية تخلو من السيارة كليًا ما عدا البوسطة التي كانت تأتينا في ‏الغسق وفي الأمسيات التي نتمتع بلونها وبغبارها ويكفي أن نغسل أرجلنا في العشية لنرتاح من العبء الذي لا يوصف، إذ ربما هو اللعب الشديد، وربما هو الأفكار التي تختال في رؤوسنا، إن مجمل المشاعر والأحاسيس التي تغمرني هي ما حرّكني في مطلع المسار، ولا أحد، بل ربما أحدهم حسيب عبد الساتر ثم فؤاد كنعان، هما مَنْ رأيا أنني أنفرد في الكتابة وأنا تلقّفت ذلك، ولو كنت ابن فقراء وابن عالم فقير من حيث الأرقام، لكنه غني من حيث الحركة والتواتر. وإذا بي، في هذا المناخ الضئيل، وفي حالتي التي هي متواضعة، أراني آخذ الأشياء من حولي، وآخذ الموجودات المتنافرة والمتناغمة معًا، وهي بسيطة، وأجرّها إلى نصّي، لتكون، فوق البساطة القاتلة، إلى أعلى ممّا هي، لترتدي أزيائي ولبوسي، ولا حساب في طريقي...".

أصدر شوقي أبي شقرا ديواني شعر على الوزن التفعيلي: "أكياس الفقراء" (1959)، ومن ثم "خطوات الملك" (1960)، وما لبث أن قاد مع زملائه في مجلة "شعر" الثورة الحداثية في الشعر خصوصًا مع صدور كتابه الثالث "ماء إلى حصان العائلة" (1962) والذي فاز بجائزة مجلة "شعر"، وقد سلك طريق قصيدة النثر شعراء من الجيل نفسه لأبي شقرا مثل أنسي الحاج، ويوسف الخال وغيرهما. وقد وصف الخال أبي شقرا بـ"الشاعر الذي تستهويه المغامرة في مجال الفذ والفريد والغريب".

في عام 1964، أسّس أبي شقرا أول صفحة ثقافية يومية في الصحافة اللبنانية، وتسلّم منذ 1964 وطوال 35 عامًا إدارة الصفحة الثقافية في صحيفة "النهار"، فاتحًا باب النشر لأقلام كثيرة من العالم العربي لرجال ونساء في قصائد ومقالات عن النقد والمسرح والأدب والفنّ التشكيلي، جامعًا مقالاته التي كان يوقّعها "ص. ث" أي الصفحة الثقافية في كتابه "سائق الأمس ينزل من العربة" في عام 2000. وقد كان أصدر دواوينه الشعرية في عام 1971 "سنجاب يقع من البرج"، "ماء إلى حصان العائلة وإلى القديسة منمن" (طبعة ثانية 1974)، "يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضًا" (1979)، "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة" (1983)، "لا تأخذ تاج فتى الهيكل" (1992)، "صلاة الاشتياق على سرير الوحدة" (1995)، "ثياب سهرة الواحة والعشبة" (1998)، "نوتي مزدهر القوام" (2003)، "تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة" (2005)، "عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى" (2019)، "أنت والأنملة تداعبان خصورهن" (2020). بالإضافة إلى مذكراته "شوقي أبي شقرا يتذكر" (2017).

في رحيله نعاه الكثيرون من الكتّاب اللبنانيين والعرب حول العالم، سواء على صفحات التواصل الاجتماعي أو عبر مقالات نشروها وفاء "للمعلم" كما يطلقون عليه.

انضم شوقي أبي شقرا إلى مجموعة مجلة "شعر" في نهاية خمسينيات القرن الماضي (من اليمين: أدونيس، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج ويوسف الخال)


وقد تواصلنا مع أصدقاء له، فكتبوا لنا كلمات وفاء في وداعه:

محمود شريح

أعترف بفضل الشاعر شوقي أبي شقرا عليّ، هو الذي أخذ بيدي وسدّد خطاي ورسم سير قلبي منذ عام 1977 حين أفسح لي نشر قصائد ومقالات وأبحاث وترجمات على الصفحة الثقافية التي كان يرعاها في جريدة "النهار" البيروتية، فصححها وصوبها على مدى خمسة وعشرين عامًا.

إسكندر حبش

في بداياته لم يكن شوقي أبي شقرا، ذلك المجدّد الكبير في الشعر العربي الحديث، إذ لو عدنا إلى كتبه الأولى، لوجدنا تلك اللغة الكلاسيكية، التي تنسج قصائدها عبر الوزن والتفعيلة. ربما أميل إلى القول إنه كان في مرحلة البحث عن لغته الخاصة، التي وجدها لاحقًا، وهي لغة لا تشبه فعلًا أي لغة شعرية أخرى، لا حين نقارنها مع زملائه الذين كتبوا في "شعر" ولا تلك التي كانت تكتب في الشعر السائد عربيًا في تلك المرحلة. فجأة انتقل شوقي إلى مكان لم يسبقه إليه أحد، ولا أعتقد أن من جاء بعده، استطاع تقليده. ثمة بصمة خاصة لشوقي، عرف كيف يتخلى فيها عن الإطناب المسيطر ليكتب نوعًا من حلمية طفولية مرتبطة بأجواء الريف والقرية. مع العلم أنه يجب التمييز هنا، بمعنى أنه لا يستعيد أدب القرية اللبناني الذي وجدناه منذ القرن التاسع عشر. لقد بنى ريفه الخاص، وقصره الخاص، الذي يحمل فقط اسم شوقي ابي شقرا. وهذا ليس بالأمر السهل بتاتا في الشعر. كان معلما حقا. وسيبقى معلما في تاريخ الحداثة العربية.

ميشال معيكي

عرفته في جريدة "النهار" في سبعينيات القرن الماضي، كنتُ آخذ مقالاتي بخط يدي إلى الجريدة وكان شوقي أبو شقرا يحرص على نشرها في الصفحة الثقافية التي شكلت منبرًا مهمًا للثقافة في لبنان والعالم العربي، وكنّا نطلق على شوقي حارس الثقافة اللبنانية. وقد احتضن شوقي عطاءات كل الأدباء والشعراء والمثقفين والنقاد. في الواقع، شكّلت الصفحة الثقافية تلك إشراقة ثقافية للبنان الحقيقي، وقد واكبت ثورة الثقافة والتكوين الثقافي الذي صار في ستينيات القرن الماضي، في الأدب والشعر والمسرح والفنّ التشكيلي... كانت بيروت لؤلؤة هذا الشرق، وكانت حائط كل المبعدين عن الأنظمة العربية التي كانت تقمع الفكر والتنوير، لذلك أتى هؤلاء المفكرون إلى بيروت حيث كانت جريدة "النهار" حاملة هذه الرافعة للثقافة ولجميع المثقفين والمبدعين من لبنان والعالم العربي. شوقي أبو شقرا حمل هذا العبء وحوّل الصفحة الثقافية إلى منبر حضاري فكري وعطائي. أمّا أسلوب أبي شقرا الشعري فهو أسلوب خاص مجدّد، وقد نجح في خلق فرادة اسمها "كتابة النص الشعري لشوقي أبو شقرا" الذي لا يشبه أحدًا ولا يقلّد أحدًا. بالإضافة إلى انضمامه إلى كوكبة شعراء مجلة "شعر" مع يوسف الخال، أنسي الحاج، أدونيس ومحمد الماغوط وغيرهم الذين أسسوا للحداثة الشعرية. اليوم، مع وداع أبي شقرا الذي له فضل كبير على أهل الثقافة في لبنان؛ نقدّم له وردة وفاء ونقول له: سفرًا هانئًا يا شوقي، شكرًا لك.  
 
علوان حسين (الولايات المتحدة):

شوقي أبي شقرا بمثابة قارة شعرية لم تكتشف كل كنوزها وتضاريسها بكل سهولها وجبالها وينابيعها السحرية بعد. طريقته في نسج قصيدته فريدة، نساج منمنمات وصائد فرائد وصور في كلمات يقع عليها بصره ثم يتحفنا بقصائده البصرية. من البديهي القول بأن شوقي أبي شقرا لا يشبه أحدًا ولا أحد يشبهه لو أراد. سرياليته فريدة من نوعها. أخذ من السريالية شكلها وتداعت آلية الكتابة لديه عبر تدفق الصور الشعرية من اللاوعي وترك الخيال حرًا في مساربه يمتح من اللّغة ما ينهال منها عفو الخاطر لكن قد يتدخل الوعي والتقنية ليعيد رسم خارطة فيها من الطرافة وحسّ الدعابة في مزيج عجيب من العفوية والبناء الفني في هندسة تبدو منفلتة من الخيال لكنها في واقع الأمر مشغولة بحساسية ورهافة وذوق فني رفيع وعالي المستوى. يسمو بالشعر نحو سموات ترتقي فيها القصيدة في مرامٍ بعيدة وأعماق يحتاج سبرها إلى تأمل طويل وإعادة قراءة تبتعد عن السائد. بقي أن أقول عن شوقي أبي شقرا أنه الإنسان الطفل الحالم، النبيل الكريم صاحب اليد البيضاء والفضل الكبير على شعراء كثيرين خصوصًا العراقيين الهاربين من عسف النظام الصدامي وأنا أحدهم حيث كان بمثابة الصخرة التي سندت ظهورنا العارية عندما كان المحرر الثقافي في جريدة "النهار" في ثمانينيات القرن الماضي.

***

في الختام نقول إن شوقي أبي شقرا هو الشاعر الذي غرف من عالمه الريفي فولد الصور الشعرية المدهشة والصادمة. هو الذي خلق معجمًا خاصًا به ودعا الجميع إلى وليمة شعر سريالية بعيدًا عن أي تيمة معينة أو اتجاه فكري محدّد.
نختار من كتابه: "عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى" (الصادر عن دار نلسن) قصيدة "حصار" لما لها من انعكاس على الواقع اللبناني:

"الوردة سترقص وتعاني وتستجدي قناع الإسكندر وأمواج/ الزوارق وشربين الحصار/ وما عندها مخرج من شرارة السينما وفم الممثلة ومن الفحمة/ الشاردة وتصلي أين الصراط؟ والويل شخص الليل/ وحده ينزل في الفوهة/ وتنقضي العطلة وتلتهم الصدفة/ ولا تشبع من قريدس الكلام...".

رحل "المرشد الجمالي واللغوي لجماعة شعر"، كما قال عنه محمد الماغوط، ونحن في رحيله نودّعه بالكتابة عنه وله: هو الثمانيني الثائر على المشيب، الساخر من مرارة الأيام، هو الذي حرس الثقافة عابرًا بها بين براثن الأشواك، حاملًا من زمان الطفولة أوجاعًا وصلوات مردّدًا قصائد حبّ وشموس حياة، ضاحكًا على الغياب بالكتابة، ناثرًا القصيدة هنا وهناك، وفي الآخرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.