}

استهداف إسرائيل المتعمد للآثار: محاولة تصفية هوية شعوب وحضارات

ميشلين مبارك ميشلين مبارك 13 نوفمبر 2024
هنا/الآن استهداف إسرائيل المتعمد للآثار: محاولة تصفية هوية شعوب وحضارات
سقطت صواريخ العدو تمامًا بمحاذاة قلعة بعلبك

إنّ الآثار والمعالم الدينية في فلسطين ولبنان تعود إلى حضارات عمرها آلاف السنين من الإنجاز البشري والتاريخ الثقافي الفريد للمشرق. حضارات تقف شاهدة على إتقان معماري ومراحل تاريخية مرّت عليها الكثير من الشعوب والحملات العسكرية وبقيت هي تخاطب كل الأزمنة بعزة وعنفوان.

لكنّ هذه الحضارات اليوم، بمواقعها الأثرية المميزة وأمكنتها الدينية التاريخية، مهدّدة من قبل عدو يعرف التاريخ العريق ويريد أن يزيله، وهو لا يعترف بأية مواثيق دولية.
في حربها الأخيرة، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 عمدت إسرائيل إلى استهداف المساجد والكنائس والمواقع الأثرية والقلاع بالإضافة إلى الأسواق التاريخية التي تتميز بها بعض القرى والبلدات سواء في فلسطين أو في لبنان، ضاربة بعرض الحائط كل المواثيق والمعاهدات الدولية وخصوصًا اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح وبروتوكولاتها، واتفاقية التراث العالمي لعام 1972، واتفاقية عام 2003 لحماية التراث الثقافي غير المادي، واتفاقية عام 2001 بشأن حماية التراث الثقافي تحت الماء.

إنّ نصوص كل هذه الاتفاقيات الدولية تؤكد أنّ الاستهداف المتعمد للمواقع الثقافية والدينية، والتي هي بطبيعة الحال ليست أهدافًا عسكرية مشروعة، محظور تحت أي ظرف من الظروف في القانون الإنساني الدولي ويعتبر جريمة حرب. والحقيقة هذا ما يؤكد عليه أيضًا كلّ من المجلس الدولي للآثار والمواقع (إيكوموس)، ومنظمة اليونسكو لحماية التراث العالمي.

في حديث معنا يؤكد مدير مكتب بيروت في مؤسسة الدراسات الفلسطينية رامي الريّس: "جزءٌ من ثقافة اسرائيل هو تدمير الثقافة والتراث والدين، فالعقيدة الصهيونية هي عقيدة إلغائية وتعتقد بثقافتها فقط مع إلغاء ثقافة الآخرين. انطلاقًا من هنا فهي تضيّق على المصلين في القدس وفي المسجد الأقصى، وتسعى الدولة الإسرائيلية إلى تهويد كل شيء انطلاقًا من اعتقادها بتفوق العرق اليهودي".

في إحصاء غير نهائي، منذ بدء عملية طوفان الأقصى تتعرض بشكل يومي المواقع والمعالم الأثرية الفلسطينية إمّا إلى التدمير الكلي أو الجزئي، وذلك تبعًا للمعلومات المستقاة من المدوّنات والمقالات الفلسطينية. وهذه المواقع هي: موقع تل العجول الأثري الذي يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد والواقع على الضفة الشمالية لوادي غزة. موقع المقبرة الرومانية الأثري الذي يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. موقع تلّ أم عامر الأثري والمعروف أيضًا بدير القديس هيلاريون الذي يعود إلى القرن الرابع الميلادي، وهو موقع مرشح للتراث العالمي وعلى لائحة اليونسكو للحماية المعززة منذ 14 كانون الأول/ ديسمبر 2023، والموقع الأثري لكنيسة جباليا البيزنطية التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي. ومن المعالم التاريخية الحيّة ذات التراث المعماري والأهمية الدينية والاجتماعية التي تعرّضت للهدم والضرر الكلي: كنيسة برفيريوس التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، والجامع العمري الكبير الذي يعود إلى القرن السابع الميلادي والذي يندرج ضمن أهم المواقع الأثرية نظرًا لجذوره التاريخية الممتدة حتى القرن الأول قبل الميلاد. أما موقع "الأراضي الرطبة الساحلية في وادي غزة" والذي يُعتبر محمية ذات قيمة استثنائية عالمية غنية بالتنوع البيولوجي (النباتي والحيواني) فيجري تخريبه بطرق عدة منها إجبار جيش الاحتلال السكان في شمال القطاع في بداية الحرب على النزوح إلى جنوب الوادي مما يهدد التوازن البيئي للوادي.

بالإضافة إلى ذلك، تتعرّض المواقع الشاهدة على عمارة العصر المملوكي، أي من القرن الثالث عشر حتى القرن السادس عشر، كالمساجد والقصور والأسواق التاريخية ذات القيمة الاجتماعية والاقتصادية إلى الضرب والتهديم، مثل: قصر الباشا (126م)، وسوق القيسارية (1329م) وسوق الزاوية اللتين تشكلان امتدادًا تاريخيًا لبعضهما وتعرّضتا لدمارٍ كبير، جامع ابن عثمان (1394م)، وحمام السمرة (القرن الخامس عشر الميلادي) وهو الحمام الأثري الوحيد الذي كان متبقيًا وفعّالًا لغاية اندلاع الحرب، ومن مباني العصر العثماني التي تعرّضت للدمار والهدم جامع السيد هاشم (1850م)، ومن أوائل القرن العشرين مبنى بلدية غزة القديم (1928م).

وهناك غيرها العديد من المواقع التي طاولها الدمار بالإضافة إلى تراث غزة الثقافي، والمقصود به المتاحف والمكتبات وورش العمل الفنية والثقافية ودور السينما، بحيث تسبّب العدوان بتدمير معظمها، ناهيك عن القتل المتعمد للعديد من الصحافيين والمثقفين والروائيين والفنانين، الأمر الذي أسهم في تدمير الحياة الثقافية الغزاوية عبر القضاء على العديد من المراكز الحيوية العاملة في مجال الحفاظ على التراث الثقافي والتي تشكل جزءًا تاريخيًا من الهوية الوطنية الفلسطينية.

استهدفت إسرائيل مبنى كنيسة برفيريوس الأثرية في غزة والتي تعود إلى القرن الخامس الميلادي (Getty)


خلفيات توراتية

أمّا في لبنان، فالعدو الصهيوني يعتمد "سياسة الأرض المحروقة"، بحسب تعبير المؤرخ والأستاذ الجامعي الدكتور عصام خليفة، عبر ضرب مدن تاريخية وأثرية مثل النبطية وبعلبك وصور، لما تشكّله هذه المدن من جاذب سياحي وحضاري على مرّ الأجيال والتاريخ. ويؤكد خليفة، في حديثنا معه، بأنّ "لإسرائيل في هذا الصدد خلفية توراتية"، ففي أسفار التوراة المحرّفة من قبلهم، يزعمون بأنّ الرب كلمّ موسى عليه السلام قائلًا: كلّم إسرائيل وقل لهم: إنكم تعبرون الأردن إلى أرض كنعان (والتي تُعرف ببلاد الشام)، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم، تملكون الأرض وتسكنون فيها، لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها.

وفي عدوانها على لبنان فلسطين تحاول إسرائيل أن تحقق طموحها الديني.

وقد وثّقت الصحف حول العالم العديد من خطابات رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يستلهم فيها من الديانة اليهودية، فيَعِدُ شعبه بالفوز مستشهدًا بعبارات من كتاب التوراة.

بالتوازي مع الحرب في غزة، يشهد لبنان استهدافًا للمواقع الأثرية والدينية في العديد من المناطق التي يطاولها العدوان الإسرائيلي. فمنذ السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، سقطت صواريخ العدو تمامًا بمحاذاة قلعة بعلبك المدرجة على قائمة التراث العالمي، والتي تُعد أحد أكبر وأجمل الأمثلة المحفوظة للعمارة الرومانية القديمة في العالم. ولا تزال الضربات مستمرة، وقد دعت إسرائيل في تاريخ الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر أهالي مدينة بعلبك إلى إخلائها تمهيدًا لضرب المدينة، في ظل المناشدات الكثيرة للحفاظ على المدينة وموقعها الأثري المسجل على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو منذ عام 1984.

وفي هذا الصدد تقول لجنة مهرجانات بعلبك في رسالتها المفتوحة إلى جميع رؤساء البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية: "الاعتداءات الإسرائيلية طاولت محيط القلعة الأثرية مما أسفر عن أضرار مباشرة لأحد معالمها المعروف بـ "ثكنة غورو" بالإضافة إلى الأضرار غير المباشرة الناتجة عن الدخان الأسود والانفجارات التي أثّرت على الأحجار القديمة وتسبّبت في تصدعات في الهياكل الهشّة". وتذكر اللجنة بأنّ "تاريخ بعلبك يعود إلى أكثر من 11 ألف عام، حيث يحتوي موقعها على آثار فينيقية ورومانية وعربية، وتُعتبر هياكلها ومعابدها الرومانيّة من الأكبر والأكثر حفظًا في العالم". هذا بالإضافة إلى ما تجسّده هذه القلعة من تاريخ فني وثقافي وحضاري للموسيقى والفنّ والشعر والمسرح حيث وقف على أدراجها آلاف الموسيقيين والفنانين من حول العالم لينسجوا حكايات مضيئة من أزمنة جميلة.

كما أنه في السابع من الشهر الجاري، أطلق أكثر من 100 نائب لبناني نداءً عاجلًا إلى المديرة العامة لمنظمة اليونسكو بصفتها المنظمة الحامية للتراث العالمي للمطالبة "بحماية مجتمعنا والتراث الحضاري الذي ورثناه من بلادنا من أجل كبح جماح العدوان الإسرائيلي الذي بعد أن طاول المدنيين والصحافيين والمسعفين يهدد الآن التراث البشري الحضاري العالمي"، كما جاء في البيان.

وليس بعيدًا عن مدينة الشمس، طاول العدوان أيضًا القبة الأثرية وتعرف بـ "قبة دوريس البقاعية" التي بُنيت في العصر الأيوبي من بقايا أعمدة رومانية أخذت من هياكل بعلبك، وقد تضرّرت هذه القبة بسبب العدوان.

أمّا في جنوب لبنان، فجزء كبير من القلاع العاملية الموجودة في منطقة جبل عامل تضرّرت، ومنها قلعة الشقيف التي هي أقرب المعالم الأثرية على الحدود مع فلسطين المحتلة، وتحاول إسرائيل منذ سنوات تهديد هذه القلعة الصليبية التي بقيت شاهدة على كل القصف والصواريخ التي استهدفت الجنوب، وتعرّضت لتصدّعات نتيجة الغارات القريبة منها، كما تضرّر جزء من قلعة تبنين الأثرية.

وتهدّد الغارات الإسرائيلية قلعة صور الأثرية المدرجة على لائحة التراث العالمي، بسبب ما تشهده المدينة ومحيط القلعة من استهدافات مباشرة. فعروسة البحر شاهدة على حقبات تاريخية غنية من الفينيقية واليونانية والرومانية فالبيزنطية والعربية الإسلامية إلى يومنا هذا واقفة صامدة في محاربة أعدائها. هذا بالإضافة إلى الأماكن الأثرية الموجودة في أماكن متفرقة من المدينة والمقامات الدينية المنسوبة إلى الصحابة والأنبياء. والواقع انّ كل الأمكنة الأثرية مهدّدة بفعل استخدام الجيش الاسرائيلي للقنابل الارتجاجية الخارقة للتحصينات.  

ولمدينة النبطية وأسواقها التاريخية ذاكرة أثرية عابقة بالحضارة، فالمدينة التي تحتضن مباني تاريخية ومواقع أثرية كثيرة تعود إلى عهد المماليك، ضربها العدوان الإسرائيلي محولًا معالمها العريقة إلى ركام. إذ كانت هناك متاجر تعود إلى أكثر من 100 عام تناقلت عبر الأجيال، مثل "مكتبة محمود حجازي" و"حلويات بدر الدين" وغيرهما. والواقع أن ما كان يميّز هذه السوق ليس فقط نشاطها التجاري، بل جمالها المعماري وذاكرتها الثقافية والمجتمعية بمختلف أطيافها لتجمع بين حناياها التراث المادي وغير المادي للبنان.

كما تجدر الإشارة إلى أنّ هناك العديد من المواقع الدينية التي دمّرت بشكل كامل أو جزئي خلال الشهرين المنصرمين، ومنها، على سبيل المثال، المسجد العثماني في بلدة كفر تبنيت، ومسجد بلدة يارون، ومسجد بلدة طيردبا، وكنيسة يارون، وكنيسة دردغيا في قضاء صور. بالإضافة إلى بلدات وقرى سُوّيت بالأرض، ولكنّ ركامها بقي شاهدًا على إجرام صهيوني غير مسبوق. هذا الإجرام يحاول عبر استهدافه للمعالم الأثرية والدينية والثقافية أن يقضي على هوية شعب وتاريخه الثقافي العريق من دون أن ينجح، وبالتأكيد سوف لن ينجح.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.