وأشارت تماري، وهي واحدة من رواد الفن التشكيلي الحديث في فلسطين، خلال حواريّة معها في مكتبة رام الله العامة، مؤخرًا، إلى أن هذه الذكريات تعود بها إلى لحظات سعيدة وأخرى محزنة، لكنها باتت جزءًا من هويتها، فالعديد من أعمالها الفنية مستلهمة من يافا، مثل إنشاء وجوه من الفخار تعكس ذاكرتها عن البحر والمدينة وناسها.
وربطت تماري بين تجربتها وتجارب شخصيات فلسطينية أخرى، مثل إدوارد سعيد، وكيف أن العودة للأماكن من الماضي تثير مشاعر مختلطة من الفقد والحنين، مُستعيدة تفاصيل زيارة أسرتها للبحث عن منزل عائلتها في مدينتهم التي هُجّروا منها قسرًا، حيث ألقت والدتها القبض على محطات الذاكرة وضياع المنزل، ما يعكس واقع الحياة الفلسطينية المغلفة، ولا تزال، بالتشتيت والفقد.
تستمر التجربة في استكشاف الماضي من خلال زيارة منزل العائلة، حيث تجد نفسها في مكان مترابط بذكرياتها، واصفة كيف كانت هناك عائلة عربية تعيش في جزء من المنزل الذي كانوا يبحثون عنه، واحتفوا بهم وشاركوا قصصًا عن ذكرياته، مُبرزة المشاعر الصعبة حين كانت تتحدث والدتها عن غرفة نومها، وعن أشياء صغيرة كانت قد اختفت من المنزل بعد تغيير هيكله، وتذكر أيضًا قصة عمها الذي كان قنصلًا فخريًا لتشيكوسلوفاكيا في يافا، واستقال بعد اعتراف دولته بإسرائيل، لافتة إلى أن يافطة حديدية تحمل علم تشيكوسلوفاكيا هي الوحيدة التي تمكنت عائلة تماري من استرجاعها.
وأكدت على أهمية عمل والدها، فايق تماري، في التوثيق بالصور الفوتوغرافية، فقد حفظ تلك الذكريات، فشكلت صوره ترسًا في مواجهة تاريخ مجروح.
تماري وصفت عائلتها بـ"المحظوظة"، لكون هذه الصور حافظت على ذاكرتهم في يافا، وتسرد: كان والدي هاويًا للتصوير، يجمع الصور خلال النزهات العائلية والأحداث الاجتماعية، لكنه أيضًا كان يوثّق الأحداث السياسية مثل الاحتلال والحرب، لافتة إلى صورة وجدها أحد الأقارب له، وهو يحمل كاميرا بجانب جنود فلسطينيين وبريطانيين، ما يشير إلى اللحظات التاريخية التي عايشها. كان أيضًا يلتقط صورًا للحواجز التي أقامها البريطانيون في الخليل، حيث عاش والده لأحد عشر عامًا كموظف حكومي.
تتكون عائلة تماري الفنية من شخصيات متعددة، بما في ذلك شقيقيها تانيا وفلاديمير، ما يعكس التوجهات الفنية والنمو الإبداعي الذي غُرس فيهم منذ الطفولة، مُسلطة الضوء على تأثير والدتهم، التي كانت تدرس الفن والفلسفة، بل وأسّست استوديو صغيرًا في بيتهم بيافا، حيث كانت تتواصل مع معلمها في فرنسا لتلقي الدروس، مُبرزة كيف كانت والدتها، ورغم التحديات، تكتشف أدوات جديدة، وتتعلم بشكل مُبتكر.
وشدّدت تماري على دور عائلتها، وخاصة والديها، في تطورهم الفني، حيث كانت الأم تمتلك ذائقة فنية عالية، ولديها معرفة واسعة حول الفنانين والثقافة بشكل عام، ما أثرى تجاربهم وحبهم للفنون. كما أشارت إلى أنها وشقيقتها تانيا كانتا شغوفتين بالموسيقى، كاشفة عن أن تأثير الثقافة الغربية كان أقوى في حياتهم مما كان عليه تأثير الثقافة الشرقية، ولكن "هذه التجارب شكلت شخصيتي الفنية واهتماماتي لاحقًا، حيث تم التنقل بين أساليب مختلفة من الفنون والتعبير".
حين التحقت بفريق معهد الطيرة للطالبات بمدينة رام الله، معلّمة للفنون، شجعت فيرا الطالبات على استكشاف مواهبهن من خلال دمج الفن بالعلاج، حيث كانت تسعى لإخراج التعليم الفني من قاعات الدراسة ودمجه بالمجتمع. وقد أتيحت لها فرصة استثنائية بمساندة مديرة المعهد، بالسفر مع الطالبات إلى القرى لاستكشاف الحرف التقليدية واليدوية، ما أتاح لهن التعرف على مجموعة متنوعة من الفنون المحلية... زارت فيرا العديد من المناطق مثل الخليل وبيت لحم ورام الله، حيث أقامت ورش عمل، تعلمت خلالها الطالبات عن حرف الفخار والنسيج.
كان لتجربتها في القرى ومخيمات اللاجئين تأثير عميق عليها، بحيث عمّقت ارتباطها بالطبيعة وتقاليد الحياة اليومية في الريف، متأثرة بشكل خاص بتجارب النساء اللاتي كن يجمعن الطين من الأرض ويستخدمن المواد المتاحة لصنع الفخار، ما عكس، برأيها، عمق الصلة بين الإنسان والبيئة. كما لاحظت كيف أن هذه النسوة، وبالرغم من بساطتهن، يمثّلن قوة وحيوية كبيرة، ما ساهم في إبراز كيف يمكن للمرأة الفلسطينية أن تكون قادرة على إحداث أثر ملموس في المجتمع.
ظهرت تلك التجارب لتُظهر الفروق الثقافية والبيئية، وكيف أن هذه العوامل تتفاعل لتشكيل الهوية ورؤية الحياة، ما انعكس على تصور فيرا لدور المرأة الفلسطينية وقدرتها على التكيف والتغيير... "هذه الزيارات واللقاءات تركت علامة واضحة في ذهني، حيث اكتسبتُ فهمًا أعمق للدور الثقافي والاجتماعي للفن في الحياة اليومية لنساء فلسطين".
وتركزت تجربتها في الخزف على التعلم من خلال ورش العمل، حيث شكّل التحاقها بدورة في بريطانيا فترة محورية في حياتها الفنية، فعلى الرغم من عدم معرفتها السابقة بالمواد، إلا أنها وجدت نفسها محاطة بأكبر الفنانين في هذا المجال، ما فتح أمامها آفاقًا جديدة، جعلها مع الوقت تكتسب شغفًا لصنع الخزف بعد استكشافها لملمس المادة وارتباطها العميق بها.
عملها في الخزف كان له بعد جسدي وروحي، حيث شعرت بالتواصل الحميم مع الطين في أثناء التشكيل، كما تأثرت بفكرة إضافة جسدها إلى العملية، ما جعلها تعيش اللحظة بشكل كامل وتوجه طاقتها إلى خلق الأشكال بما يتماشى مع رؤاها الفنية... مع مرور الوقت، نمت تجربتها في هذا الفن، وقدرتها على الإبداع في تصميماتها. فتكون لديها شغف متزايد، وكانت تشعر إلى جانب ذلك بخصوصيتها في عالم الفخار، حيث لم يكن هناك الكثير من الممارسين في تلك الفترة.
تحدثت فيرا كذلك عن ملخص تجربتها في الخزف وكيف بدأت العمل بشكل فردي، وأشارت إلى أنها، وعلى الرغم من أنها لم تكن راضية عن عرض أعمالها في البداية، لكنها شعرت بالتشجيع من تفاعل الناس مع قطعها، مشيرة إلى أن تلك التجربة تعكس أيضًا خليطًا من مشاعر الفخر والقلق والضغط النفسي الذي رافق حياتها وعائلتها خلال فترات الاحتلال والنكبة المستمرة.
وعندما بدأت فيرا تماري العمل في جامعة بير زيت، عمدت إلى جمع المقتنيات الفلسطينية القديمة، خصوصًا الأثواب الفلسطينية التقليدية، مشيرة إلى مجموعة نادرة تم جمعها من قبل عائلة كنعان، فقد كان توفيق كنعان، الذي عُرف بدراسته للأعراف الشعبية وارتباطها بالتداوي، أنشأ مجموعته ضمت حوالي 1400 حجاب وأدوات مرتبطة بالمعتقدات الشعبية، لافتة إلى أن تجربته في جمع تلك القطع كانت تستند إلى أسلوب علمي متقن... "عقب النكبة في عام 1948، عانت عائلته من فقدان ممتلكاتهم، لكنهم قاموا بتسليم هذه المجموعة إلى جامعة بير زيت، حيث تم الاحتفاظ بها لفترة طويلة"، عندما قررت عائلة كنعان تأسيس مؤسسة وطنية، رأت في جامعة بير زيت المكان المثالي للحفاظ على تراثها.
أفادت فيرا تماري بأن الفن المعاصر يتجاوز الأبعاد البصرية ليشمل تلاقي الفكر مع الحس والتاريخ والفلسفة، حيث يتعين على المشاهد أن يطرح أسئلة تتعلق بالمعاني والأفكار وراء الأعمال الفنية.
تجربتها الأولى في عرض أعمال خارج المعارض التقليدية كانت في ملعب مدرسة "الفرندز" العريقة بمدينة رام الله، وتحديدًا في عام 2002، حيث كان الوضع في رام الله مأساويًا نتيجة اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي لكافة المدن والبلدات والقرى والمخيمات الفلسطينية في ذلك الوقت.
استلهمت تماري من تدمير السيارات عملها الفني المُغاير، حيث وجدت أن السيارات الفلسطينية المتضررة بفعل آليات الاحتلال تمثل جثثًا مهملة تُظهر حجم المعاناة التي تعيشها المدينة، لذا قررت العمل على مشروع فني تحت عنوان "ماشين"، حيث قامت بجمع سيارات محطمة وعرضها في مشهد فني، مدعومة بأجهزة راديو تعزف موسيقى وتعرض أخبارًا، مما ساهم في خلق حوار حول معاني الحرية والتنقل.
تمكن المشروع من جذب عدد كبير من الزوار في يوم الافتتاح، ولكن بعد ذلك فرضت قوات الاحتلال منع تجول في المدينة، ما أتاح للجيش الدخول إلى الموقع وإعادة "هرس" تلك السيارات، ما جعل فيرا تدرك أن عملها الفني كان له تأثير أكبر من مجرد إنجاز فني، لجهة التعبير عن واقع مؤلم... "هذه التجربة أكدت لي أهمية الفن كوسيلة للتعبير عن التجارب الإنسانية والمجتمعات خلال فترات الأزمات".
تناولت فيرا الأبعاد الرمزية لعملها الفني الذي يحمل جزءًا من تاريخ المدينة، مُعبرة عن كيف تتشكل الحكايات في سياق المكان، ومؤكدة على أن ذكرى الاجتياحات والاعتداءات المتكررة، مثل تلك التي حدثت في رام الله عام 2002، تستدعي استثمار الفنانين في اللحظة الراهنة على الرغم من حزنها، وهو ما نقلها للحديث عن الأوضاع المؤلمة الحالية، متسائلة عن المسؤوليات الملقاة على كاهل المثقفين والفنانين في ضوء الإبادة المستمرة في قطاع غزة.
واستحضرت تماري ذكرى عملها "حكاية شجرة" الذي جاء نتيجة لتدمير شجر الزيتون في المناطق الفلسطينية، حيث عملت على إنشاء أشجار من الفخار كرمز للفقد وكمقدمة للحياة الجديدة... وقامت بصنع ما يقارب 600 شجرة وعرضتها بألوان مريحة ومتفائلة كدليل على الأمل.
في مشروعها الجديد بالمتحف الفلسطيني ببلدة بير زيت، تعاونت مع فنانات أخريات لإنشاء خمسة آلاف شجرة تعبّر عن الأرواح المفقودة، مشبهة كل شجرة بروح طفل استشهد في غزة.
واستكملت فيرا الحديث بالتأكيد على ضرورة التعبير عن المعاناة، وكيف أن الأوضاع تتغير للأسوأ، مع ذِكر ضحايا الحرب الذين هم من الأطفال والنساء الأبرياء، بالإضافة إلى الضرر الذي يلحق بالشجرة والبيئة، مظهرة، عبر كلماتها، مدى الصعوبة التي تواجهها في إنتاج أعمال جديدة، مشيرة إلى أن مشروع الأشجار هو الشيء الوحيد الذي استطاعت العمل عليه مؤخرًا.