}

الصورة المُسطَّحة والبعد الرابع

عدي جوني 4 فبراير 2024
هنا/الآن الصورة المُسطَّحة والبعد الرابع
(Getty, Gaza, 7/11/2023)

 

في الظروف التي نعيشها حاضرًا، من الصعب على صاحب الضمير الحي أن يوازن بين الصيرورة المعتادة للحياة اليومية بتفاصليها التافهة، بل والمملة في كثير من الأحيان، وبين ما يجري حولنا. لذلك يجد نفسه خجلًا من ممارسة طقوسه اليومية في تناقض مريع مع ما يجري في العالم كله، فكيف يكون الحال مع أخوتنا الذين يسكنون على مرمى حجر منا في غزة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يزال البعض منا يستمتع بالاستيقاظ مبكرًا وهدوء المكان، ويرتشف قهوته وهو يتابع الأخبار على الإنترنت. بيد أن الصورة تنطوي على مشهد عبثي سوريالي عندما تجتمع رائحة القهوة وطعمها المر اللذيذ مع صور التراجيديا الغزاوية التي لم تصل التراجيديات الكبرى في التاريخ منذ الأزل إلى واحد بالمليون من بشاعتها، بل ولن تكون حتى في المستقبل البعيد.

الآن وهنا، يستحيل الفنجان بركة دم يعلو سطحها وجه طفلة رضيعة سكتت في ملامحه علامات الحياة لكن ابتسامة البراءة الطفولية لمّا تزل واضحة تتحدى الموت وكأنها تحاكم جلادها- بل وربما تحاكم ذاك الذي يشرب القهوة في حضورغيابها- وتسألهما معًا "بأي ذنب قُتلت؟"

قد نجد بلغة الإعلام والخطابات الرنانة والأدبيات المكرورة آلاف الأسباب دون أن يعني هذا بالتأكيد تبريرًا لقتل الطفولة، لكن ما يزيد من عبثية المشهد أنه يُختزل في صورة مسطحة تغذيها معادلات رقمية بليدة الحس تحوِّل الدم الحار المتدفق من الشرايين المتهتكة إلى جليد يقارب لونه الرماد.

عندما كنت لا أزال أدرِّس في الجامعة، حرصت دائمًا على القول لطلابي إن النقطة التي تغلق السطر الأخير في أي نص هي مفتاحه لأنها وببساطة تستكمل قراءته نسقًا واحدًا في إطاره اللغوي الشكلاني، لكنها وفي الوقت نفسه تشير من وراء ظهرها خفية إلى فضاء أرحب وأوسع يقبع مختبئًا وراء النص ووراء اللغة ذاتها. بيد أن تلك الإشارة الخفية لا يتلقاها ويستقبلها سوى "أولي الألباب". وهنا اسمح لي عزيزي القارئ أن أتفلسف قليلًا، مع أني أوافقك الرأي بأن الوقت ليس مناسبًا للسفسطة الفلسفية.

بعيدًا عن الأمثلة المدرسية التي غالبًا ما تثير القرف، بل وتدفعني إلى الغثيان، لا أحد ينكر أن العالم اللغوي السويسري فرديناند دو سوسير أسس فتحًا جديدًا عندما أشار إلى "العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول"، أي وبعبارة أخرى أنه لا يوجد أي رابط منطقي بين المفردات اللغوية وبين عالمنا الواقعي المحسوس، أما الميتافيزيقي فحدث ولا حرج. قد لا يدري الآباء والأمهات والمدرسون أننا تعلمنا ونعلم أطفالنا لغة مجنونة لا تستند على منطق ثابت، بل على قياس مجازي يوازي في محدوديته فكرنا القاصر الذي لم ولن يبلغ سن الرشد مطلقًا، بل وبوسعي القول إنه من المستحيل أن تكون اللغة دالًا على الحقيقة لأن اللغة أصلًا لا تمتلك عقلًا منطقيًا. إنها مجرد ظاهرة لا تدل على ماهيةٍ، ما دام كل ما تدركه أدمغتنا مجرد صور "عن" وليست حقيقة ملموسة "لـِ".

لا يمكن لأحد أن ينكر بأن ظاهراتية اللغة باتت أكثر بعدًا عن الحقيقة في أعقاب تحول مجتمعنا الما بعد الحداثي إلى مجتمع الفرجة والصورة المسطحة بكافة أشكالها وميولها الدعائية الأيديولوجية التي تعيد، بفضل الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته المعقدة، إنتاج هوية استهلاكية متشابهة توازي- من حيث الفعل البصري- بين مشاهدة صورة لأنقاض غزة وبين مشاهدة مباراة لكرة القدم. صحيح أن الصورة توثق ما جرى بإطاره العام، لكنها لم ولن تستطيع أن تبرز القيمة الإنسانية لتلك الطفلة الرضيعة التي قضت في غارة طاولت مسكنًا لنازحين بصاروخ خارق للتحصينات، وكأن جسدها الغض استحال بالنسبة إلى قادة الاحتلال الإسرائيلي مدرعًا يستعصي على ترسانتهم.

مع نهاية العرض ينتهي السرد، وتختفي المجازر وراء معادلات رقمية مسطحة وتُخزَّن في ذاكرة تاريخية. هل يا تُرى استطاع أحد منا أن "يتخيل" كيف انفجر ذلك الصاروخ واخترق جدار الغرفة لينقض على ذلك الجسد الغض ليبعثره أشلاء هنا هناك؟

أرجَعَ الفيلسوف الدانماركي سورين كيركيغارد- قبل مئة عام- أزمة "عصره" إلى حقيقة أن الذات البشرية باتت تفتقر إلى الالتزام الحماسي بالتفكير. فما عساه يقول لو كان حيًا يعيش معنا "حضارة الصور" التي غدا فيها المجتمع الحديث محاصرًا بصورٍ يتم إنتاجها ونسخها على يد تكنولوجيا وسائل الإعلام بهدف تحويل العالم كله إلى صورة مسطحة تفتقد للبعد الرابع الأخلاقي.

من المستهجن حقًا أن يتحول وعينا التاريخي بالوجود الإنساني إلى مجرد محاكاة تستنسخ الصورة التي لم تعد تشير إلى ماهية حدثٍ حقيقي، ليصبح معها مجتمع الفُرجة أسير لعبةٍ لا تنتهي من التقليد والتكرار حتى تستحيل المأساة مشهدًا خوارزميًا نعود إليه استنسابيًا حسب الرغبة.

أستعير هنا من الفيلسوف الفرنسي الليتواني الأصل إيمانويل لِفيناس إشارته إلى أنه يمكن للصور الإعلامية أن تكون شاهدًا أخلاقيًا عندما تحدَّث عن التغطية التلفزيونية لموت فتاةٍ كولومبية غرقت عام 1986 في انهيار طيني. هذا صحيح، لكن الصورة نفسها تحتاج في المقام الأول والأخير إلى ضميرٍ أخلاقي، إلى تلك الصورة ببعدها الرابع بصفتها مسؤولية نتحمل تبعاتها بالمعنى الإنساني المشترك. لكن لِفيناس نفسه يقدم في مقالة نُشرت عام 1972 تحت عنوان "الأيديولوجي والمثالية" (Idéologie et idéalism)، وصفًا كارثيًا لما أسماه مجتمع التقليد والمحاكاة: 

بات العالم المعاصر للعلوم، والتكنولوجيا، والمتعة، يرى نفسه مُحاصرًا... ليس لأن كل شيءٍ أمسى مُباحًا، بفضل التكنولوجيا، بل لأن كل شيءٍ صار متشابهًا. فالمجهول يصبح من فوره معروفًا، والجديد عاديًا. لا شيء جديدًا تحت الشمس. إن الأزمة المكتوبة في سفر "الحكمة الجامعة" (Ecclesiastes) ليست نتاج الخطيئة، بل الملل. كل شيءٍ أصبح مغمورًا بالتشابه... 

ما يرمي إليه لِفيناس ليس سوى اتهام للوعي الإنساني عندما يتعود الصورة ليصبح مسطحًا مثلها، ويغدو المشهد مملًا على الرغم من مأساويته لينطبق علينا قول المتنبي: 

ما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ إذا استَوَت عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ

يقودني هذا الاقتباس إلى التساؤل كم مرة استعرضنا نشرات الأخبار وصور الدمار في غزة، والأكفان المصفوفة رتلًا وراء بعضها البعض، ومن ثم تناولنا عشاء دسمًا، وتابعنا مسلسلًا تلفزيونيًا، ثم ذهبنا إلى النوم؟ متى سنصحو من هذا السُبات الأخلاقي، وننتقل من مجتمع الفرجة إلى مجتمع الفعل؟ ألا تستحق تلك الطفلة وغيرها وغيرها منا، على الأقل، أن نطأطئ رؤوسنا خجلًا! 

*كاتب سوري.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.