}

غزة بين الإنكار والاعتراف العالميين

معتز دغيم 21 مارس 2024
هنا/الآن غزة بين الإنكار والاعتراف العالميين
متظاهرون في جلسة يدلي فيها بلينكن بشهادته (Getty)

في المشاهد التي وصلت من هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر يترسخّ الهلع الغربي بشكلٍ واضح من صورة مقاومة بأدوات بسيطة وطيران خارج حدود العزل والتهميش والقمع. هذا المشهد يعتبر تلخيصًا لكل ما يمكن أن يشكلَ رعبًا للعالم الغربي على وجه الخصوص، وهي صورة الوجه الملثم الذي يغير على الحضارة (حسب وجهة النظر الغربية). فإذا ما قمنا بتركيب عناصر الصورة فإننا نجد أنّه لدينا عدّة تركيبات متداخلة مع نفسية الإنسان الغربي، وتتماشى ضمنيًا مع ما زرعته النظم الإعلامية والسياسية والأكاديمية في مخياله في الصندوق المخصص للهلاوس والخيالات، وهنا نرى بأنّ عناصر الصورة المختلفة هي: حفلة موسيقية/ عطلة/ مستوطنات على أطراف مدينة سجينة ومسوّرة يعيش فيها بشرٌ محاصرون/ ملثمّون مظليون يقفزون عن الأسوار ويحتلّون الشوارع. وهو ما قاد عالم النفس الإكلينيكي جوردان بيترسون إلى الصراخ عبر منصّة X مناشدًا نتنياهو بفتح أبواب الجحيم على غزة. أمّا قادة العالم الغربي والوسائل الإعلامية فلم يتوانوا عن مهاجمة الفلسطينيين وتشويه صورتهم وإبراز إسرائيل على أنّها الضحية كالمعتاد، وبالتالي فإنّ ما قاد التفكير الغربي في هذه اللحظة هي ردّة الفعل تجاه الصورة المغروسة في اللاوعي التي تجسدت على أرض الواقع في غفلةٍ من الزمن.

في لحظاتٍ كهذه يقوم الغرب بوضع مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عن النفس، واتفاقية حقوق الطفل، في الأدراج، ويقومون بإخراج المبادئ الأخرى من ذات الدرج. وفي لحظةٍ كهذه يدرك الإنسان أنّه لم يتقدّم العالم بما يكفي بما يخص حقوق الإنسان والعدالة بين سكّان الأرض، وإنّما ما أن يخرج المهمّش من مناطق تهميشه، أو عند أوّل محاولة إثبات وجود يقوم بها الإنسان المقهور، يعود العالم منقسمًا كما كان عند الحروب الصليبية، ونجد بأنّ مبادئ الحريّة والكرامة والدفاع عن النفس مقتصّرةً على جماعة دون غيرهم وهي ممارسة عملية لما يسمّى بـ عبء الرجل الأبيض.

اليسار هو يسار الإنسان الغربي المتفوّق ولا يشمل أي فرد قد تتعارض مصالحه مع مصالح السياسة الغربية، لا بل ويمكنُ أن تتخذ هذه الأحزاب اليسارية مواقف رسمية تشبه مواقف أي حزب غربي راديكالي يميني فيما يخص قضايا الشرق الأوسط.

كلّما رفعت غزّة رأسها يظهر الشرخ واضحًا بين العوالم في العالم الواحد، وتصبح المبادئ الغربية مجرّد إطار لجسمٍ خاوٍ ومترهّلٍ وقديم، يدعم القوى المتطرفة في العالم، ويناقض نفسه في اللحظة الواحدة آلاف المرّات، فمقاومة المحتل في بقعةٍ جغرافية معيّنة تسمّى بطولة وفي بقاعٍ أخرى تسمّى إرهابًا. ولم تعد الشعوب الأخرى أو الشعوب التي يتم تهميش وجودها تعرف كيف تتعامل مع هذا التطبيق المتناقض للمفاهيم، ولا أحد يعرف أي مبدأ سيتمّ تبنّيه في هذه اللحظة السياسية من التاريخ وأي مبدأ سيتم إلقاؤه في سلّة المهملات. وهذا ما يمكن تسميته بشكلٍ واضح بسياسة الكيل بمكيالين، وتطبيقه على أرض الواقع يتلخّص بما يلي: مبادئنا لنا، ديمقراطيتنا لنا، وحقوق الإنسان تشملُ إنساننا فقط، أمّا الآخرون فيمكن وصفهم بالحيوانات على الملأ دون أن يعترض أحد!

إنّ سياسة الغرب الحالية لا تقتصر فقط على سحق وجود جماعات بشريّة كاملة، بل تقوم أيضًا على عدم السماح لهم بالصراخ، أو إثبات وجودهم، أو المطالبة بحقوقهم، وهذه السياسة تقوم على التهميش والعزل وإرهاق الأجيال المتعاقبة وسجنها في حدودٍ جغرافية مغلقة كما يحدث في غزة، ومطالبتهم بذات الوقت بالسكوت، وعدم المقاومة، أي بمعنى أدق مطالبتهم بالموت بصمتٍ تام، وهذا بالتأكيد نتيجة للانفصال عن الواقع الناتج عن الغرور والشعور بالسلطة المطلقة، وأي خدش لتلك السلطة يقابل بالعنجهية والإنكار.

ولكن إلى متى ستبقى الأمور على ما هي عليه؟ وإلى متى سيظلّ هذا الغرور وهذا الصلف مسيطرًا على مؤسسات الغرب السياسية التي تتعامل مع كلّ ما هو عام؟ ما هي المآلات والاحتمالات التي قد تمضي إليها المنطقة العربية؟ وهل هناك من فائدة من تقسيم الشعوب في العالم إلى شعوب شمال وشعوب جنوب؟ إنّ المعادلة الواضحة تقوم على أن التفوق الغربي لا يمكن أن يُقابل باحتجاج دون أن يتم سحقه أو سحق الشعوب التي قامت بالاحتجاج، وإنّ أيّة محاولة تقوم بها تلك الشعوب بهدف تحسين واقعها (كما حدث بالربيع العربي) تقابل بالتهميش والرفض التام، ويتم تفضيل المصالح والحسابات السياسية الواقعية والتي تخدم اللحظة الراهنة على حساب المستقبل. هل هناك من عاقل يمكن أن يتصوّر أن يتم حصار منطقة يعيش فيها 2.2 مليون إنسان لا بل ويتم حساب السعرات الحرارية لهم!! هل هناك من عقلانية في السياسة الغربية؟

والسؤال الأهم هل يوجد من يقبل أن يعيش حياةً كهذه الحياة، دون أن يعترض على الأقل؟! أين العقلانية مقابل مشاهد سياسة العقاب الجماعي وهي تطبّق على الهواء مباشرة؟ وإلى أين تمضي قوى الأمر الواقع بسورية ولبنان وفلسطين والعراق… إلخ؟ أين العقلانية في تصريحات الساسة الغربيين التي ترفض وجود الفلسطينيين أساسًا أو اعتبارهم مواطنين لهم أحلامهم وطموحاتهم في الاستقلال والحرية؟
وعلى الطرف المقابل حظيت غزة بتأييد عالمي كبير، وذلك نتيجة لصور الدماء والأشلاء التي خلفّتها آلة الحرب الاسرائيلية، وحتّى أن الكثيرين خارج المنطقة العربية قد عرفوا تفاصيل لم يكونوا يعرفونها من قبل عن وجود شعب على أرض فلسطين قبل أن تقوم دولةٌ مزعومة على أنقاضه، لولا هجوم السابع من أكتوبر ولولا ردّة الفعل الإسرائيلية الوحشية.

أمّا هذا التأييد فإنّه ما زال مقتصرًا بشكلٍ كبير على مكوّنات اليسار واليسار الراديكالي وأقليّات اجتماعية مهمشّة ونسبة لا بأس بها من يسار الوسط، وتلك المكونات  تعيش أساسًا غربة أيديولوجية وإنسانية في مجتمعاتٍ صناعية رأسمالية قاسية تسحق الفرد وروح الجماعة لديه، وبالتالي فقد كانت مظاهرات فلسطين تشكّل فضاءً لهذه المكوّنات السياسية والاجتماعية غير المنسجمة مع النظم الخطابية السائدة أو مع النظم السياسية أو الاجتماعية بشكلٍ أو بآخر للتعبير عن نفسها، وقد أظهرت الوقائع أنّ فلسطين تعتبر قضية مركزية ليس على الصعيدين العربي والإسلامي فحسب بل على الصعيد العالمي أيضًا، وذلك لأنّ لها نقاط التقاء مع مشاكل أخرى تنبع من سطوة علاقات القوّة، مثل مشاكل الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة. أتت حرب غزّة في فضاءٍ عالمي مشحون بالتساؤلات الوجودية والفلسفية، وخصوصًا وسطَ ما يمكنُ أن نسمّيه بالردّة الحضارية والمحاولات الحثيثة لإعادة إنتاج المفاهيم الأصولية والراديكالية بالإضافة إلى العدمية السياسية التي تتجلّى واضحةً في اختيارات الشعوب في الدول التي تحكمها النظم الديمقراطية. فكان الحراك الشعبي المتضامن مع غزّة له أبعاد أخرى رمزية تمثّل امتعاضًا عامًا من عواقب الرأسمالية والليبرالية الجديدة.

لقد حظيت القضية الفلسطينية باعتراف عالمي، ولكن في مقابل هذا الاعتراف مات عشرات الآلاف من الأبرياء، فيا لها من معادلة قاسية بمجرّد التفكير بها، خصوصًا بعد أن حُرِمَ الفلسطينيون على مدى عقودٍ طويلة حتّى من سردِ حكايتهم، ومن العودةِ إلى وطنهم، ومن التجمّع السياسي في الكثير من البلدان والعواصم، ومن أن يعيشوا أحرارًا وأن يتنقلّوا بحريّة في وطنهم. وبالرغم من ذلك فإنه من الجدير بالملاحظة أنّ الفجوة بين الشكل والمعنى في الديمقراطيات الغربية وفي الخطاب العربي اليومي تتسع أكثر فأكثر كلّما امتدّت الحرب!

*كاتب فلسطيني/ سوري/ سويدي.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.