}

هل بإمكان الصُّورة أن تصنع كاتبًا؟!

منير الإدريسي 15 مايو 2024
هنا/الآن هل بإمكان الصُّورة أن تصنع كاتبًا؟!
(Getty)
أدمنت عقولنا الصُّورة. اليوتيوب، ووسائل التواصل الاجتماعية كالفيسبوك، الإنستغرام، تويتر، تيك توك، تيليغرام، والقنوات كما المواقع الإخبارية، كلّها مليئة بصور وفيديوهات تتدفق بسيولة النّهر. من يستطيع أمام سطوة إغراء ما تراه العين الفضولية على سطح العالم أن يفتح كتابًا ويقرأ بالشّغف ذاته كأنه يدخل أعماقه ليرى السِّحر الكامن هناك؟ من يلتفت لفكرة، لكلمة، لقصيدة كدلو يُلقى إلى الداخل؟ من يحلم على دوزنة لحن لباخ أو لشوبان يُذكّره بمنزل في الأفق؟ من يحاور نفسه ويتأمّل؟ من يعيش ليحلم أحلام الشّعراء والفلاسفة بقوّة؟ من لديه القوّة لذلك؟!.

ليس ثمة غير الوهن. يُرى الوهن حتى في صور الكتّاب وهم يُوقِّعُونَ كتبًا لا يقرأها غيرهم. تُلمس النُّعومة الفائقة على بشرة الصور. الابتسامة الضرورية أمام لقطة الهاتف الذكيّ. السّعادة المتعمّدة أمام إنجاز بارد.

ليس للكلمة القوّة ذاتها التي للصّور. لا تُجسّد الكاتبَ فِكرتُهُ أكثر ممّا يُجسِّدُهُ حضوره في صورة وهو يقرأ نصّه الذي لا نتبيّن منه شيئًا. إن نصّه افتراضي وحضوره مؤكد. هذا هو عصر المجتمع الأدبي الجديد. إن صورة الكاتب هي ما يحقّق وجوده وربّما نجاحه الزّائف. تكفي مثلًا لقطة له وهو يجلس على كرسيّ في كل معرض دولي أو لقاء ثقافيّ، حتى يتكرّس. بل إن مخالطته لكتّاب أو أصحاب دور نشر ناجحين بمعيار الصّورة يجعله ناجحًا هو أيضًا، وبذلك تتشكّل بالعدوى زمرة من الصُّوَريّين الذين يقلبون المشهد الثقافي إلى حفلة للتّفاهة والخِفّة بالمعنى الكونديري للكلمة.

الصورة تلعب بالأذهان المنوّمة. لذلك فوسائل التواصل الاجتماعي هي الحقل الذي تنشط فيه وتُكسب أصحابها بعض الإمتياز الكاذب. تغدق عليهم طراوتها والجديّة المفترضة. درع الصورة يحمي هشاشة الكاتب. لذلك، صور كثيرة في لقاءات ثقافية مختلفة في وسعها ببعض الزّعم المبالغ فيه أن تعزّز الحضور وتضفي على الشّخص بعض الأهمية. مقابل الحضور الخافت للبعض الآخر في بواطن الكتب. هؤلاء الذين لا يحبّون الصورة ويمجّدون الكلمة يظلّون في الظل.

ليس ثمة كاتب بدون صورة، ولو متخيّلة. لكن الصورة التي تصنعها الكتابة غير صورته التي تُفبركها الصورة. فالأخيرة فارغة تُدرك ككل تلك الأشياء على سطح العالم دون أن يفضي ذلك إلى أيّ داخل أو عمق. يسوق لنا المشهد الثقافي هذه الحالة الفريدة من البهرجة؛ حتى التلفزيون يساهم وهو المغيّبُ عن إدراك عمق الكلمة في تلميع هذا السطح ببعض الطلاء البرّاق.

من جهة أخرى يختفي الكِتاب ولا يظهر إلاّ كغلاف، على السّطح. تتناسل عناوينه دون أن يوجد في الحقيقة. لا تفعل الكتب ما كانت تُحقِّقه سابقًا من تدوير للنّقاش وفتح آفاق جديدة في المعرفة. فنحن لا نخرج بأية أسئلة من مضمون الكتاب سواء أكان شعرًا أو رواية أو قصة أو نقدًا أو فكرًا. هل كفّت الكتب عن تزويدنا بهذا القلق الفنّي والمعرفي؟. لا أعتقد. لكن سوق التّفاهة والخفّة لا تتحمّل ثقل الأسئلة، لا تتحمّل أثر الكلمة أكثر ممّا تستعذبُ الصُّورة السّائلة.

نعيش حالة ثقافية سائلة، مائعة، أفعوانية، تلتفُّ حول نفسها إلى درجة الاختناق. يتكاثرُ الرديء ليخفي الجيّد. فالجيّد دائما هو الأقل ندرة. إنه يقبع خلف المشهد مع القراءة وليس مع الصورة. لكن من يقرأ؟ غالبًا تلك الأقليّة أيضًا. أمّا من ينظر ويرى فذلك هو ما بوسع الجميع.

الصورة فقط هي الدّليل على الحضور في المشهد الثقافي، الذي يُعبِّر عن نفسه بادِّعاء خادع على أنه الفعل الثقافيُّ. شتّان بينهما. تنطلي هذه الخدعة على النّاشط والنّاشر في الحقل الثقافي الذي لا يملك سؤالا في الثقافة أو المعرفة. لا خُطّة ولا وجهة أو مشروعًا تنويريًّا ولا رؤية مستقبليّة للأدب والفكر. بل منفعة ذاتية أو غرورًا ومصلحة خاصة. أو أنه بكل ما فيه من براءة، شخص بوعي بسيط وروح تقليدية مع محفظة ثقيلة. نادرًا ما سنصادفُ رجال الفعل الثقافي ونساءه الحقيقيّين. إذ غالبًا هم على الهامش. لا يعرفون كيف يمشون في هذا الكرنفال الاستعراضيّ الخفيف. لأنهم تعوّدوا على المشي في السّطور وما بينها. ذلك هو ما يرفع أفقًا ويبني ثقافة ويؤسِّسُ معرفة ويخطُّ جمالًا ويُوسِّعُ حلمًا ويَبقى بعد أفول المجاملات وانتهاء حفلة الصُّور.

يظلُّ الفعل الثقافي الحقيقيُّ على الهامش، إنه غير مسؤول عن هذه الضجّة. وسيتجنبها قدر الإمكان لصالح الكلمة. الهامش هو الإقامة السّعيدة للأقلية السّعيدة التي تكتب أو تفتح كتابًا بحثًا عن خلاص في الجمال والسؤال والمعرفة.

 

*شاعر وكاتب من المغرب.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.